الشاعر عبد الله الزيد: الساحة الشعرية السعودية لم تستوعب تجربة الحداثة

قال لـ «الشرق الأوسط»: الحزن تجربة تطهيرية وتعبير عن وصول العقل إلى حدوده القصوى

الشاعر عبد الله الزيد
TT

* إلى أي مدى أثرت بيئتك (قرية الداهنة) على إنتاجك الشعري؟

- البيئة الأولى، أو مدارج الصبا، أو مباهج الطفولة، تشكل أحد المنابع المهمة لتجارب الحياة التي يعبر عنها الشاعر، أو تشكل من جانب آخر الواحة الآمنة المطمئنة بقاموسها المذهل، التي تسافر إليها النفس والذات والخيال عندما تضيق الحياة بمآذق المعاناة وصلف المدينة، وبإقفار الوجود من الجدوى وبشح المعاني في تحولات العمر، مع التأكيد على أن عناصر الحياة لم تكن بدائية بمعناها المتردي، وإنما كانت حقيقية وصادقة وناصعة مثل روائح الجنة.

* هل انتقالك من قريتك الوديعة إلى صخب المدينة وضجيجها والحركة المتواصلة.. غير من اتجاهاتك وأدواتك الشعرية؟

- المسألة ليست بهذا الشكل ولا بهذه الجدلية المجدبة، وإنما اكتسبت الآلية الشعرية وطريقة الأداء نضجا وتطورا باتجاه التجديد، والإضافة والمعاصرة، وجرى توظيف جماليات القرية وتعقيدات المدينة في معمارية القصيدة وتقنية الشعرية داخلها.

* الشاهد.. يلحظ أن أشعارك الأخيرة تغلب عليها ثيمات العزلة والاغتراب وكذلك الحزن الشديد.. ما السبب في ذلك؟

- هي ليست مؤشرات عزلة واغتراب بقدر ما هي وضوح في قسمات التجربة الأساسية التي تتمحور في المعاناة والحزن الشديد من تشرذم الوطن العربي وتخلف الإنسان العربي تبعا لذلك، ثم هي تتمثل في انزياح كثير من ضبابية الغموض الشديد في طريقة الأداء عن صيغ التعبير والإفصاح، ذلك لأن مسألة الحزن والاغتراب، كما أشرت في سؤالك، إنما هي من التجارب النفسية القديمة لشعراء الرومانسية تجاوزتها تجارب القصيدة المعاصرة، أعني أن قضية الحزن والاغتراب ليست من القضايا أو التجارب المجدبة في اهتمامات الشعرية المعاصرة.

وأعتقد أن الحزن قضية إنسانية طبيعية، وتحديدا في المنطقة العربية التي عاشت كثيرا من الأزمات والنكسات والقمع والتراجع وضياع الهوية الحضارية والحقوق الإنسانية، ثم لا يمكن أن تتخيل إنسانا حقيقيا طبيعيا يدرك كنه وجوده من دون حزن.

الحزن في حد ذاته تجربة تطهيرية وتعبير عن وصول العقل إلى حدوده القصوى، ولكن الخلاف أو الاختلاف من حيث المبدأ هو أن يكون الحزن هو القضية الشعرية البحتة لدى الشاعر، إذ لا بد من وجود كيان شعري أكثر شمولية يكون فيه الحزن إحدى الزوايا البانورامية في الرؤية والتجربة.

* ما أكثر روافدك الثقافية التي استفدت منها في إنتاجك الشعري؟

- إذا أدرك الشاعر بوعي حاد روافده الإبداعية فقد خرج عن دائرة الشعرية إلى الدائرة البحثية، وذلك لأن كل ما تلقاه الشاعر منذ بداية إدراكه من معارف وتجارب ومعاناة هي روافد ذاتية، ثم لا بد أن ينسى الشاعر لحظات التلقي ولا بد أن تتحول كل روافده الثقافية إلى مواهب في داخله. ومن السذاجة والتسطيح بمكان أن يقول شاعر ما إنه يستند في تجربته إلى الكتاب الفلاني أو ذلك الشاعر أو تلك التجربة، إذ أن كل شيء في عملية التكوين هو جزء من شخصيته الثقافية والفنية.

