«الاستثنائية الأميركية» تعصف بها العولمة

مصطلح مهذب يعني أن أميركا أحسن دولة في العالم

TT

الحديث عن «الاستثنائية الأميركية» قديم جدا، لكن أصحاب هذه المقولة من محافظين أو ليبراليين منفتحين، يجدون أنفسهم اليوم أمام واقع جديد يهدد نظريتهم الأثيرة. هل لا تزال أميركا استثناء في عالم تتغير ملامحه بسرعة مذهلة؟

* خلال آخر مناظرة تلفزيونية لمرشحي الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية، الذين سيختار مؤتمر الحزب العام في الصيف واحدا منهم لينافس الرئيس باراك أوباما في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) تكررت عبارة «أميركان اكسيبشناليزم» (الاستثنائية الأميركية). منذ سنتين تقريبا، ومع زيادة قوة الجناح اليميني (حزب الشاي) في الحزب الجمهوري، تحول المسرح السياسي الأميركي سريعا نحو اليمين. وصار واضحا أن كثيرا من المرشحين يريدون كسب الجمهوريين المحافظين والمسيحيين الأصوليين.

«الاستثنائية الأميركية» عبارة مهذبة معناها أن أميركا هي أحسن دولة في العالم، وبالتالي، عليها واجب شبه مقدس لنشر الحرية والعدالة على الأرض.

رغم أن هذه العبارة انتشرت مؤخرا على المسرح السياسي الأميركي، فإن لها جذورا قديمة في الثقافة الأميركية.

يعتقد أن أول من استخدم العبارة ليس أميركيا، إنه المثقف والسياسي الفرنسي الكيس دي توكفيل، الذي تجول في الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي سنة 1840 كتب كتاب «الديمقراطية في أميركا». وقال إن أميركا «دولة ليست مثل أي دولة أخرى في التاريخ. خلال جولاتي في العالم الجديد، وجدته جديدا في موضوع آخر، وهو تركيزه على الحرية والمساواة». وكان واضحا أن هذا المثقف الفرنسي يريد أن ينبه الفرنسيين إلى أن الثورة الفرنسية (قبل ذلك بخمسين سنة) لا يزال أمامها طريق طويل لتحقيق الحرية والمساواة، وذلك لثلاثة أسباب:

أولا: عمق التقاليد الأرستقراطية التي قامت على قرون من حكم الأباطرة والإقطاعيين (بينما أسس الأميركيون دولة غير ملكية وغير أرستقراطية).

ثانيا: تأثير المذهب الكاثوليكي المسيحي في الثقافة والسياسة في فرنسا (بينما فصل الأميركيون البروتستانت الدين عن الدولة).

ثالثا: سيطرة تقاليد وموروثات على الثقافة والسياسة في فرنسا (بينما ركز الأميركيون على الفرد، وعلى خصوصيته).

لكن، كتب المثقف الفرنسي عن نقطة مهمة، بدأت أصداؤها تتردد هذه الأيام مع زيادة قوة الجمهوريين المحافظين والمسيحيين الأصوليين، وهي عن أهمية الدين المسيحي في الثقافة والسياسة في أميركا. كتب: «شاهدت كل الأميركيين تقريبا يرتبطون برباط المسيحية القوي. شاهدتهم يعتمدون في قيمهم الأخلاقية على الدين. في البداية، قلت لا بد أن هذا هو نفس النفاق الديني الذي نعيشه في فرنسا. لكني لم أرَ دولة تؤثر فيها المسيحية على أرواح الرجال والنساء مثل أميركا».

بعد المثقف الفرنسي بمائة سنة تقريبا، استعمل عبارة «الاستثنائية الأميركية» رجل آخر غير أميركي: جوزيف ستالين، زعيم الثورة الشيوعية الروسية. كتب في سنة 1929 رسالة إلى الأمين العام للحزب الشيوعي الأميركي (كان، وظل، حزبا صغيرا جدا)، معارضا قوله عن صعوبة نشر الشيوعية في أميركا. وكان الأمين العام قال إن أميركا «خيراتها الطبيعية كثيرة، وقوتها الصناعية عملاقة، ولا توجد فيها طبقة أرستقراطية».

* الحرية والعدالة

* في السنة الماضية، صدر كتاب «نظرية أميركا: تأملات في مولد الولايات المتحدة» الذي كتبه غوردن وود، أستاذ التاريخ في جامعة براون (ولاية رود ايلاند). وجاء فيه: «شيئان تعود جذورهما إلى سنوات الثورة الأميركية الأولى: أولا: التركيز القوي على الحرية والعدل. ثانيا: لأننا أول شعب يفعل ذلك، لا بد أنه لا يوجد شعب مثلنا».

