ذكرى صفية كتو تفتح جرح المنتحرين في الشعر الجزائري

أقيمت لروحها احتفالية في أعلى «جسرها»

TT

خرج الشعر من الصالونات المغلقة إلى الشارع، ووقف الشعراء عند الجسر في قلب الجزائر العاصمة يقرأون الشعر تارة أخرى ويوزعون الحلوى والأزهار الصفراء على المارة تارة أخرى، والمناسبة هي إحياء ذكرى الشاعرة صفية كتو التي كانت تكتب الشعر باللغة الفرنسية وغادرت عالمنا منتحرة قبل ثلاث وعشرين سنة، لتعود ذكراها من جديد فاتحة جرح الشعراء الجزائريين الذين انتحروا.

هو جسر يتعجب له كل من يراه لأول مرة ذلك الذي يسمى «جسر تيليملي» بوسط الجزائر العاصمة، والذي استقبل شعراء وصحافيين وكتابا تجمعوا ليحيوا لأول مرة ذكرى رحيل الشاعرة صفية كتو وقد رمت بجسدها من أعلاه قبل ثلاث وعشرين سنة. إنه الجسر الذي يعجب له كل من يراه لأول مرة، وإن كنت في شارع ديدوش مراد مثلا وأردت الذهاب إليه فعليك أن تمر عبر شارع صغير هو شارع أحمد وبوعلام خلفي، الذي ينتهي بعمارة من ثمانية طوابق تقابلك، وعندما تقطع كل سلالم العمارة إلى الأعلى تجد نفسك في قلب الشارع الذي أصبح يأخذ اسم واحد من أشهر قادة الثورة التحريرية وهو كريم بلقاسم والذي كان يسمى زمن الاحتلال «شارع تيليملي» وما زال يسمى كذلك على ألسنة عموم الناس. ويقول شهود عيان، إن الشاعرة صفية كتو التي كانت تسكن قريبا من هناك، خرجت من بيتها ذات صباح شتوي بارد عند الساعة الثامنة والنصف، ولم تتردد في رمي جسدها من الأعلى، لتنتشل جثة هامدة عند الشارع السفلي من أعلى ثمانية طوابق كاملة.

وصفية كتو هو الاسم الفني للشاعرة التي كانت في وثائقها الرسمية تحمل اسم زهرة رابحي. وهي من مواليد 1944 (كان عمرها 45 سنة عند الانتحار)، وولدت في مدينة العين الصفراء عند بوابة الجنوب الغربي للجزائر، حيث اشتغلت مدرسة للغة الفرنسية لغاية سنة 1969 لتنتقل إلى مدينة الجزائر وفي سنة 1973 أصبحت صحافية في «وكالة الأنباء الجزائرية». وكانت محققة صحافية وتعاونت مع صحف كثيرة. ومن كتبها المجموعة الشعرية «صديقتي القيثارة» سنة 1979 والمجموعة القصصية «الكوكب البنفسجي»، إضافة إلى عناوين أخرى.

إنها الفكرة التي اقترحتها القاصة فايزة مصطفى، وسرعان ما تحمس لها زملاؤها عبر شبكة «فيس بوك»، وروج لها مجموعة من الشعراء والكتاب، منهم الشاعر عبد العالي مزغيش والكاتب والمدون يوسف بعلوج. وعن الفكرة وتجسيدها تقول القاصة فايزة مصطفى لـ«الشرق الأوسط»: «راودتني فكرة تكريم الراحلة كتو بهذه الطريقة، لأني لاحظت أنها انتحرت في فترة التحولات التي عاشتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988، وكانت تحسب على المعارضة. ونحن الآن نعيش مرحلة مشابهة للظروف التي انتحرت فيها، ونرى حركات التغيير في العالم العربي». وتضيف قائلة: «نلتقي مع صفية كتو في الكتابة وفي العمل كصحافيين. والهدف من هذا الاحتفال أيضا هو إخراج الثقافة إلى الشارع، أردنا تعريف الذين يمرون في الشارع بصفية كتو، فأحداث الزمان والمكان تلتقي هنا، وهو الاحتفال الذي أردناه بطريقة مغايرة بعيدا عن المحاضرات الثقيلة في القاعات المغلقة».

عادت صفية كتو من جديد لتصنع الحدث الثقافي بعد أن كاد النسيان يلفها ولا يذكرها إلا بعض أصدقائها في مناسبة انتحارها. وهي التي كانت روحها حاضرة في رواية «سيدة المقام» للروائي واسيني الأعرج، حيث إن بطل تلك الرواية كان يتأهب في نهايتها للوصول إلى النقطة التي رمت منها صفية كتو جسدها من أعلى جسر تيليملي في شتاء سنة 1989.

إنها الشاعرة التي تغلبت أخيرا على النسيان وعادت في ذكراها تفتح جرحا عميقا في التجربة الشعرية الجزائرية، والأمر يتعلق بظاهرة الانتحار التي أخذت جملة من أجمل الأصوات الشعرية وفي ظروف مشابهة. وقبل انتحار الشاعرة صفية كتو، كان الشاعر الشاب (حينها) عبد الله بوخالفة الذي بدأ يشق الطريقة بتجربة شعرية مختلفة قد أنهى حياته بطريقة مأساوية في ضاحية مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، حيث كان يدرس بالجامعة، ولم يتردد في رمي نفسه أمام القطار الذي حوله إلى أشلاء في خريف سنة 1988، ولم تصدر أشعاره في كتب إلا بعد سنين طويلة بعد رحيله، بجهود بعض أصدقائه مثل الشاعر عبد الناصر خلاف والكاتب أحمد دلباني. وبعد ست سنوات من إنهاء الشاعر عبد الله بوخالفة حياته، أقدم شاعر آخر وهو فاروق أسميرة على رمي جسده من أعلى الجسر المعلق لمدينة قسنطينة من علو يقترب من المائتي متر وكان ذلك سنة 1994. وهو الشاعر المتميز الذي كان يعد لرسالة ماجستير وكان قد أحيا بشعره ذكرى صديقه عبد الله بوخالفة في أكثر من قصيدة وتأثر كثيرا لرحيله بتلك الطريقة قبل أن يلحقه.

ولم تتوقف ظاهرة انتحار الشعراء في الجزائر عند هذا الحد، ففي سنة 2010 أقدمت الشاعرة الشابة هادية رجيمي على الانتحار داخل بيتها وهي التي لم تتجاوز الثلاثين من العمر وفعلت ذلك بعد أن أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى «عطر الثرى» وتبقى أسباب الانتحار مجهولة.

وأخيرا فإن ظاهرة انتحار الشعراء في الجزائر لم تكن وليدة سني الاستقلال، بل تجاوزت ذلك في التاريخ المعاصر، ولعل أشهر المنتحرين قبل هذه الفترة هو الشاعر مبارك جلواح الذي رمى بنفسه في نهر السين بالعاصمة الفرنسية باريس سنة 1943. وهو المولود سنة 1908 بضاحية سطيف بالشرق الجزائري ترك ديوانا شعريا بعنوان «دخان اليأس» وبعد سنين طويلة من رحيله المفجع جمع الناقد الراحل عبد الله الركيبي كل أعماله في كتاب بعنوان «جلواح».