* كانت لك تجربة ثرية في مجال الإعلام.. إلى أي مدى أفدت واستفدت منها في قضايا الثقافة والأدب؟

- إذا قدر لي الآن أن أستحضر معالم تكويني في الإبداع والثقافة، فإن باستطاعتي أن أقول: الشعر طعمي والكتابة لوني والإعلام رائحتي، فالذي أستحضره أن هذه المكونات ولدت معي، أعني أنها لم تظهر تباعا أو ترتب بعضها على بعض، وإنما وجدت نفسي وأنا أكتب الشعر وأسجل الخواطر والمواقف، ولذلك أزعم أن هذا التكوين متداخل ومتصل ومتناغم بشكل يصعب علي أن أحدد معه ما الفن الذي وظف الآخر لصالحه، لكن الذي أدركه بحق هو أني القاسم المشترك بينها.

* هناك من يرى أنك أقل جيل الثمانينات إبداعا على الرغم من كونك الإعلامي الوحيد في جيلك وعلى الرغم من ظهورك اليومي في الإذاعة والتلفزيون.. هل تتفق مع هذا القول ولماذا؟

- لا.. المسألة لا تأتي أو تقال بهذا الشكل أو بهذه الصيغة، وذلك لأن كل شاعر وكل مبدع هو عالم قائم بذاته وبلغته وبطريقته في التفكير والأداء وفي ثقافته، فليس من المعقول المقارنة بين المبدعين بأسلوب الأقل والأكثر والحسن والأفضل.. إلخ، وإنما لكل مبدع شخصيته المستقلة عن المبدعين الآخرين، وأنا أكن كل التقدير والاحترام والإعجاب بجميع زملائي من جيل الثمانينات، وكذلك لغيرهم من الشعراء والكتاب.. ولا أنكر هنا أن للنقد والنقاد المهمة الحقيقية في تقييم الكتاب والشعراء والمبدعين بعامة.

* في رأيك، ما أهمية الوعي الجاد بمهمة الشاعر الإبداعية وكيف يمكن أن نتلمس ذلك؟

- مهمة الشاعر الحقيقية هي أن يبدع وأن يكون له مشروع ثقافي يشتغل عليه وأن يشتغل هو على نفسه.. وإن من أن أكثر معوقات وجود الشاعر هو أن يتوقف عند مرحلة معينة أو أن يتنكر لمن سبقه، أو أن يقف من أي مشروع شعري جديد موقف الرافض المحارب لسبب أن لا يتفق مع توجهه ومرحلته. عندما يبدع الشاعر ويتفوق ويضيف ويرحب بتحولات المراحل بنقاء وجمال يكون قد قام ويقوم بمهمته على أجمل الوجوه وأكملها.

* كانت لك آراء نقدية لروايات الدكتور غازي القصيبي ودراسات نقدية في مقاربة لأعمال سامي مهدي.. حدثنا عن هذه التجربة؟

- في ما يتعلق بالوزير الأديب الراحل الدكتور غازي القصيبي، فأنا لا أملك إلا أن أذكره بالخير وأدعو له بمباهج النعيم، فما قام به من أدوار ثقافية واجتماعية وإدارية وإنسانية يجعل أي محلل يقف مشدوها أمام إنجازاته كافة، وما كتبته عنه قد أجد فرصة في مقبل الأيام أن أنشره بشكل أو بآخر. أما الشاعر سامي مهدي فيكفي أن أقول إنه الشاعر الحقيقي في مرحلته، وهي مرحلة ما بعد السياب والبياتي.. إنه الشاعر الجميل العذب الساحر الباهر الذي يجعلك تقف أمام أي نص له ذاهلا.. الكل يتمنى لو كتب ما كتب، فخذ مثلا قصيدته الموجعة جدا «بين التأمل والفعل».