غير أن هذا الأستاذ الجامعي المخضرم ومعه مثقفون أميركيون محايدون، عندما يتحدثون عن «الاستثنائية الأميركية» لا يقصدون التعالي على الشعوب الأخرى. لكن، خلال السنتين الماضيتين، زاد هذا الاستعلاء. ولهذا أسباب:

أولا: زادت قوة المسيحيين الأصوليين الذين يربطون استثنائية أميركا ليس فقط بالدين المسيحي، ولكن بالاستعلاء على بقية الأديان.

ثانيا: أثرت حروب الإرهاب وأفغانستان والعراق على صورة أميركا في العالم، ويريد أميركيون الرد على ذلك بالافتخار بالاستثنائية الأميركية.

ثالث: أثرت المشكلة الاقتصادية على نفسيات الشعب الأميركي بصورة عامة، وبدا لهم الحاضر سيئا والمستقبل أسوأ. ولهذا، يبحثون عن ما يرفع روحهم المعنوية.

وينقسم المثقفون الأميركيون إلى قسمين في تقييم «الاستثنائية الأميركية»:

في جانب: الذين يميلون نحو الفكر المحافظ (الذي يركز على التقاليد والثقافة في التاريخ الأميركي).

في الجانب الآخر: الذين يميلون نحو الفكر الليبرالي (الذي يركز على التغيير والتجديد والانفتاح).

وليس سرا أن المجموعة الأولى ترى أن المسيحية هي أساس الثقافة التاريخية الأميركية، بينما ترى المجموعة الثانية أن هذا ليس إلا انغلاقا على ما غير ذلك.

* «الاستثنائية المسيحية»

* الذين يدافعون عن ما يمكن أن تسمى «الاستثنائية المسيحية» يتحدثون عن تاريخ أميركا «المسيحي» الذي صار مكررا: مسيحيون أوروبيون تمردوا على الأباطرة والباباوات. وهاجروا إلى الدنيا الجديدة. وأسسوا دولة فصلت بين الدين والدولة، لكنها تأسست على التعاليم المسيحية الأساسية (الحرية والعدل والسلام والمحبة). وحتى لا يظهر تناقض، يمكن القول إن «الآباء المؤسسين» فصلوا الدين عن الحكومة. ولم يفصلوه عن الدولة، لأن الدستور الأميركي نفسه يعترف بالسيادة الإلهية عليه.

ورغم أن جون وينثروب، مثقف مسيحي أميركي في القرن السادس عشر، لم يشِر إلى «الاستثنائية»، كتب عن الجذور المسيحية للسياسة والثقافة الأميركية. وهو صاحب عبارة «سيتي ابون هيل» (مدينة على التل) إشارة إلى أن الولايات المتحدة (كانت في ذلك الوقت ولايات قليلة مستعمرة) ستكون مثل مدينة مقدسة. وهو نقل العبارة من آخر خطب عيسى المسيح، قبل أن يصلب.

وخلال الثلاثين سنة الماضية، مع زيادة قوة الجمهوريين المحافظين والمسيحيين الأصوليين، تكرر استعمالهم لهذه العبارة.

واحد من هؤلاء كان ويليام باكلي، مؤسس ورئيس تحرير مجلة «ناشيونال ريفيو» اليمينية (توفي سنة 2008). ويقال إنه هو الذي ألهم الرئيس رونالد ريغان ليحول أميركا نحو اليمين (بعد أن صار ريغان رئيسا سنة 1980، فيما عرف بالثورة الريغانية). وفي المناظرات التلفزيونية الأخيرة للمرشحين الجمهوريين، كرر اليمينيون منهم (مثل نيوت غينغريتش، رئيس سابق لمجلس النواب، وريك سانتورام، حاكم سابق لولاية بنسلفانيا) عبارة «الثورة الريغانية».

وأيضا، انتشرت إعلاناتهم التلفزيونية «المسيحية». نشر ريك بيري، حاكم ولاية تكساس، إعلانا تلفزيونيا يقف فيه أمام صليب ملون عملاق ظهر فوق كتفه الأيمن. ونشر غينغريتش، مع زوجته كاليستا، إعلانا وهما يقفان أمام كنيسة عليها صليب عملاق.

حتى المرشح المعتدل رون بول، نشر إعلانا تلفزيونيا يقول فيه واحد من مرضاه السابقين، عندما كان بول يمارس مهنة الطب: «ليس من الصعب لشخص مسيحي، ومؤمن، البقاء على الطريق الصحيح، والدكتور بول هو مثل ذلك الشخص».

