ليبيا وافتضاح أكذوبة «المثقف الملتزم»

مثقفون سوريون لم يسمحوا له بإقحام أنفه في الثورة السورية

برنارد ليفي
TT

هل عجزت الثقافة الفرنسية الراكدة، اليوم، عن التجدد؟ وهل للأمر علاقة بكون الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي من أقل الرؤساء الفرنسيين ثقافة، وأكثرهم تمجيدا لثقافة المال ومصاحبة أصحابه؟ لعل ثمة علاقة ما! وإلا فما الذي يفسر انضمام جوقة كبيرة من مثقفي فرنسا وكتابها إلى حملته الانتخابية السابقة، بعد أن كانت الثقافة في فرنسا عموما تتجه يسارا، مما فسر لنا في السابق اضطرار كُتّاب وفلاسفة يمينيين أو من أصحاب التوجه المسيحي إلى للهجرة إلى أميركا، ومن بينهم بول ريكور وريمون أرون وغيرهما؟!

الثقافة الفرنسية لم تعد تصدر كثيرا من الأسماء والكتب إلى الخارج، ولم تعد تصدّر المصطلحات والمفاهيم، كما كانت تفعل. وحتى حائزو جوائزها الأدبية لا يحققون مبيعات كبيرة خارج فرنسا، ومستعمراتها السابقة، بل وأصبح الكِتاب الأجنبي، وخصوصا الأميركي، هو الرائج، في بلد كان يدعي، ولا يزال، أن الثقافة هي «القلعة» الأخيرة في مواجهة الأمركة الزاحفة في كل الميادين!

لقد مضى زمن كان فيه الأدب والفلسفة الفرنسيان يحتلان مكانة مرموقة في العالم، من سارتر إلى فوكو إلى جون جونيه إلى جيل دولوز وديريدا إلى بول ريكور وغيرهم، لم تعد فرنسا تصدر من الأسماء الوازنة سوى القليل، من بينهم ميشيل سير وإدغار موران.

وقد أصاب البيات الشتوي مختلف نواحي الثقافة الفرنسية، فحتى البرامج الثقافية التي كانت تفتخر بها فرنسا، انسجاما مع استثنائية الثقافة وتميزها، من «أبوستروف» و«فول دي نوي» وغيرهما، غرقت في استسهال وتخريب للثقافة، بل وحتى برنامج «ce soir ou jamais» لصاحبه فريديريك تاديي، الذي كان يقاوم ويمنح فرصة الحديث لمن لا صوت لهم، اضطر بسبب ضغوط قوية، ليس الإليزيه غريبا عنها، إلى أن يصبح أسبوعيا، بعد أن كان يبث 4 مرات في الأسبوع.

على الفرنسيين أن يعبروا عن سخطهم على الحالة التي وصلت إليها الثقافة الفرنسية، ليس فقط بسبب شراسة الأمركة، بل وبسبب سيادة نخبة حاكمة تمقت الثقافة وتستعيض عنها بثقافة الترويح عن النفس واللهو، وهي ثقافة الساعات الباذخة وبلينغ بلينغ.

وهذه الدعوة إلى التعبير عن السّخط والتذمر «عبروا عن سخطكم»، صادرة عن الدبلوماسي والكاتب ستيفان هيسل، الفائز بجائزة ميشكين 2012 عن مجمل أعماله، الذي جاء كتابه، الأكثر مبيعا في فرنسا، يستنهض الروح الفرنسية في التمرد وفي الإبداع، والذي أسهم في قيام عدة حركات شبابية بالتظاهر في عواصم أوروبية، لكنها كانت دون «الربيع العربي». أصبحت الثقافة الفرنسية، بالفعل، تثير الرثاء، إذ اضطر وزير الثقافة الفرنسية، فريديريك ميتران، بسبب ضغوط سياسية، لإلغاء الاحتفالات بمرور قرن على ولادة واحد من أهم روائيي فرنسا في القرن العشرين، فيرديناند سيلين. ولم يُسمح بإطلاق اسم صاحب «سفر في آخر الليل»، على أي شارع ولا زنقة ولا مدرسة في فرنسا، على الرغم من كونه من الذين أسهموا في انتشار إشعاع الثقافة واللغة الفرنسيتين في العالم. وكأن ليل سيلين الطويل يأبى أن ينجلي!

ليست مأساة فيرديناند سيلين، فقط، ما يكشف بؤس الثقافة الحالي في فرنسا، بل وحتى تنطع بعض مثقفيها لتسويق مفاهيم كانت رائجة وفعّالة في زمن مضى وانقضى، بطرق انتهازية وانتقائية، أسهم في رسم هذه الصورة الملهاة/ المأساة. يبرر برنار هنري ليفي سفرياته إلى ليبيا، أثناء اشتداد الثورة على العقيد، بمفهوم الالتزام السارتري، ولكنه يعترف، في نهاية الأمر، أن جهوده كانت لصالح إسرائيل ونتنياهو. وحسنا فعل مثقفون سوريون بمنعه من إقحام أنفه في الانتفاضة السورية، حين يتحدث ليفي عن القضية الفلسطينية؛ لا يتوقف عن التصريح بأنه كان على الدوام من أنصار الدولة الفلسطينية. وعن سبب رفضه لانضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة، يقول إن أبو مازن ألف قبل أربعين سنة أطروحة تنكر المحرقة، ولا يخفي معارضته الشديدة لاشتراط الفلسطينيين وقف الاستيطان لبدء التفاوض، معتبرا إياه موضوعا للمفاوضات المستقبلية، أي بعد أن يتم تهويد معظم أراضي فلسطين 1967.

وإذا أضفنا إلى هذه الحالة، القرارات التي لا يتورع عن استخدامها وزير الداخلية الفرنسي الجديد، غيان، وهو أكثر وزراء الداخلية تهجما على الأجنبي والغريب (في حين أن فلسفة بول ريكور قائمة على استضافة الغريب والتقرب إليه وفهمه!)، التي تمس الطلبة (أي مستقبل البحث في فرنسا!) وغيرهم، فإننا نجد أن مفهوم «الضيافة» الفرنسي، الذي تبنته اللغة الفرنسية، من البداية، بصدد التقلص والتحول إلى احتراس وقلق من الآخر.

لعل هذه الفترة من الخمول عارضة، ولعل فرنسا، بعد الانتخابات القريبة (التي ستشهد تعريضا بالأجانب وتهجما على الإسلام ومخاطره المحتملة، كما تعودنا!)، تعود إلى سابق عهدها في الانفتاح؛ فليس من ثقافة حقيقية إلا إذا كانت هجينة وخلاسية ومنفتحة على الآخر، بصيغة الجمع.