* ما سر اهتمامك برصد الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية؟

- لا.. بعكس ذلك.. أنا مؤمن برؤية أدونيس التي تتمحور حول أن الفن بأنواعه هو الكتابة، غير أني مؤمن كذلك بالالتزام بما يقتضيه التوقيع على شروط اللعبة، ومن هنا فأنا أقول وأسجل دائما أن القصيدة غير النثر، وأن القصة غير القصيدة، لكن تبقى كلها كتابة.

* كان قد تم منحك جائزة محمد حسن عواد عن منجزك الشعري كاملا في وقت كنت تتحدث فيه عن تغييبك عن المشهد الشعري.. كيف تنظر إلى ذلك؟

- ما زلت أتحدث عن قضية التغييب ولكن ليس عني فقط، وإنما عن جيل الثمانينات بكامله.. الآن، وفي الصحافة الأدبية لا تجد أي اسم أو حضور لأي رمز من رموز الثمانينات سوى اسم أو اسمين لسبب أو لآخر..

أما مسألة جائزة الشاعر محمد حسن عواد فهي تختلف عما أقصده بكارثة التغييب، كما أنني أعتقد أن هذه الجائزة استثناء جميل في منظومة الاهتمامات الثقافية، وأنا أعتبرها خارج التصنيف أصلا من حيث الهدف والموضوع والطريقة والمسؤولية الثقافية.

* تعتبر من جيل القصيدة الحديثة بكل أبعادها.. هل وجدت فيها ما تشتهي قوله شعرا وإلى أي مدى أثبت هذا النوع من القصيد قدرته التعبيرية؟

- أستطيع أن أقول إنني وجدت في مرحلتي ما أصبو إليه تجربة وشعرا وحضورا، أما مسألة تقييم المرحلة فمن المؤكد أنها ليس مهمتي تحديدا.

* هل تعتقد أن الساحة المحلية استطاعت أن تستوعب تجربة الحداثة، ولماذا؟

- لا.. لم تستطع.. والأدلة على ذلك كثيرة وواضحة والقضية باختصار الأزمة الأزلية بين الثابت والمتحول.

* كنت تعتبر أن أدونيس مرجعا نوعيا واستثنائيا للحداثة، غير أن إشكاله الكبير وكارثته الثقافية حدثا في مرحلة ما بعد الحداثة؟ وهل تعتقد أنه خان مشروعه الفكري والشعري؟

- نعم.. لقد أفصحت عن رؤيتي بدقة وإتقان أشكرك عليه كثيرا.. صحيح أن مرحلة ما بعد الحداثة تشكل خيانة كبرى لمشروعه الثقافي الفكري والشعري، بل تشكل رد فعل بشع عن مسار التحولات الثقافية التي أسس لها أدونيس. وفي الوقت الذي عبرت فيه أنت عما أقصده أتذكر ما قام به محرر غير صادق في إحدى الصحف عندما قصد إلى الإثارة فنشر عنوانا عريضا على لساني شوه فيه الرؤية قال فيه: «أدونيس خائن!.. تصوّر!».

* ما أحدث إنتاجك الشعري؟

- أحدث إصداراتي، المجموعة الشعرية الكاملة الأولى الصادرة عن دار «المفردات» للنشر والتوزيع في الرياض، وتشتمل على دواويني الـ5 الأولى، وهي: «بكيتك نوارة الفأل سجّيتك جسد الوجد»، و«ما قاله البدء قبلي»، و«ما لم يقله بكاء التداعي»، و«أمد الدمع من عيني لبدء الريح»، و«مورق بالذي لا يكون»، بالإضافة إلى ديوانين جديدين، أولهما «ولو ألقى معاذيره»، وهذا صدر عن دار «المفردات» للنشر والتوزيع، وثانيهما ديوان بعنوان «لمقام أم الرخاء والشدة» صدر عن النادي الأدبي الثقافي في جدة.