أميركا تصنع أمزجة الشعوب عام 2012

منتوجات شركاتها التكنولوجية العملاقة لا تزال ساحرة

TT

عام جديد آخر، ستكون أميركا ذات تأثير استثنائي على ثقافات شعوب الأرض. وإذا كان الكلام في الأعوام السابقة قد انصب على الموسيقى وما تنتجه هوليوود، وما يخرج من المكتبات، فإن الأهمية القصوى في السنوات المقبلة ستكون منصبة على نشاطات الشركات التكنولوجية الأميركية التي باتت ذات تأثير سحري على سلوك البشر. مثل «غوغل»، «أبل»، وفيس بوك.

ستبقى أميركا في العام المقبل هي البلد الأكثر تأثيرا على ثقافات الشعوب، ليس فقط بأفلامها ومسلسلاتها وكتبها وكذلك تقليعاتها الغنائية، ولكن بشكل خاص بسبب ما ستسجله شركاتها التكنولوجية من تطور وتمدد، وما ستلقاه من إعجاب، وانتشار.

قال كتاب «إنفورميشن»، (معلومات) الذي صدر في العام الماضي، صارت الثقافة والتكنولوجيا تؤثران على بعضهما البعض. زادت التكنولوجيا نشر الثقافة، وتأثرت الثقافة بالتكنولوجيا. مثل إشارة الكتاب إلى أن الهدوء الأميركي المعروف في المزاج، زادت نسبته، خلال السنوات القليلة الماضية بسبب «آي فون» و«آي بود»، حيث صار كل أميركي تقريبا «يتكلم مع نفسه»، (يقصد الكلام في التليفون والناس يمشون، ويأكلون، وحتى عندما يتكلمون مع بعضهم البعض).

لهذا، فإن التقدم التكنولوجي سيكون جزءا من النشاط الثقافي كما كان العام الماضي: «آي باد» الذي تنتجه شركة «أبل»، «جلاكاسي» الذي تنتجه شركة «سامسونغ»، «كنديل فايار» الذي تنتجه شركة «أمازون»، وغيرها.

هل تنتشر الثقافة الأميركية بنفس سرعة انتشار التكنولوجيا الأميركية؟ الإجابة أن الارتباط قوي بين الاثنين. وصار الملايين حول العالم يشاهدون في «آي فون»، (التليفون الذكي) الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التلفزيونية الأميركية، ويقرأون آخر الكتب الأميركية، ويستخدمون آخر تقليعات الألعاب، ويقضون وقتهم برفقتها.

شركات مثل «أبل» و«غوغل» الأميركيتين صنعت وستبقى تصنع خلال العام المقبل تغيرات جذرية في عادات الناس، لا سيما الشبان منهم. والأمر من المتوقع أن يستمر عام 2012. بعد شراء «غوغل» لـ«موتورولا» وسعيها لإطلاق هاتفها الذكي، لا بل وتسعى لمنافسة «آي باد 3». كما تسعى شركة أكبر وأنجح محرك بحث في العالم لإطلاق خدمة تلفزيونية ستكون ثورة جديدة في عالم الإنترنت، بعد أن حققت أرباحا صافية تقارب سبعة مليارات دولار عام 2010. ولن تتوقف غوغل عن طموحها الأرشيفي الذي بات يتدحرج وحده، في مجموعة مشاريع، لكل منها هدفه المحدود لكنها في النهاية، تتمكن من تشكيل موسوعة معلوماتية عالمية، تشمل الكتب والأفلام، وصور الأرض، إضافة إلى كل ما يسجله البشر على الشبكة، حتى قيل إن «غوغل» باتت قادرة على إحصاء أنفاس الخليقة، وإنها الجهة الأقدر على تحديد وكشف ما يحدث على الأراضي السورية، بسبب قدرتها على تصوير تفاصيل دقيقة في المدن التي فيها مظاهرات واحتجاجات.

أما «فيس بوك» الذي يقال إنه لعب دورا جوهريا، في جمع المحتجين والغاضبين العرب على موقع واحد وسهل لقاءهم، وخروجهم إلى الشوارع، فإن عدد المنضمين إلى هذا الموقع سيتجاوز المليار هذه السنة، أي أنه سيجمع سبع سكان الأرض ويسهل تواصلهم بكبسة زر. أما «مايكروسوفت» فستعلن عن ويندوز 8 خلال العام المقبل الذي تعد جمهورها بأنه سيحمل تغييرات مهمة.

