آني إيرنو في «كتابة الحياة».. لا مكان للتخييل في ما تنشر

صاحبة الجوائز الأدبية تعود إلى الواجهة

TT

ما كان لمفهوم التخييل الذاتي الذي ابتدعه دوبروفسكي، ذات يوم، أن ينتشر ويعرف النجاح الجماهيري الذي يعرفه الآن، لولا وجود كتاب وكاتبات، وبالأخص كاتبات، يكتبون هذا النوع من الأدب وبالتالي يمنحونه مقروئية متعاظمة، ويدفعون كتابا آخرين لتجريبه والذهاب به بعيدا في عالم الكتابة اللانهائي.. ومن بين هؤلاء الكتاب نجد آني إيرنو وكريستين أنجو وكاميل لورونس وآخرين، وكما هو ملاحظ فإن أغلبية من يلتجئون إلى هذه الطريقة الكتابية هم من النساء.

صحيح أن دوبروفسكي لا يتعب في تفسير مخترعه وفي إزاحة كل ما يمكن أن يشوبه من غموض والتباس، سواء عن طريق التنظير أو التطبيق الإبداعي من خلال كتابة نصوص إبداعية، فهو يذهب في تفسيره للفارق بين التخييل الذاتي وكتابة المذكرات بالقول: «إن مؤلف المذكرات، في اعتقادي، يركز، بشكل خاص، على العالم الخارجي. إنها شهادة. ففي مذكرات ديغول، مثلا، لا يتعرف أحد على نساء تعرف عليهن الجنرال في شبابه، ونفس الشيء عند سان سيمون». وحين يسأل عن السبب الذي دفعه لمنح مؤلفه الأخير وصف الرواية، وعما إذا كان التخييل حاضرا فيها، يجيب: «المادة في التخييل الذاتي هي، بصفة كاملة، أوتوبيوغرافية. رواية رجل عابر، مبنية بطريقة تعبر الحياة ليس حسب أعراف البيوغرافيا (السيرة الذاتية)، ولكن حسب أعراف الرواية، من خلال إخراج الماضي انطلاقا من معيش فوري. إن كل سيرة ذاتية تتضمن جزءا من التخييل. يحكي لنا شاتوبرياند Chateaubriand أنه التقى واشنطن، ونحن نعرف، مع ذلك، أنه لم يلتقها أبدا. ومن الناحية التاريخية، فإنه لا يوجد تعارض أساسي ومطلق، بشكل حقيقي، بين السيرة الذاتية (البيوغرافيا) والتخييل الذاتي».

ومن المؤكد أن دوبروفسكي ينظر بنوع من الجدل إلى مآل اكتشافه، أي إلى الشهرة المتعاظمة للتخييل الذاتي، ولكنه يبتعد عن كل ابتهاج ظاهر: «لست أنا من يحكم على الأمور. لقد اخترعت كلمة، مفهوما، ولم أخترع الشيء. اقرأوا ولادة النهار Naissance du jour، للكاتبة كوليت Colette، التي ظهرت سنة 1928 وستفهمون. حين كتب أندري بروتون Andre Breton رواية (نادجا) Nadja، فهو، بكل تأكيد، استلهم حياة امرأة تعرف إليها. ولكنه حين دفعها للحديث، فهو أعاد اختراع ما عاشه. هذه الطريقة في التعامل مع المؤلف كسارد وكشخصية، في آن، كانت موجودة قبلي».

وتعود آني إيرنو (1940-) إلى الواجهة، هذه الأيام، بمناسبة إصدار «دار غاليمار» لمجموعة من أعمالها في مؤلف من 1200 صفحة، تحت عنوان «كتابة الحياة»، وبغلاف يحمل صورتها وهي في سن الثانية والعشرين. والكتاب فرصة لاستعادة مسار هذه الكاتبة المتميزة، من خلال تجميع لكتب ونصوص ومقالات وصور. ويأتي سبب اختيارها لهذا العنوان «كتابة الحياة»، من العنوان الذي أطلق على محاضرات ألقتها في «كوليج دي فرانس» سنة 2009، تحت رعاية البروفسور أنطوان كومبانيون. وتقول إنها فضلت كتابة «الحياة» بدل كتابة «حياتها» هي، أي «إن الهدف كان يتجه صوب ما هو شامل، وليس نحو ما هو فردي ومتصل». وتضيف: «إنني لا أريد أن أكتب نفسي. فأنا أستخدم أحداثا عادية، بشكل عام، اخترقتني، وحالات ومشاعر تيسرت لي معرفتها، كوسيلة للاستثمار. لدي شعور بأني كتبت، في نفس الآن، عن ذاتي وعن خارج ذاتي». ولأن «كتابة الحياة» هو ترجمة، بصيغة ما، للبيوغرافيا، ترى إيرنو أن «البيوغرافيا تنقل لنا إضاءات مهمة عن شخص ما، ولكنها لا تدخل في تنافس مع السيرة الذاتية. فحين نقرأ يوميات كاثرين بوزي، مثلا، فإن ما نبحث عنه هو ما فكرت فيه هذه المرأة، ورغبت فيه وعانت منه، ونريد أن نلج في حوار لا واع معها. ثم إني ألح! ليست لدي رغبة في كتابة حياتي».

ولمن يتصور أن التخييل الذاتي مسألة سهلة ترى آني إيرنو: «لدينا الحق في أن نكتب عما حدث، وما عيش، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن كتابة ذلك؟ كي يرقى الأمر إلى حقيقة قابلة للتقاسم، وليس كقصة شخصية، وتصفية حسابات، إلخ». ثمة بعض اللبس ينتاب الفرق بين «اليوميات الحميمية» و«اليوميات السرية»، التي حلت محل الأولى في كتاب آني إيرنو، فتحاول الكاتبة تفسيره بالقول: «الحميمي هو ما أعيشه، وما عشته، وهو الشيء الذي لا أتحدث عنه لأحد، أو فقط لقلة منهم. وهو ما أكتبه في يومياتي، التي سيكون نشرها الكامل بعد وفاتي. لكن، في بعض اللحظات، ما أعتبره غير قابل للإفصاح ولا للكتابة يبدو لي كقارة يتوجب علي ارتيادها، والتي تدعوني إليها، والتي سوف أكتشف فيها ما أجهله».

ولأن الكتاب هو بمثابة حصيلة عامة عن حياتها ككاتبة، فهي تعاني منذ فترة طويلة، من مرض مزمن، ولم تكتب نصوصا طويلة منذ فترة غير قصيرة، (فقد نشرت سنة 2010 كتيبا بعنوان «الفتاة الأخرى»، عن أختها التي ماتت في عز الطفولة، والتي لم تشف بعد من عقدة الذنب باعتبارها ساهمت بطريقة أو بأخرى في موتها)، فقد كان ضروريا أن تتحدث عن الشيء الذي يتغير لديها مع الزمن. فتقول: «إنه تصور الزمن. لم أعد أشعر أني أبدية، كما كنت أشعر قبل عشر سنوات. ولدي هوس بأني أضيع وقتي في انشغالات أو في لقاءات تمنعني من الكتابة. أمنح مكانا أقل في حياتي للمغامرة، ولنوع من الفضول العام لما يمكن للصدفة أن تحمله، وللحلم. ولكن العالم، وتطور العالم، أصبح يهمني، أكثر فأكثر».