«إسلامانيا» في فرنسا لصد خطر الـ«إسلاموفوبيا»

باريس عاصمة للفنون العربية ـ الإسلامية عام 2012

TT

تحتفل فرنسا هذه السنة بالحضارة العربية - الإسلامية على طريقتها. ليس فقط بأن «متحف اللوفر» سيدشن فرعه الجديد الخاص بالفنون الإسلامية، ولكن «معهد العالم العربي» أيضا يستعد لافتتاح متحف يلقي الضوء على أهم الفنون العربية وخاصة العصرية. خطوات لا تقل أهمية يتخذها مركز «جورج بومبيدو» لاقتناء أعمال لفنانين عرب معاصرين، في ما يطلق «معهد الثقافات الإسلامية» التابع لبلدية باريس برنامجا عامرا على مدار السنة. ظاهرة أطلقت عليها إحدى الباحثات اسم «إسلامانيا»، أي الولع الجديد للغرب بالفنون الإسلامية بعد موجة الـ«إسلاموفوبيا».

الحدث الفني الثقافي الأهم في أوروبا هذه السنة، قد يكون من نصيب العاصمة الفرنسية التي تستعد ابتداء من هذا الشهر لإطلاق عدة مشاريع ثقافية طموحة كلها معنية بالفنون العربية الإسلامية. «متحف اللوفر»، و«معهد العالم العربي»، ومركز «جورج بومبيدو» و«معهد الثقافات الإسلامية» كلها مؤسسات فرنسية عريقة تبنت رهانا جديدا يتمثل في تقديم الوجه المضيء المشرف للحضارة العربية - الإسلامية.

* اللوفر: 18 ألف تحفة وميزانية بمائة ألف يورو

* متحف اللوفر أكبر وأكثر المتاحف زيارة في العالم (8 ملايين زائر سنويا) يستعد لحدث فني ثقافي جديد بافتتاحه لفرع خاص بروائع الفنون العربية الإسلامية. الفرع الجديد الذي سيتم تدشينه بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة أي بداية الصيف جاء بإيعاز من الرئيس الأسبق جاك شيراك. وهو يمتد على مساحة 4600 متر مربع في بناية معمارية متميزة على شكل طرحة من الزجاج المذهب أثارت إعجاب رجال الصحافة الذين زاروا ورشة سير أعمالها. من المتوقع أن يستقبل هذا الفرع الجديد أكثر من 18 ألف تحفة، تضم تشكيلات مختلفة من القطع الفنية النادرة من البلاطات المزخرفة والأعمال الزجاجية المطلية بالمينا، وصفحات قرآنية وقطع من معالم هندسية متميزة، إضافة للمنسوجات والسجاد النادر الثمين.

الجزء الأكبر من هذه التحف ظل طويلا حبيس المخازن المتحفية لضيق المكان، إلى أن تم استكمال المبالغ اللازمة لبدء الأشغال. فرنسا التي نجحت بفضل هذا المشروع في تعزيز مكانتها الريادية في عالم الفن والثقافة حققت أيضا صفقة رابحة بما أنها لم تتحمل وحدها مصاريف المشروع، حيث دفعت 30 مليون يورو من مجموع 100 مليون يورو التي تمثلها ميزانية المشروع. أما الباقي فقد ساهمت به مجموعة من الدول العربية الإسلامية، على رأسها المملكة العربية السعودية، حيث منحت مؤسسة الأمير وليد بن طلال 17 مليون يورو، إضافة لدول كالكويت والمغرب وسلطنة عمان ودولة أذربيجان التي منحت نحو 26 مليار يورو ومؤسسات فرنسية كبيرة كـ«توتال» و«أورنج» و«بويغ تيليكوم» و«فنسي». كما يتوقع أن تنضم قطر أيضا لقافلة الدول المانحة قريبا بعد أن وعدت فرنسا باستكمال المبالغ المتبقية للمشروع التي تصل لـ10 مليارات يورو. «الفائدة تعود على الجميع» يقول كريستوف مونان، مدير قسم النصرة بمتحف اللوفر الذي يضيف: «الكل مستفيد في هذا المشروع، فالدول العربية الإسلامية تساهم بأموالها لأنها تشعر بالفخر والاعتزاز وتريد للعالم أن يتعرف على تاريخها الرائع. أما نحن: فهذه الهبات تساعدنا على المضي قدما في مشروعنا وإنهائه في أقرب الآجال لنقدم في أحسن الظروف صورة مشرفة عن الحضارات العربية الإسلامية».