وإذا كان ثمة من يشك بأن التكنولوجيا، تغير ثقافة الناس ورغباتهم وحتى طبيعة سلوكهم، فإن دراسة حديثة أكدت أن الشبان ما بين عمر 13 إلى 16 سنة، يلجأون بشكل متصاعد إلى تبادل الرسائل على هواتفهم بدلا من التحدث مع بعضهم البعض، بفضل التسهيلات التي تقدمها التليفونات الذكية التي تجعلهم على تواصل مباشر مع بعضهم البعض. وهذه الظاهرة، أي استبدال المكالمات بالرسائل التي تطورت مع «آي فون» يفترض أن تتزايد في العام المقبل، بسبب التطبيقات الممتازة التي زودت بها الأجهزة الجديدة.

الكتب الأميركية لن تكون أقل تأثيرا العام المقبل. ففي السنة المنتهية، أصدر وولتر إيساقصون، رئيس تحرير سابق لمجلة «تايم» كتاب «ستيف جوبز». وهو عن المبدع التكنولوجي الذي وصف بأنه أهم مخترع أميركي بعد أديسون (مخترع الكهرباء) وفورد (مخترع السيارة).

وفي الأسبوع الماضي، أعلنت دار نشر «سايمون آند شوستر» في نيويورك أنها وقعت على عقود لترجمة الكتاب إلى أكثر من عشرين لغة، وأنها تتوقع مزيدا من العقود لمزيد من اللغات.

ويمكن اعتبار الكتاب واحدا من أهم الإسهامات الثقافية الأميركية خلال السنة المنتهية التي سيبقى أثرها مستمرا. ورغم أن جوبز مخترع رائد، انتقد لتصرفات شخصية مثل: استعلاء، وتوتر مزاج، وجفوة في التعامل مع مستخدميه. لكنه، لسبب ما، فتح قلبه للصافي إيساقصون. وجاء الكتاب ربما صورة طبق الأصل من صاحبه: رائع وغير مريح. لكن، كما قال مؤلف الكتاب: «دين علينا أن نفهم هذا الرجل».

في نفس الوقت، قالت دار نشر «نوف» في نيويورك أنها، هي الأخرى، وقعت على اتفاقيات لترجمة كتاب «1493». هذا كتاب عن اكتشاف أميركا، ورغم أن الموضوع قديم جدا، وقتل بحثا تقريبا، يهتم الكتاب بجوانب إنسانية، ويحاول تحاشي الحروب والاقتتال الذي شهدته الدنيا الجديدة (وربما حتى اليوم). يهتم الكتاب بجوانب إنسانية وثقافية، مثل الحيوانات والنباتات التي لم يكن العالم القديم يعرفها. ومثل التبادل الروحي (رغم أن الكتاب لا يخفى تفوق المسيحية على أديان سكان الدنيا الجديدة الأصليين).

كتاب آخر ربما سيجد نصيبه من الترجمة إلى لغات أخرى، هو «إنفيرنو»، (الجحيم). وهو عن الحرب العالمية الثانية. ومثل كتب سابقه، حاول عدم تكرار أشياء قتلت بحثا، وركز على الجوانب الإنسانية. تمثلت هذه في جمع خطابات شخصية أرسلها المحاربون إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وأيضا ذكريات ومذكرات، وحتى مفكرات يومية وجدت في جيوب بعض الجنود القتلى. ومن دون إشارات مباشرة إلى حروب اليوم، يركز الكتاب على قساوة الحرب، وأنها أبدا ليست «قطعة كيك»، (وصف مسؤولين أميركيين دعوا لغزو العراق قبيل سنة 2003).

ويمكن اعتبار كتاب «إنفورميشن»، (معلومات) مثالا على تفوق الثقافة الأميركية بسبب التطور العلمي والتكنولوجي. وذلك لأنه يقول إن الثقافة الأميركية اشتهرت وانتشرت بسبب كلمة «إنفورميشن»، (معلومات)، وإن المجتمع الأميركي، حتى قبل التقدم التكنولوجي خلال الثلاثين سنة الأخيرة، كان (ولا يزال)، «إنفورميشن سوسيتي»، (مجتمع معلومات)، وإن وصف «إنفورميشن تكنولوجي»، (تكنولوجيا المعلومات) ليس صدفة. ونظرية الكتاب هي أن الثقافات تتفوق ليس بسبب كثرة الجدل فيها، أو الفخر بها، أو حتى نشرها بالقوة، ولكن بسبب كثرة المعلومات التي تقدمها.

