الربيع العربي أهم حدث ثقافي

TT

يكشف استفتاء «الشرق الأوسط» حول أهم الأحداث الثقافية عام 2011 عن حيرة المثقف العربي أمام الزلزال الذي يجتاح العرب. فهذا المثقف، كغيره من البشر، يبدو وكأنه أخذ على حين غرة بقوة هذا الزلزال وما يحدثه من عملية هدم هائلة لبنى ثقافية تصورناها راسخة لكثرة مكوثها في الأرض.. وها نحن نشاهدها تتهاوى أمام أعيننا في أكثر من مكان.

الربيع العربي هو حدث ثقافي، بالمعنى الأوسع للكلمة. فالهدف الأبعد هو ليس إزاحة هذا الحاكم أو ذاك، أو استبدال نظام حكم بغيره، وإنما تهديم قيم اجتماعية وثقافية راكمت عناصرها بالضرورة الأنظمة الحاكمة على مدى أكثر من نصف قرن، وفي مقدمتها تحويل الفرد من قيمة إنسانية كبرى إلى مجرد كائن هلامي بلا ملامح سوى ملامح القهر والخوف حتى من نفسه. لقد تحول الخضوع إلى قيمة ثقافية واجتماعية، تنخر في أجساد المجتمعات العربية، حتى كأنما استبطنتها، وأصبحت جزءا من وعيها الباطن. وعلى هذا الأساس، بنى الطغاة هالاتهم المزيفة، وأوصلوها إلى مصاف المقدس الذي لا يمكن المساس به. وهكذا تحولنا، حتى في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، إلى بشر معوقين، بانتظار قرارات من فوق تحدد لنا مصائرنا، وطريقة معيشتنا، وتشكل وجداننا وعقولنا حسب مقاسات أولئك الذين فقدوا سماتهم الإنسانية الطبيعية ما أن نقلتهم الصدف العمياء من مستوى الأرض البسيط إلى مستوى الكرسي المركب. ولأن الديكتاتور لا يمكن أن يكون ديكتاتورا، ولا أن يستمتع بهذه الصفة استمتاعا مرضيا من دون أن يسمع ليل نهار من يردد له ذلك، كان لا بد من «إيجاد الشبيحة الثقافية». هكذا فعل الطغاة في كل زمان ومكان. وللأسف، كانت حصة الثقافة العربية كبيرة من هؤلاء الشبيحة، الذين نجحوا في قبر ضمائرهم الثقافية في أعماق دواخلهم، واستبدلوا بالتنظير لقيم الجمال والحق تسبيحا ثقافيا بحق هذا الطاغية أو ذاك. حدث هذا في العراق ومصر وليبيا، ويحدث الآن في سوريا. ونأمل أن يكون ذلك نهاية المطاف.

لقد نجح الربيع العربي، ليس فقط في كشف الطغاة أمام أعيننا وهم عراة تماما، وبائسين ولا بؤس الأطفال، وليس فقط لأنه عرى مثقفيه، سواء بسبب الارتزاق أو الوعي الزائف، وفضح هزالة خطابهم الثقافي والإعلامي، وإنما، وهذا الأهم، أنه خلخل، إذا لم نقل زلزل، كل قيمنا الاجتماعية والثقافية، ووضع كل مفردات حياتنا أمام مفترق كبير، ربما للمرة الأولى في تاريخنا، من خلال التأكيد على القيمة الكبرى، التي لا ترتفع فوقها قيمة: الحرية. وهي قيمة لا يمكن لأي ثقافة حقيقية أن تزدهر من دونها. ومهما كان مآل الربيع العربي، فأعتقد أن المواطن قد اكتسب هذه القيمة إلى الأبد، ولو على المستوى الرمزي الذي قد يتحول إلى واقع ما مع تراكمه والنضال من أجل تحقيقه. تاريخنا انقسم الآن إلى «ما قبل» و«ما بعد»، وهذا في اعتقادنا هو الثيمة الكبرى التي ستهيمن على كل النتاج المعرفي العربي في القادم من الزمن.

من هنا، فالربيع العربي هو فعل ثقافي بامتياز.