طغاة يكتبون الشعر

كتاب يستعرض ويحلل نفسيا علاقتهم بالأدب

هتلر
TT

في السنة الثامنة بعد ميلاد المسيح، نفى قيصر روما أوغسطينوس، الشاعر العظيم، بوبليوس أوفيديوس ناسو (أوفيد) إلى جزيرة ألبا عقابا له على «خطأ» ارتكبه في كتابة قصيدة. والمؤلم في القصة أنها لا تتحدث عن اضطهاد الشعراء من قبل الطغاة، فهذه ممارسة قديمة قدم الشعر نفسه، لكن المحزن هو أن ينصب طاغية مثل أوغسطينوس نفسه «ناقدا» أدبيا «يكشف» أخطاء الشعراء. مات أوغسطينوس، وخلفه ابنه، لكن حكم النفي بقي قائما على أوفيد حتى مماته، بسبب عبقرية القيصر الأدبية الفذة.

ومن يتابع تاريخ «الطغاة ينظمون الشعر»، عبر صفحات الكتاب الذي يحمل نفس الاسم، فسيلاحظ أن قيصرا مثل نيرون، الذي «ألهب» روما بشعره وعزف قيثارته، لم يكن سوى مبتدئا قياسا بطاغية آخر مثل يوليوس قيصر، الذي نصب من نفسه شاعرا، قتل مليونا من شعب الغال. وطبيعي فإن التاريخ المعاصر لا يخلو من أمثال أخرى من الطغاة الشعراء، ما زلنا نعاني من «شاعرية» بعضهم حتى اليوم. أدولف هتلر وولعه بالمسرح الملحمي والتمثيل و«كفاحه»، الدوتشي موسوليني وشعره الملحمي المعروف، صدام حسين وكتاباته التي مجدها بعض متلقي صكوك النفط والبترودولار ومعمر القذافي وكتابه الأخضر الذي أشاد به «فيلسوف» فرنسي معروف.

قد يضحك المرء كثيرا وهو يشاهد فيلما هزليا عن هتلر، لكنه لن يضحك أخيرا وهو يشاهد عرضا لمسرحية «زبيبة والملك»، من تأليف «الأديب» صدام حسين. فالضحكة هنا تتحول إلى غصّة حينما يقارن المشاهد بعض وقائع العمل «الخيالي» بالواقع الدموي الذي يتستر عليه الطاغية. فالضحية هنا ليسوا شعراء الموائد والشعراء الصامتين، والشهداء منهم أيضا، وإنما الشعر بأكمله. فالقصة التي يسردها الطاغية تتحول إلى مأساة حقيقية حينما يقلد القاتل ضحاياه وينمسخ كاتبا خلاقا ينصب منصة الشعر على عظام ضحاياه.

الكاتبان كونستانتين كامينسكي والبريشت كوشوركة، من جامعة كونستانس الألمانية، انشغلا لسنوات كثيرة في تتبع علاقة الطغاة بالأدب، ونظم الشعر أساسا، وفي تحليل هذه العلاقة «الحميمة» بين الطغيان والشعر. صدر كتاب «الطغاة ينظمون الشعر» عن دار النشر في جامعة كونستانس في 325 من القطع المتوسط. وهو رحلة تاريخية، وتحليلية نفسية، لشخصية الطغاة، من نيرون إلى القذافي، وكيفية استخدامه الشعر في فرض نمط الحياة الذي يريده، والذي يتصوره.

والطغاة الذين تقمصوا الأدب ليسوا بالقليلين ومعظمهم ترك «أثرا» يخلد عقليته المريضة، حسب تحليل الكاتبين. ويتوصل الكاتبان، من تحليل بعض النصوص، إلى الخوض في عمق هذه العلاقة غير المنسجمة بين الدموية والثقافة التي يعرفها القاموس الألماني على أنها «هي مجموع النشاط الروحي والفني الخلاق للإنسان كتعبير عن أقصى تطور بلغته البشرية».

يشير الكاتبان في هذا المجال إلى كتاب مجهول نسبيا لمعمر القذافي نشره قبل 18 عاما من سقوطه بعنوان «الهروب إلى جهنم». يقول فيه: «الاستبداد الفردي هو أكثر أنواع الاستبداد سوءا، لأن الطاغية فرد أيضا وتمكن إزالته بسهولة، بل إن بإمكان أي شخص مجهول أن يزيله، في حين أن الاستبداد الجماهيري هو أكثر أنواع الاستبداد قسوة لأنه لا يتيح الفرصة لأي شخص الوقوف بوجه زوبعته الغاضبة وطاقته الخلاقة». ويرى الكاتبان أن «أديب ليبيا» جمع في كتابه الكثير من العقلانية، عندما يتعلق بالتنبؤ بمصيره الفاجع، والكثير من «الهراء» والتصورات «الخيالية» التي لا وجود لها على أرض واقع ليبيا حينما يتحدث عن قدرات الجماهير التي يقودها إلى جهنم.

