بيروت تقاوم انعكاسات الثورات لكن الخسائر تطاردها

جوائز عالمية ومهرجانات دولية على مدار العام

TT

أصرت بيروت طوال عام 2011 على أنها مستمرة في برنامجها الثقافي السنوي رغم الألم المحيط بها. للوهلة الأولى قد يبدو للمراقب أن بيروت لا تعبأ بمحيطها، فمهرجانات الصيف مثل تلك المخصصة للرقص والسينما والمسرح والغناء، سارت كما ينبغي لها.

لبنان هكذا هو حتى أثناء حربه الأهلية، وانفجاراته الدموية، كان يباهي بأنه لا يلغي مواعيده الثقافية. لكن نظرة في العمق تؤكد أن تأثير الثورات العربية الدموية لم يكن بالأمر الهين، وإن أنكر كثيرون. ففي السر يخبرك ناشرون كبار بأن إلغاء معرضي الكتب في القاهرة وتونس، وإقفال السوق الليبية واليمنية، كان له كبير التأثير على حركة النشر اللبنانية. «دار الآداب» لا تخفي أنها لم تنشر جديدا يذكر طوال العام، باستثناء عدد من الروايات بمناسبة «معرض بيروت للكتاب» في آخر السنة. وفي أحسن الأحوال يقول أحد الناشرين الكبار «طلعنا رأسا برأس»، أي بالكاد تمكنت داره من تفادي الخسارة من دون أي أرباح تذكر».

القراءة لم تكن أولوية هذه السنة، وأخبار الثورات سرقت القراء من كتبهم. وإذا علمنا أن قطاع الطباعة والنشر، هو من المجالات الصناعية الرئيسية في البلاد، فيمكننا تصور أن الخسارة ليست باليسيرة. لكن الناشرين يرفضون التباكي، ويقولون إن ليبيا بدأت تعود إلى نشاطها رويدا رويدا، وقد لا تتأخر مصر في اللحاق بها، وتونس لا بد أن تنهض سريعا. وبالمختصر فهم يتوقعون أن تغلق أسواق لتفتح أخرى في الفترة المقبلة وعليهم أن يتعايشوا لسنوات قليلة مقبلة مع وضع جديد.

ما عدا ذلك ثمة إيجابيات للثورات، يمكن التعويل عليها بالنسبة لبعض العاملين في المجال الثقافي، ومنها أن الدول الغربية المعنية بما يحدث رصدت مبالغ مغرية لصرفها على مشاريع ثقافية خاصة في دول الثورات، آملة في لعب دور ما بتمويل مشاريع ثقافية بالتعاون مع النخبة العربية، وهو أمر ما كان ليحدث في ظل أزمة مالية كبيرة تعصف بهذه الدول. وتقول الممثلة المسرحية حنان الحاج علي «إن هذه الجهات باتت تتصل بالمثقفين وتعرض عليهم تمويل مشاريعهم، وهذا أمر مستجد، لكن لا بد من التدقيق في هذه التمويلات، والتمعن في أهدافها».

وبعيدا عن تأثير الثورات، يمكننا القول إن الوسط اللبناني عاش عاما ثقافيا زاخرا، وللسنة الثانية على التوالي استمرت السينما اللبنانية في إصدار عدد من الأفلام، بعد عقم طال أجله، وشهدت الصالات فيلم «خلة وردة» للمخرج عادل سرحان الذي صور أحداثا حصلت أثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وفيلم «شارع أوفلان» الذي يمثل النضال الطلابي ضد الوجود السوري في لبنان، و«آسف ماما» للمخرج باسم كريستو و«365 يوم سعادة» لسعيد الماروق، إضافة إلى فيلم اعتبر الأول من نوعه عربيا لأنه ثلاثي الأبعاد للمخرج سليم الترك يحمل اسم «آخر فالنتين لي في بيروت». لكن الفيلم الأبرز الذي حصد عددا كبيرا من الجوائز العالمية والعربية، وبدا الأكثر جماهيرية من دون منازع، هو الفيلم الثاني لنادين لبكي «هلأ لوين». وكان آخر التكريمات للبكي عدد من جوائز مهرجان وهران السينمائي، حيث حاز الفيلم، إلى جانب الجائزة الكبرى وقيمتها 50 ألف دولار، جائزة أفضل ممثلة لكلود باز مصبع، وجائزة أفضل سيناريو لكتابه نادين لبكي ورودني حداد وجهاد حجيلي.

