ميدان التحرير يفيض نثرا.. ويطلق غواية الحكي

معدل توزيع كتب الثورة المصرية مرتفع جدا وأغلبها انطباعات

TT

بينما كان ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية يحتشد بعشرات آلاف المصريين الذين لم تتح لهم الفرصة، يوم 29 يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، لاستيعاب حقيقة ما كانوا مقدمين عليه، كان شاب يقطع بخطى مسرعة ميدان التحرير ويفترش الأرض بأفرخ ورقية بيضاء كبيرة ومجموعة من الأقلام، ويدعو كل من يعبر الميدان للكتابة.. كتابة ما يعن له.

وبينما لا تزال الإسهامات النقدية التي تسعى لفهم وتأطير واستيعاب الثورة داخل الإطار النظري، قليلة وخجولة، منحت الأيام الـ18 للثورة المصرية نفسها ببساطة لأقلام من عبروا ميدان التحرير، وسجلوا مشاهداتهم وتجاربهم الذاتية، ويقول أحد المسؤولين عن إحدى المكتبات الشهيرة بالقاهرة: «معدل توزيع كتب الثورة مرتفع جدا.. هناك إقبال ملحوظ، حتى إن بعض الكتب صدر منها أكثر من طبعة واحدة خلال الشهور الماضية.. بشكل عام هناك إقبال متزايد على كتب شهادات من عايش الميدان في أيام الثورة».

لكن هذه الاهتمام الذي حظي به الحدث يمثل تحديا للباحث، بحسب الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زيادة المصادر حول حدث تاريخي يعادل بالنسبة للباحث نقصها»، يضيف الدسوقي: «هذه الكتب في معظمها انطباعية كتبها أناس تابعوا أخبار الثورة وتفتقر إلى الشروط العلمية للكتابة التاريخية، فلا تأريخ من دون وثيقة.. ربما يمكن اعتبار بعض هذه الكتابات بمثابة وثائق، لكنها تحتاج لإعمال منهج نقد النص، مع تراكم عشرات آلاف الصفحات التي عملت على تسجيل الحدث».

وربما ستظل القيمة التاريخية للأعمال التي حاولت رصد وقائع ثورة 25 يناير مجهولة لحين فحص الموجات المتلاحقة من الكتب، وحتى ذلك الحين كان بديهيا أن تحظى كتابات الشخصيات التي اشتهرت خلال الثورة بأهمية خاصة، وانتظرت السوق المصرية صدور النسخة العربية من كتاب الناشط وائل غنيم «الثورة 2.0 إذا الشعب يوما أراد الحياة».

يتناول كتاب غنيم يومياته مع الثورة التي كان واحدا من أبرز الداعين لها ثم المشاركين فيها، كما قضى أيامها الأولى معتقلا على يد نظام الرئيس السابق، حسني مبارك.

واشتهر غنيم الذي كان يعمل في مؤسسة «غوغل»، بعد إعلان اعتقاله من خلال جهة أمنية في الأيام الأولى للثورة المصرية، باعتباره أحد من روجوا لصفحة «كلنا خالد سعيد» على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، التي كانت من أبرز المحركين للثورة، وعملت دورا مهما في التنسيق بين شباب الثورة، وقد تم اعتقاله 12 يوما قبل إطلاق سراحه قبل يومين فقط من تنحي الرئيس السابق مبارك.

وفي محاولة للتعبير عن خيال الميدان المفتوح الذي ميز الثورة المصرية، لجأ الكاتب محمد فتحي في كتابه «كان فيه مرة ثورة»، لأن يترك صفحة الغلاف الخلفي بيضاء مع دعوة لكتابة كلمات عن تجربة القارئ نفسه خلال الثورة.. وقد بدت الفكرة براقة لبعض من تصفحوا الكتاب.

وفي أروقة مكتبة «الشروق» بوسط القاهرة، وهي إحدى أشهر دور النشر والتوزيع في مصر، تحمل أرفف الكتب نحو 19 عنوانا عن ثورة 25 يناير، ويقول أحد المسؤولين بالمكتبة لـ«الشرق الأوسط»: «ظلت كتب الصحافيين المشهورين الأبرز والأكثر توزيعا بين الكتابات التي تناولت الثورة، وخصوصا الصحافيين إبراهيم عيسى وبلال فضل بين الشباب، كما حظي كتاب الدكتور وحيد عبد المجيد (ثورة 25 يناير قراءة أولى) بالاهتمام، وصدر منه ثلاث طبعات»، تابع: «لكن منذ صدور كتاب وائل غنيم حقق تقدما ملحوظا في التوزيع وأصبح من الكتب الأكثر مبيعا».