يمسك الطغاة بزمام أنظمة سياسية معينة في ظروف أكثر ما تكون تقلبا لأنهم لا يستندون إلى حكم شرعي وانتخابات، وإنما إلى قاعدة انقلابية عسكرية. ولهذا فهم أحوج ما يكونون إلى بناء عالم خيالي مستقر، يوجد في عقولهم فقط، ويسند قاعدة حكمهم المهزوزة. وعلى هذا الأساس، فإنهم مجبرون على أن يكونوا «مبدعين» بالسليقة، يخلقون تاريخا لهم لا وجود له ويستمدون نتاجهم «الأدبي» منه. في ذات الوقت يضفون على النظام القائم، أو على الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب، أوصاف عالم خيالي لا وجود له إلا في خيالهم. ويشعر الطاغية الكاتب هنا بأنه قد أنتج عملا عظيما سيخلده التاريخ، وعن عالم نجم بالكامل من دواخله، بل إنه خلق شيئا من لاشيء.

هدف الطغاة، سواء كانوا يعرفون ذلك أو لا، هو توطيد حكمهم وتحويل كتاباتهم إلى مناهج دراسية تنشئ جيلا «يعيش» الواقع الذي خلقه «الكاتب» في كتبه ومقالاته وأبياته الشعرية. فهدف النتاج الأدبي للطاغية، ابتداءا بـ«كفاحي» وانتهاء بـ«الكتاب الأخضر»، حسب رأي الباحث الاجتماعي هاينر لومان، هو توطيد الحكم القائم على أسس لا ديمقراطية. لكن نتاج الطاغية الأدبي يفارق العقل بالتدريج، كلما نجح في توطيد حكمه. وكان النظام العشائري الذي أقامه القذافي أكثر ما في تصوراته «الأدبية» واقعية، في حين كانت «الجماهيرية العظمى»، التي خلقها لنفسه، أكبر خيالاته بعدا عن العقل.

علاقة الطغاة بالكتابة الملحمية تجلب نظر الكاتبين أيضا، لأنها توفر للطاغية إمكانيات واسعة للتمثل بالأساطير والأبطال. فالأساطير ليست نظريات، وهي عوالم وأمثلة لا تفيد في التنوير الجدلي، وإنما في تفسير الذات وفرضها على الواقع فقط. وبعض الأساطير تقترب في أذهان الجمهور من الحكايات في الكتب الدينية وتضفي بالتالي على الكاتب «ربانية» هو أحوج ما يكون إليها في صراعه من أجل البقاء.

نجد الطاغية لذلك يقف بالضد من كل الأفكار والأساليب الأدبية التي تتعارض مع نمط تفكيره ونمط كتابته. وسلاحه هنا هو الرقابة والحظر واختصار الأدب العالمي كل في أدبه فقط؛ فهم لن يسمحوا لأحد بتخريب العالم الخيالي القائم في خلايا دماغهم، ويبطشون بلا رحمة بمن يحاول معارضتهم. هذا يعني أنهم يحاربون الأديب الحقيقي في خياله أيضا، ويفرضون عليه نمط خيالهم.

باختصار، فإن فرض خيالهم المريض على الآخرين يستدعي الإرهاب، وهو سر تحول الطاغية إلى شاعر يوحد بين الإرهاب والإبداع. وحينما ينظم الطغاة شعرا، فإنهم لا ينتجون شعرا سيئا فقط، وإنما ينتجون آصرة تجمع الاستبدادي السياسي بالاستبداد الشعري أيضا. وربما أن العالم لا يفتقد إلى أمثلة عن تحول شعراء إلى طغاة شعريين. والطاغية لا يكتفي بفرض عنفه الجسدي على الشعراء، وإنما يفرض أيضا عنفه الشعري عليه.

صباح

«تفتحت الوردة

واشرأبت لتعانق البنفسجة

الزنبقة استيقظت

ومالت مع النسيم

وفوق السحب غنت القبرة

تغريدة مديح

في حين قال العندليب

بصوت ناعم:

ارفلي أيتها الأرض الحبيبة

بالزهور الباسمة في دولة الأيبيريين

وأنت أيها الجورجي، افعم بالمعرفة

وطنك بالسعادة».

(جوزيف ستالين)

الطبيعة الجميلة والدولة في تحالف طبيعي يعبر عن تداخل إرهاب الدولة والخيال في عقل ستالين. وانظروا كيف يبني جوزيف ستالين عالما جميلا على أنقاض عالمه المليء بالإعدامات والقتل والتعذيب والنفي السيبيري. ويقول كامينسكي وكوشوركه في كتابهما إن ستالين كتب ثلاثة كتب في حياته استخدم فيها أيضا الأساطير والقصص الخيالية لتفسير مفهومه في السياسية والقومية والأدب. بمعنى أنه استخدم الخيال لتزييف الواقع، وصور الحزب والدولة والمجتمع مجتمعين في ذاته الشكاكة.

كل الذين سخروا من أدب ستالين، أو من مفاهيمه السياسية، أعدموا أو نفوا إلى سيبيريا، كي يسود فهمه للتاريخ، وكي تحل أفكاره محل أفكار من سبقوه من المفكرين العظام. وفي شعره يندمج الخيال والإرهاب، والإدارة القسرية والشعر، في وحدة تليق بعوالم الطغاة الافتراضية. ويستشهد الكاتبان بمقطع كتبته الفيلسوفة الألمانية هانا ارنيدت، في كتابها المعروف «عناصر الاستبداد الشمولي»: «في لحظة معينة بالذات لا يعود إرهاب الدولة موجها ضد الأعداء، أو ضد الأصدقاء، وإنما موجه فقط لغرض إثبات (حقيقة) العوالم الخيالية التي خلقت بالضد من كل الواقع، وضد كل طرق التفكير المختلفة. والخيال الذي لا يسمحون لأحد بتدميره داخلهم يستدعي في الوقع تجسيد الإرهاب».