وفي عام 2004، استخدم الرئيس السابق بوش الابن إعلانات تلفزيونية فيها صور لصلبان عملاقة. وفي سنة 2008، نشرت المرشحة الجمهورية اليمينية إعلانا تلفزيونيا عن «صلاة للمحاربين»، إشارة إلى الجنود الأميركيين الذي كانوا يحاربون في العراق وأفغانستان. لكن عبارة «صلاة للمحاربين» عبارة مسيحية عن المسيحيين الذين يقاتلون «الشيطان».

* الاستثنائية العلمانية

* في الجانب الآخر، هناك مثقفون يرون أن «الاستثنائية الأميركية» ليست إلا شعارا «لإعادة أميركا إلى الخلف».

ومن بين هؤلاء الذي يؤمنون بنظرية «بوست ناشوناليزم» (ما بعد الوطنية). تقول هذه النظرية إنه، بعد أن نالت كل الشعوب تقريبا استقلالها خلال القرن العشرين، صار القرن الـ21 قرن «العالم قرية كونية». وقرن العولمة التي زادت نفوذ البنوك والشركات العالمية (خيرا وشرا). وأيضا، زادت العولمة انتشار الحضارة الغربية (وخاصة الأميركية) ومصنوعاتها واختراعاتها، وأيضا حقوق الإنسان والحرية والعدالة.

ومن قادة هذه النظرية ديفيد جاكوبسون، أستاذ في جامعة جنوب فلوريدا، ومؤلف كتاب «حقوق عبر الحدود: زيادة الهجرات وانخفاض أهمية المواطنة». وكتب فيه: «خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الهوية الرئيسية هي الوطن والمواطنة. وكانت هذه تجيب عن سؤال: (من أنا؟) لكن، مع بداية القرن الواحد والعشرين، لم تعد سهلة الإجابة على سؤال: (من أنا؟) من أنا إذا هاجرت من المكسيك إلى الولايات المتحدة لأعيش الحلم الأميركي؟ من أنا إذا عشت في المكسيك، وأتابع كل يوم مسلسلات تلفزيونية أميركية، ومباريات كرة السلة الأميركية؟ من أنا إذا كنت أعيش في المكسيك، وأملك سيارة يابانية وأشتري بضائع صينية؟».

ركز الكتاب على نحو 10 ملايين مكسيكي هاجروا إلى الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية، بالإضافة إلى 10 ملايين دخلوا بطريقة قانونية أو صاروا مواطنين أميركيين. وقال إن «الحدود على الأرض» بين المكسيك والولايات المتحدة «ليست حدودا ثقافية وحضارية». وقال إن المكسيكي يمكن أن يعتبر نفسه مكسيكيا رغم أنه يعيش في الولايات المتحدة. وأشار إلى انتشار مثل هذا الإحساس وسط كثير من المهاجرين الأتراك في ألمانيا، والجزائريين في فرنسا، والكاريبيين في بريطانيا. وتطرق الكتاب إلى «الاستثنائية الأميركية»، خاصة التي تركز على المسيحية، وقال: «إذا قلت أهمية الحدود بين الأوطان، لا بد أن تقول أهمية الحدود بين الأديان». لم يقلل الكتاب من أهمية «الاستثنائية الأميركية»، لكنه قلل من أهمية المسيحية فيها، وذلك:

أولا: بسبب التغييرات وسط الأديان، وانفتاحها على بعضها، مع بداية القرن الواحد والعشرين.

ثانيا: بسبب رفض هذه الانفتاحات والتغييرات للتطرف (مثل تطرف المسيحيين الأصوليين والجمهوريين المحافظين في الولايات المتحدة).

ولخص الكتاب الوضع الجديد كالآتي: «قليلا قليلا، يقل ارتباط الهوية بالوطن، ويزيد ارتباطها بالثقافة. ولأن الوطن تراب، والثقافة لا حدود لها، يمكن اعتبار الثقافة هي هوية القرن الحادي والعشرين. يمكن أن يتفاهم شخص مع أجنبي يعيش في بلد بعيد، ويشاركه ميوله الثقافية، أكثر من قدرته على التفاهم مع جاره، ابن وطنه».

نقطة أخرى، لم يذكرها الكتاب: يوجد تناقض منطقي في القول بأن «الاستثنائية الأميركية» (الحرية والعدالة) التي، باعتراف أصحابها، بدأت تنتشر في كل العالم لا تزال «استثنائية».