عاشق خورفكان.. وحامل شعلة الحداثة في الإمارات

الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني الذي رحل أخيرا

الشاعر أحمد راشد ثاني
TT

ودّع خورفكان، وهو يستمع إلى هدير البحر، الذي ضبط على إيقاعات موجاته، في هيجانها وسكونها، كتابة قصائده الواحدة تلو الأخرى. وحين ودعها، لم يجد مأوى لها سوى جبالها، فكانت بعض أحلامه أن يُدفن على أحد قممها، وبالأحرى على رأس شجرة نابتة في الأعالي.. خورفكان هي الرحم الذي ولد منه الشاعر الإماراتي الراحل، أحمد راشد ثاني، قبل أيام، عن عمر يناهز الخمسين، وهو في قمة عطائه.

بقلب منهك، تنخفض نبضاته تارة، وترتفع تارة أخرى، كان يمسك بيد قلمه، وبيد أخرى يقيس نبضات قلبه حتى اعتاد اضطراباته وتقلباته، وتصالح معه، فوجد مرضه تتحول بين يديه إلى مادة أدبية في أحد نصوصه: «انتفاخ في القدم، ضيق في التنفس، انقباض في عضلة الكتف، كل هذه الأعراض أو بعضها، إضافة إلى أعراض أخرى، أو من دون إضافة، تجعلني أقرر في لحظة من الليل أو النهار الذهاب إلى المستشفى، أقصد قسم الطوارئ، وأقول أول ما أدخل لمن يسألني، كما لو أنه تعريف بجنسي: أنا مريض بالقلب، وإذا ما سئلت عن الأعراض، فسأذكر عرضين أو ثلاثة فتركض نحوي الممرضة بالكرسي المتحرك، وما إن تضع حول يدي ورقة بالاسم والرقم الصحي حتى تهرول بي نحو السرير، حيث ستعشعش على ظهر يدي إبرة المغذي المفتوحة، ويمتلئ صدري ببقع رصد نبضات القلب الزرقاء، ويقتحم أنفي أنبوبا الأكسجين كإطفائيين يكافحان حريقا».

انطفأ الحريق وانقطع الأكسجين ومات الشاعر.

كان الراحل متمردا على القوالب الأدبية الجاهزة وعلى السلوك الممتثل، لأنه لم يكن يرى وجوده في انفصالهما. فقد تعلق بالأرض وحكاياتها الشفاهية أكثر من تعلقه بما هو مكتوب ومؤسس. خاض كتابة الشعر، يتنقل بين الفصحى والعامية، بين الشعر والسرد، لا يجد في العامية سوى ألق الماضي والتعبير العفوي الفلسفي الذي صاغه الأجداد.

لم يختزل الحياة إلى صنف أدبي دون آخر، فكان يكتب حكايات، وقصائد، ومسرحيات، ومرويات، ونصوصا سردية وتراثية، ويوميات وسيرة ذاتية، تعانق بعضها لتكوّن هذا الشريان المتدفق؛ مزيج من الشعر والنثر، قلّ نظيره في الأدب الإماراتي.

ومثل الشعراء الكبار، تناثرت سيرته الذاتية، في كتبه «على الباب موجة» و«ورقة السرير»، وكتب أخرى، جال فيها وتسكع بين البحر والجبل، وفوق قمم جبال خورفكان وثنايا سهولها حيث انصهرت روحه الشعرية. ففي الوقت الذي يصطاد فيه الصيادون الأسماك، كان الراحل يرمي بشباكه ليصطاد الموجة إثر الأخرى، ويراقصها على شواطئ مدينته وأحيائها؛ المعترض والمديفي وباب الجبل وباب البحر. وأحيانا يقدم تلك الموجات كهدايا إلى العابرين. اصطياد الموجة هو كتابة القصيدة، عندما يرهف سمعه إلى أساطير البحر وأسراره التي تلهب ذهن ذلك الطفل الصغير، وهو يلهو على شواطئها في وقت مبكر، فولدت بين يديه مجموعة «على الباب موجة»، حكايات زاخرة ظل ينهل منها طوال حياته. وما إن خرج من معطف سيرة عنترة وديوان عبد الرحيم البرعي، وفتوح الشام للوافدي، والأسفار التراثية التي أهداها له والده الذي كان يعمل في البحر، حتى شب عن الطوق، ليكتب قصيدته. فكتب ثماني مجموعات شعرية على مدى ربع قرن، تعانق تفاصيل تجربته الشخصية، بفرحها وحزنها، وتختزل حياة بكاملها، إلى أن تطورت أدواته في ديوانه الأخير «الفراشة ماء مجفف»، وهي قصيدة واحدة بـ61 جملة شعرية مرقمة، تفصل بينها مساحات واسعة من البياض، تكمل سطوره.. لعبة شعرية أجادها الشاعر الراحل، ليس بوصفها تجديدا في الكتابة بقدر ما هي ترجمة لسيرة حياة، قابلة لكل التأويلات. وفي كل ذلك، مهما ارتحل، فهو لم يرحل عن خورفكان أبدا، لا جسدا ولا روحا ولا تفكيرا ولا إبداعا، بل ظل مسكونا بها بوصفها جغرافيا روحية صاغت مخيلته وإبداعه.