* معهد العالم العربي: ميزانية صغيرة وطموحات كبيرة

* العدّ التنازلي بدأ بالنسبة لمعهد العالم العربي، الذي يستعد هو الآخر في العشرين من شهر فبراير (شباط) الحالي لتدشين قسمه الجديد الخاص بـ«الفن العربي». القائمون على المشروع يؤكدون اختلافه التام عن مشروع اللوفر. فالمتحف الجديد للمعهد العربي يهتم بعرض التنوع الثقافي والفني العربي ببعده الديني والاجتماعي والإنتربولوجي ويركز على المجتمعات بدل العهود الحضارية مع الاهتمام بتسليط الضوء على أعمال فنانين معاصرين. كما أن تصميم العرض تم بطريقة عصرية متميزة جاءت على شكل رحلة في ربوع العالم العربي في خمسة محاور رئيسية ساهم في إعدادها لجنة من الخبراء والمثقفين. المتحف الذي يمتد على مساحة 2400 متر مربع، ويضم 1000 قطعة منتشرة في أربعة طوابق فسيحة، هو فكرة لمدير المعهد السابق دومينيك بوديس عام 2008، لكن المشروع عرف صعوبات في الإنجاز بسبب ضعف ميزانيته التي لم تتعد الخمسة ملايين يورو. وقد استطاع أن يخرج إلى الضوء بفضل رعاية بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية التي منحت المعهد 500 مليون يورو، والكويت كذلك شركة «لاغردير» الفرنسية التي منحت المعهد مليون يورو. المعهد حصل أيضا على بعض القطع الأثرية من متاحف عربية من حلب ودمشق واللاذقية وعمان وتونس والمنامة ومن بعض الكنائس والأديرة الموجودة في سوريا ولبنان، وكذلك من بعض المتاحف الفرنسية. ورغم ضعف الميزانية فإن المهمة الواقعة على كاهل هذا المتحف الجديد ليست بالهينة وهو ما يشرحه بدر الدين عرودكي، المدير المساعد للمعهد: «مهمتنا إقناع الغرب بأن العالم العربي الإسلامي ليس بن لادن ولا الإرهاب، بل هو حضارة عظيمة وفن عظيم وجب الآن التعريف بهما أكثر».

* الفنون العربية في كل مكان

* الربيع الثقافي العربي الذي طال فرنسا لا ينتهي عند هذا الحد، فمعهد الثقافات الإسلامية الواقع في باريس في حي ليون يستعد لتكثيف نشاطاته هو الآخر بعد أن تمت توسعته بستين مترا مربعا، مع تشييد بنايتين جديدتين وتوقيع عدة اتفاقيات شراكة مع فنانين عرب ومسلمين لتنظيم مظاهرات فنية مختلفة لعام 2012. وقد كانت هذه المؤسسة التي تمولها بلدية باريس ووزارة الثقافة قد سجلت إقبالا منقطع النظير بعد تنظيمها لمعرض المصور البريطاني المعروف مارتين بار المسمى «تي غوت دور». انتعاش هذه المؤسسة الثقافية يعود للإدارة الجديدة التي تولتها منذ 2007 فيرونيك ريفل صاحبة كتاب بعنوان «إسلامانيا: من الحمراء إلى البرقع، قصة ولع فني» (دار نشر لي بوزار). الكتاب الذي يعرض بإسهاب فضل الحضارات العربية الإسلامية في ظهور وازدهار الفن الأوروبي الحديث. وهي من أشد المدافعين عن «الثروة الثقافية لمسلمي فرنسا وأوروبا»، والتي يجب إخراجها - كما تقول - من المفاهيم الخاطئة التي ينشرها أمثال وزير الداخلية الفرنسي كلود غيون ومارين لوبان عندما يشيرون بأصابع الاتهام للأشخاص الذين يؤدون صلاتهم في الشوارع. أما مركز جورج بومبيدو فهو يحضر بإشراف كاترين غرونييه، المديرة المكلفة بالعولمة لبرنامج أبحاث واسع يشارك فيه أمناء متاحف وباحثون أجانب كالفنانة والباحثة سيرين فتوح التي تمثل لبنان. الغرض منه رصد قوائم وملفات عن أهم إنجازات الفنانين العرب المعاصرين على أمل اقتناء بعض الأعمال المهمة لاحقا. وهي نفس المبادرة التي قامت بها بريطانيا منذ خمس سنوات حين اشترت بفضل مساعدة مجموعة من الرعاة أعمالا كثيرة لفنانين عرب. كاترين غرونييه تشرح سبب تريث بلادها في الاقتناء فتقول: «نيتنا الأخيرة هي طبعا الحصول على بعض التحف لكننا لن نمر لهذه المرحلة إلا بعد دراسة وتدقيق، لا نريد الندم على بعض الخيارات».

الولع بالفنون العربية الإسلامية وصل لغاية مزاد «أرت كوريول» الأهم في فرنسا والذي عرض في 8 من الشهر الحالي مجموعة كبيرة من التحف للبيع. حدث اهتمت به وسائل الإعلام، لا سيما أن سعر بعض القطع كزهرية من الحضارة السومرية وصل إلى 450 ألف يورو، و100 ألف يورو بالنسبة لصحن من الخزف الأزرق يعود للعصر العثماني.

فيرونيك ريفل التي استعملت تعبير «إسلامانيا» لوصف الولع الجديد للغرب بالفنون العربية الإسلامية، تعتبر أن هذه الظاهرة هي الآن آخذة في التطور: «أول مرة اهتم فيها الغرب بالفنانين العرب كانت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وكان يريدهم أن يجيبوا عن كل التساؤلات الخاصة بمجتمعاتهم وكأنهم يمتلكون الحقيقة أو كأنهم باحثون في علوم الاجتماع، لكن أحداث الثورات العربية الأخيرة غيرت بعض هذه المعتقدات، بحيث إن الاهتمام أصبح أكثر عقلانية. يكفي أن نرى الإقبال الواسع الذي تسجله أعمال قادر عطية، ومنير فاتمي أو ماجدة ختاري في الغاليريهات الغربية، وكيف استقبل مهرجان (كان) الأخير فيلم التونسي منير بن شيخ (كفى خوفا) رغم أنه يقدم نساء قويات متمردات وليس كما يراهن الغرب ضعيفات مستسلمات».

أما هنري لورات، مدير متحف اللوفر فهو يؤكد «أن مثل هذه المشاريع الجديدة ستجبر البعض على إعادة قراءة التاريخ، فمن الظلم تجاهل الحضارة العربية الإسلامية التي أثرت في أكبر رموز الفن الغربي».