بالإضافة إلى الكتب الأميركية الجديدة، هناك الأغاني الأميركية الجديدة، وطبعا، في عصر الإنترنت، لا تحتاج هذه إلى عقود ترجمة أو نشر أو توزيع. وكثير منها ينتشر حول العالم بمجرد ظهوره في أميركا. ويبدو أن العام الماضي كان عام «كينيا ويست» و«جاي زي» و«إليشيا كايز»، ثلاثة من كبار مغني الهيب هوب. نجحت أغاني السود الهيب هوب لأنها تركز على سنوات الظلم التي تعرض لها الزنوج الأميركيون، وتدعو الزنوج ليفتخروا بأنفسهم وبلونهم، وطبعا بأغانيهم.

ومرة أخرى، بسبب الإنترنت والعولمة، يكاد الستار الذي يفصل الغناء الأميركي عن غير الأميركي يختفي. مثلا، خلال العام اشتهر البوم البريطاني «بي جي هارفي». وخاصة «لتهتز بريطانيا». وربما أحبه الأميركيون لأنه يشير إلى كوارث الحرب العالمية الثانية (ربما، أيضا، نفور نفسي من الحروب التي أعلنتها أميركا بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول). وهناك أغاني البريطانية أديل أتكنز التي فازت بجوائز أميركية خلال العام الماضي. وقال معلقون فنيون أميركيون، إن أغانيها الروحية وجدت أصداء إيجابية في قلوب الأميركيين، خلال عام زادت فيه المشاكل الاقتصادية وغيرها.

وهناك ظاهرة جديدة في فيديوهات أغاني السنة الماضية، وهي الخلط بين الغناء والمسرح والأفلام، في شيء يشبه تشكيلة ثقافية كاملة، وهو ما يتوقع أن يستمر كتقليعة تنتشر عالميا العام المقبل. مثال على هذا البوم فرانك أوشان، واحد من مغني هيب هوب، وهو من البيض القلائل. في الألبوم خليط من كلمات كتبها هو، ومن أغنية قديمة مشهورة «هوتيل كاليفورنيا»، ومن فيلم تمثل فيه نيكول كيدمان. وقال نقاد فنيون أميركيون إن هذه ربما ستكون أغاني المستقبل.

ويبدو أن العولمة أثرت أيضا على مسارح برودواي في نيويورك. واحدة من أشهر مسرحيات السنة الماضية هي «وور هورس»، (حصان الحرب) البريطانية عن طفل بريطاني وحصانه خلال الحرب العالمية الأولى. ومسرحية «جينغليش»، (إنجليزي صيني) عن أميركي يعيش في الصين. ومسرحية «ديث هوليدي»، (إجازة الموت)، عن جولة إنسانية ولطيفة ومرحة حول العالم بهدف التركيز على الإيجابيات التي تربط بين الناس. (ربما، أيضا، علاج نفسي للأميركيين بسب الحروب التي أعلنوها منذ هجوم 11 سبتمبر).

وفي مجال الأفلام السينمائية، يظهر أيضا تركيز على الحياة المرحة (لا القاسية). مثل فيلم «أرتست» (فنان). ومثل أعمال ثقافية سابقة، أيضا أثرت عليه العولمة، وذلك لأنه، في الحقيقة، فيلم فرنسي أنتج في هوليوود. ويظهر التركيز على الإنسانيات والقلوب العطوفة في فيلم «هوغو»، عن طفل يتيم. وهناك فيلم «وور هورس»، (حصان الحرب)، عن نفس موضوع المسرحية التي عرضت في شارع برودواي في نيويورك. وإذا كان فيلم «هوغو» عن طفل يتيم فإن «وور هورس» عن طفل يحب حصانه. والاثنان يصوران ميولا واضحة نحو ما يمكن أن يسمى الثقافة الإنسانية.

غير أن المسلسلات التلفزيونية، بسبب كثرتها، هي أكبر دليل على تنوع الثقافة الأميركية وقدرتها على الاختراق. لأنها طازجة (أحيانا تسجل كل أسبوع)، تقدر على معالجة قضايا أميركية ثقافية معاصرة مثل مسلسل «لوي» الاجتماعي عن قضايا مثل: الموت، الحرب، الجنس، المثلية، الطلاق. وليس معروفا بعد إذا كان سوف يغزو العالم، وذلك بسبب مناظر عري وجنس، وكلمات غير أخلاقية، وربما، بسبب اختلاف الثقافات، لن يقدر منتجو المسلسل على عرضه في دول كثيرة. وربما تمكنوا من ذلك.

غير أن ما هو أكيد، ولا جدال فيه أن الشركات الأميركية المعنية بالتكنولوجيا ستكون من بين الأكثر تأثيرا على ثقافات الشعوب، لا بل وأمزجتهم، لعام واحد إضافي على أقل تقدير.