لم يكن يكتب الشعر بمعزل عن الحياة الثقافية، يداعب مخيلته مشروع متكامل، بوجوه متنوعة. ومنذ سنوات التسعينات، وضع لبناته الأولى، انطلاقا من التراث، ومعانقة الحداثة الشعرية. وكان لقاؤه مع الشاعر محمد الماغوط الذي أقام في الشارقة لسنوات، أثر في توجهه الشعري، فقام بربط كتابة القصيدة بالبحث الميداني، ناهلا من النص المفتوح، بكل تداعياته وتأويلاته من أجل تأسيس رؤيته الخاصة للكون والوجود.

تميّز في أيامه الأخيرة بغزارة الإنتاج، بحثا وشعرا ودراسة، ينشرها في الصحف والمجلات والكتب، ويبرع في تدوين جزء من تراث الإمارات الشفاهي، مؤمنا أن «الجزيرة العربية تعوم على بحر من التراث الشفاهي»، من حكايات شعبية وخزين مدفون في نفوس كبار السن، لا بد من تدوينها قبل فوات الأوان، وكل ذلك بجهود شخصية بعيدا عن المؤسسات. عمل على توثيق كل ذلك في كتب، فالكلمة باقية، والكلام في مهب الريح، كما يؤمن.

وقام برصد الأدب الشفاهي المحلي، روح الإمارات وجوهرته المختبئة الذي كان يخشى عليه من الضياع، لذلك انكب على تدوين تفاصيله في كتب ومجلدات. فأصبح الكتاب أحد ملامح حياته اليومية، كقارئ وكاتب ومكتشف لنفائسه عبر عمله في عدد من المكتبات الإماراتية. أسس مع رفاق له مكتبة خورفكان، ثم مكتبة كلباء، وعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم المجمع الثقافي، لتستقر به الرحلة الأخيرة في دار الكتب الوطنية بأبوظبي.

كان الراحل متعدد المواهب، وإن كان الشعر شاغله الأول والأخير، فقد ترك بصمته الخاصة على المسرح الإماراتي، من خلال كتابة نصوصه، باعتراف زملائه المسرحيين: أحمد الجسمي وإبراهيم سالم ومحمد العامري وغيرهم. فأطلقوا عليه لقب «عاشق البحر والعشق والنخيل» في نعيهم لأنه أحدث انقلابا في الكتابة المسرحية وهو لا يزال في ريعان الشباب، حينما كتب مسرحية «جزر الواق واق» وهو في الصف الثالث الإعدادي.. ثم أتبعها بالكثير من المسرحيات، وأسس ورفاقه فرقة المسرح الحرّ، التابعة لجامعة الإمارات، وكذلك من خلال انضمامه لمسرح خورفكان الشعبي في عام 1979، فكتب «الأرض بتتكلم الأردو» - أي رافد من روافد اللغة الهندية التي يستخدمها الهنود في الإمارات وتكاد تطغي على اللغة العربية أحيانا - التي شاركت في مهرجانات عدة وأثارت ضجة في حينها لجرأتها وملامستها لمشكلة جوهرية في المجتمع الإماراتي. وكتب مسرحية «العب وقول الستر» ومسرحية «قفص مدغشقر» كليهما في عام 1987، ليغلق بعدها باب المسرح بكتابته مسرحية «راشد الخضر» وهي مسك ختام نصوصه المسرحية.

في نهاية المطاف، لم يكن الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني راضيا لا عن تجربته ولا عن تجارب الآخرين، فكان يسعى للارتقاء بالإبداع الأدبي إلى أقصى مداه من خلال ربط المنجز الأدبي بتعقيدات الواقع اليومي والحياتي والثقافي، وفي حالة القصور عن ذلك، كان يرى إشارات التراجع والارتداد الثقافي في الإمارات. هكذا كان يرى الحداثة الشعرية عبر رؤية المتناقضات، وربط الخاص والعام، إذ تتجلى حداثة الشاعر الراحل في استخدام اللغة المغايرة، والانتقال بالفعل الإنساني إلى جوهر الشعر، والتعبير عن التحولات السياسية والاجتماعية، عبر شكل القصيدة ومضمونها.

لقد تخلص من الأنماط القديمة، حتى لو نزع نحو التراث والشعر القديم. وفي هذا، يعترف عدد كبير من النقاد والكتّاب والمثقفين الإماراتيين أمثال علي بن تميم وعادل خزام ومسعود أمر الله وعمر غباش وجمعة القبيسي وغيرهم، ممن كتبوا عن رحيله أنه كان علامة فارقة في تاريخ الثقافة الإماراتية، وأحد مؤسسي المشهد الشعري، وحالة استثنائية في الأدب العربي.