«كثير من الحب».. عرض بريطاني يجول دولا عربية ساخنة

رقص معاصر على أنغام «طقطقة» مفاتيح الكومبيوتر

مشهد من «كثير من الحب»
TT

على أنغام موسيقى «آندي بينك» العريقة، مختلطة بإيقاع طقطقة لوحة مفاتيح الكومبيوتر، وصوت بدء التواصل على برنامج «سكيب» الشهير، يؤدي ستة من الشبان عرضهم الراقص البديع «كثير من الحب»، في عدة بلدان عربية، كان فاتحتها لبنان، في 13 و14 من الشهر الحالي على خشبة «مسرح بابل»، ثم في تونس يومي 18 و19، لتكتمل الجولة بعد ذلك في كل من المغرب ومصر وفلسطين.

العرض الإنجليزي الذي يجمع بين الأداء المسرحي والرقص المعاصر، وتؤديه فرقة «بروتين»، بقيادة لوكا سلفستريني، حائز على جائزة أفضل فرقة رقص مستقلة لعام 2011، ومرشح لثلاث جوائز أخرى خاصة بالمسرح البريطاني، وقد اختاره «المجلس الثقافي البريطاني» ليكون جزءا من مشروعه المسمى «أعمال جديدة.. جماهير جديدة» الهادف إلى استكشاف قوة الفنون كوسيلة لتطوير المفاهيم والحوار، داخل المملكة المتحدة وخارجها.

خلفية المسرح الفارغ تماما مقسمة إلى ثلاثة أجزاء عليها تتناوب صور أشخاص في أوضاع مختلفة.. إنهم رواد «فيس بوك»، هذه هي صورهم على الشاشات، أما حياتهم فتبدو حبيسة، وأصواتهم مكتومة خلف موسيقى الأصوات الإلكترونية.

أحد أبطال هذا العرض هو الكابلات السلكية، التي تكومت لتصبح شخصا سابعا يشارك الفنانين الأداء. المؤدون هم ثلاثة شبان وثلاث شابات، يتحدثون بجمل قصيرة، متقطعة، هي أشبه بالعبارات التي نجدها على صفحات المواقع الاجتماعية.. إنهم يتكلمون عن مشاعرهم، وتطلعاتهم، وقلقهم، ورغباتهم.

حركاتهم الراقصة ميكانيكية إلى حد كبير، تلامسهم لا يبدو إنسانيا بالقدر الذي يسمح بنقل المشاعر من فرد إلى آخر. الصور التي تتغير على الشاشات الخلفية تستبدل أحيانا بوجوه الناس، حروفا مبهمة أو أرقاما لا تمثل معنى محددا. أما النوافذ الصغيرة المضاءة على الجانب الأيمن من المسرح فهي تضيف إلى الجو التكنولوجي مزيدا من البرود.

الشبان يتحدثون عن انقطاع التواصل في ما بينهم مع استمراره عبر الشاشات. كل راقص له قصة، وحكاية بحث عن شريك أو علاقة إنسانية حميمية ما، لكن يبدو أن البحث لا يسفر عن أكثر من مواعيد تخرج من افتراضيتها إلى الواقع لتبقى باردة وشاردة.

ما بين الواقعي والافتراضي، معلقة حياة هؤلاء الشبان الباحثين عن حب دافئ. إحدى الراقصات تبحث عن «جيف»، لا نعرف من هو هذا الشاب، لكنها هي أيضا لا تعلم له وجها أو هوية، رغم أنها تتواصل معه باستمرار.

أحد أهم مشاهد العرض تأثيرا هو ذاك الذي نرى خلاله الشبان والشابات يتحضرون للقاء على أرض الواقع هذه المرة. تعتبر العلاقات الإلكترونية ثقيلة على البشر. يحاول كل شاب معانقة فتاته دون جدوى. يبدو أن الأجساد ما عادت مؤهلة للتلاقي، أو كأن أصحابها أصيبت عفويتهم وحتى غرائزهم بتشويش شديد. هذا المشهد الذي نرى فيه محاولات العناق الفاشلة بين كل شاب وفتاة، يؤديه الراقصون ببراعة فائقة.

الموضوع تراجيدي في العمق، فانقطاع سبل التواصل بين الناس، رغم أنهم باتوا يتحاورون على مدار الساعة، أمر يطرحه العمل بقسوة. لكن أهمية العرض تتأتى من قدرته على الاحتفاظ بروح طفولية بهيجة. الوجوه دائمة الابتسام، الحوارات طازجة حيوية، والرقص مفعم بالابتكار، وإن وقع أحيانا في بعض التكرار والإطالة.

لجوء العمل إلى الاستفادة من مفردات يومية يعرفها الناس على «فيس بوك» أو «تويتر» أو من خلال استخدامهم رسائلهم الإلكترونية، بقي عنصر المفاجأة الأقوى في العرض.

أعضاء فريق العمل الذين التقوا الجمهور بعد تقديم العرض، شرحوا أن الفكرة الأساسية انصبت منذ الأساس على إبراز الأضرار التي أصابت الحب بشكل خاص، جراء استخدام التكنولوجيا بدل التواصل الحي. وإذ بدا من خلال النقاش أن العالم العربي مشغول بتأثير التكنولوجيا على الحياة السياسية نتيجة الثورات والدور الذي لعبه «فيس بوك» في تحريك الشباب أو تأمين التواصل بينهم، فإن الهم الإنجليزي بدا مختلفا عن العربي. إلا أن أحد الحضور في الصالة قال إن ما تقدمه الفرقة بدأنا نلمس آثاره في بلادنا، إذ ما إن تجلس مجموعة من المفترض أنها التقت للتحاور في ما بينها حتى يمسك كل منهم بتليفونه ليجري اتصالات من نوع آخر، والحب متضرر هو الآخر من هذه اللوثة.

مخرج العمل سلفستريني شرح أنه لجأ إلى ورشات عمل شارك فيها أشخاص عاديون كثر. ومن خلال هؤلاء تمت معرفة هواجس الناس وقصصهم، والمشاعر التي تخالجهم، لتقديمها رقصا معاصرا ومعبرا. وشرح المخرج أيضا أن الناس الذين كنا نرى وجوههم في الشاشات هم أولئك الذين شاركوا في ورش العمل، ومن حكاياتهم استوحى سلفستريني ما تبقى من عناصر العرض.

عمل حداثي، تجريبي يستحق المشاهدة، وهو يجول عربيا للإمتاع، ولكن أيضا للمشاركة في ورش عمل ونقاشات مع فرق رقص محلية لا بد أن تجد في هذه التجربة البريطانية ما يفيد ويثمر.