لكن اللافت هو تدخل الأمن العام أكثر من مرة لمنع أفلام، وهو ما اعتبر من الدلالات التي لا تبشر بخير. فقد تدخل الأمن العام لمنع أفلام كان قد سمح بها، لينسف بذلك أو يكاد «مهرجان الأفلام الممنوعة» الذي كانت تظن منظمته كوليت نوفل، أنها تنجو به من رقابة سبقت. كما أوقف مؤخرا فيلم «بيروت أوتيل» من إخراج دانيال عربيد، بحجة أنها لم تلتزم بقرار حذف مقاطع منه، لها علاقة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. لبنان كان على موعد هذه السنة مع جوائز أخرى غير تلك التي حازتها الأفلام، فقد نال مسلسل «شنكبوت» وهو الأول باللغة العربية على الإنترنت، جائزة «إيمي» العالمية في أبريل (نيسان) الماضي، بعد أن سجل زيارة ما يزيد على 40 ألف زائر على «يوتيوب».

ولمرة جديدة، سجل هذه السنة «مهرجان الرقص المعاصر» الذي ينظمه الراقص عمر راجح نجاحا شبابيا، وبات إحدى الظواهر التي يصعب تجاهلها في بيروت، لا بل في المنطقة، كونه ينتقل في أكثر من عاصمة عربية ويستضيف فرقا من مختلف أنحاء العالم، ويعد الأكبر من نوعه لهذا الفن الذي يظن أنه لا يزال هامشيا في العالم العربي.

وكانت السنة قد افتتحت باستضافة «مهرجان المسرح العربي» بعروض عربية مختلفة، قدمت في بيروت وطرابلس، كما شهد المسرح عروضا تجريبية عديدة، وقدم أولاد منصور تجربتهم الغنائية المسرحية الأولى من دون منصور الرحباني على مرفأ بيبلوس، بعمل حمل عنوان «دون كيشوت» من بطولة هبة طواجي ورفيق علي أحمد. هذه المغنية التي ستنطلق هذه السنة وبسرعة كواحد من أبرز الأصوات وأكثرها طواعية وصقلا على الساحة اللبنانية.

وإضافة إلى المعارض التشكيلية المتلاحقة والمتزامنة، التي شهدتها بيروت، كان «معرض مينارسات» الذي احتفى بالتشكيليين السعوديين جامعا أعمالا مميزة جدا لفنانين من الشرق الأوسط وشرق آسيا.

وكان من اللافت أن تمضي المهرجانات اللبنانية الصيفية قدما مستقدمة مشاهير في الموسيقى مثل جيمي كولوم، جورج بنسون، و«ثرتي سكندس تو مارس»، و«سكوربيونز». ومضى «مهرجان البستان» الموسيقي كما عادته، هذا غير «مهرجان كرافان» للأطفال ومهرجانات موسيقى الشباب. ولعل هذا العام كان عام تكريم الفنانة صباح بامتياز، حيث افتتحت «مهرجانات بيت الدين» بعمل قامت ببطولته رويدا عطية «تحية للأسطورة صباح» وعرضت فساتين أفلامها ومسرحياتها للجمهور، كما شهد العام عرض مسلسل يروي قصة حياتها. ومن طرائف هذا العام أن مجلس النواب اللبناني أقر عيدا جديدا أطلق عليه اسم «عيد الأبجدية» يحتفل به في السابع من مارس (آذار) كل سنة، تكريما لجد اللبنانيين «قدموس» الذي نشر الحرف في العالم، ومحاولة لتذكير المواطنين، من تلامذة وبالغين، بالدور المركزي الحضاري الذي لعبه لبنان في المنطقة جمعاء.

لكن الأحداث لم تكن كلها مفرحة. ففي نهاية السنة، فوجئ محبو المسرح بخبر إغلاق «مسرح بيروت»، أحد أقدم المسارح العاملة حاليا في العاصمة اللبنانية، وتحفز ناشطون لحماية المسرح المهدد، وأصدر وزير الثقافة غابي ليون بعد هذا التحرك قرارا يقضي بتصنيف المسرح معلما ثقافيا تاريخيا لا يجوز إشغاله لغير الغاية التي خصص لها.

معركة المسرح لم تنته، والناشطون يواصلون التحرك للتأكد من تطبيق القرار على النحو الذي يحفظ ذاكرة المدينة ومسرحها، والعام المقبل سيحمل الجواب الشافي. هل يبقى لبيروت مسرحها؟ وبأي صيغة سيستمر إن تم إنقاذه بالفعل؟