كتاب عبد اللطيف المناوي الذي كان يشغل مدير قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري في عهد النظام السابق «قبل 25 يناير.. بقليل»، ويضم عشرات المقالات التي كتبها «المناوي» في الفترة ما بين يناير (كانون الثاني) 2010 ويناير 2011، ربما سبب ارتباكا بالنسبة لبعض القراء الذين ظنوا أن الكتاب يتناول وقائع الثورة خاصة أن المناوي بحكم منصبه اطلع على بعض ما دار بأروقة القصر، وقد صدر للمناوي بالفعل كتاب آخر هو «الأيام الأخيرة لنظام مبارك.. 18 يوم»، وهو أحد كتابين حاولا رصد موقف مؤسسة الرئاسة بالإضافة لكتاب الصحافي ونائب البرلمان مصطفى بكري «قصة الأيام الأخيرة». بحكم حقله المعرفي، اختار الدكتور محمد المهدي زاوية جديدة لرصد وقائع الثورة المصرية، وفي كتابه «عبقرية الثورة المصرية»، الذي واكب صدوره مرور عام على الثورة، تناول الكتاب التركيبات النفسية التي صنعت أحداثها، والمعنى النفسي الكامن وراءها، فلم يكن التوثيق الحي هو الهدف الأساسي له بقدر ما كان رصد العوامل النفسية التي حركت الأحداث، وصنعت التفاصيل.

وكتب المؤلف فصول كتابه في أثناء الثورة حين كانت الأحداث ساخنة، وبعضها كتبه في ميدان التحرير وأثناء المظاهرات نفسها، لكي تعبر عن رؤى حية للحظة في صورة عناوين ورؤوس مواضيع وأفكار، وحين كان الحدث يكتمل كان يقوم بملء الفراغات بمزيد من التفاصيل.

حمى الكتابة عن ثورة 25 يناير، طالت الصحافيين الغربيين الذين قدموا إسهاما لا بأس به في محاولة لرصد وقائع الثورة المصرية، وعلى مدار العام ظهر الكثير من الكتب من أبرزها كتاب «مصر التحرير»، عن دار نشر «الدورادو» للصحافيين الفرنسيين كلود جيبال وتانجى سالون، ويعرض الكتاب مشاهدات ميدان التحرير خلال أيام الثورة، ثم يحاولان في الفصول اللاحقة تفسير أسبابها عبر تقديم قراءة نقدية للسنوات القليلة التي سبقت الحدث.

كما أصدر الكاتب والصحافي الفرنسي «روبير سولي» كتابه «سقوط الفرعون» عن دار نشر «ليزارين»، وكتاب «مصر الحاضر...تحليل لمجتمع ما قبل الثورة» عن دار نشر «سندباد» للباحثين فانسان باتيستي وفرنسوا ايرتون، الذي يتناول الأوضاع والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر قبيل الثورة. وأصدرت دار نشر «ميشيل لافون» كتاب «مصر.. بدايات الحرية» للناشطة السياسية المصرية شاهيناز عبد السلام، المقيمة حاليا في باريس، والصحافي تانجي سالون، الذي تتحدث فيه شاهيناز عن تجربتها كناشطة سياسية في عهد الرئيس السابق مبارك، بحسب تقرير بثته وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية.

فيض كتابة عن الثورة المصرية بدا بالنسبة للبعض أحد أعراض حالة التربص التي تواجهها الثورة، تقول الناشرة المصرية سمية عامر لـ«الشرق الأوسط» إن «الجنون بذاته قد مس المطابع ودور النشر بحثا عن طريقة للاستفادة من الثورة أكثر من الاهتمام بتقديم منتج فكري ثري.. هناك من يمكن تسميتهم بالمنتفعين من الثورة في وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة وحتى في الساحة السياسية، ويقينا المجال الثقافي ليس بمنأى عن هذه الروح.. فقد حشرت تميمة 25 يناير حشرا في عناوين كتابات لا علاقة لها بالثورة من قريب أو بعيد».

وتبدو الأعمال الأدبية في الطريق لتلحق بهذه اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد، وقد بدأت البشائر الأولى عبر مجموعة قصصية للقاص المصري فؤاد قنديل، وحملت عنوان «ميلاد في التحرير»، لكن تنوع الفنون بزخمها الذي تجلى في ميدان الثورة، ربما يدفع بالمزيد من الإبداعات إلى المطابع، وهو ما يطالعنا في رواية مصورة بعنوان «18 يوما» صدرت في عمل مشترك جمع رسومات للفنانة التشكيلية حنان الكرارجي وسيناريو وحوار محمد هشام عبيه، في محاولة لاستكناه حرارة المشهد الذي لم تهدأ سخونته بعد على أرض الواقع.