حيرة مراسلة صحافية في سوريا الأسد

تمكنت فرنسيس أن تذكر كثيرا من النوادر التي تلقي الضوء على الجانب الأشد إظلاما من الحياة

TT

سل أي مراسل صحافي ناجح أين يحب أن يكون الآن، وسيجيبك على الفور «في سوريا»، حيث يدرك الصحافيون أنه يتعين عليهم التعامل مع نوعين من الأشياء هما الأحداث والاتجاهات الخفية. وتعني الأحداث تلك الأشياء التي تحدث في لحظة ما (إذا جاز التعبير) في إطار معين، مثل الانتخابات أو نشوب حريق هائل أو تنظيم حفل موسيقي كبير، أما الاتجاهات الخفية فهي عبارة عن تسلسل الأحداث التي تشكل، على المدى المتوسط والمدى البعيد، نمطا متماسكا ومترابطا. وبخلاف الأحداث التي تكون واضحة لكل ناظر لديه ما يكفي من الفضول، فإن الاتجاهات الخفية تمر غالبا من دون أن يلحظها أحد، إلى أن تؤدي إلى حدث كبير.

وتتزامن الأحداث والاتجاهات الخفية في بعض الحالات النادرة، مما يعطي للمراسل الجريء كنزا من الفرص الصحافية. وفي الحقيقة، تعد سوريا، التي تمر بحالة خاصة من الربيع العربي، واحدة من هذه المناسبات النادرة في الوقت الراهن.

إن سوريا تصنع التاريخ الآن كبلد يحارب من أجل بناء مستقبله، وهذا هو الاتجاه الخفي. لكن هناك أيضا سيلا من الأحداث، مع محاولة الجماعات المسلحة الخاصة والتابعة للرئيس بشار الأسد غزو معاقل الثورة مثل حمص وحماه وإدلب ودرعا وغيرها. والمحزن في الأمر أن سوريا ما زالت مغلقة أمام معظم الصحافيين القادمين من العالم الخارجي، في حين أن الصحافيين المحليين إما يرددون، كالببغاء، ما تقوله آلة الدعاية الرسمية، أو يعانون الإهمال داخل سجون بشار الأسد.

وقد تمكن السفير السوري في لندن من منح اثنين من مراسلي «بي بي سي» تأشيرتي دخول لبضعة أيام، ولكن بمجرد دخول سوريا تم احتجاز أحدهما في دمشق، بينما اضطر الآخر للاختباء في إحدى البنايات في حمص تحت نيران القصف المستمر من القوات الموالية لبشار الأسد. والأسبوع الماضي بلغت الأمور ذروتها في ما يتعلق بتغطية الثورة السورية، مع مقتل ماري كولفين المراسلة الحربية الكبيرة لدى جريدة «صنداي تايمز» اللندنية، وريميه أوشليك المصور الإخباري الفرنسي، في قصف جديد من قوات الأسد على حمص.

وللمرء أن يتخيل مدى إحباط وسائل الإعلام التي تضطر للاعتماد على موقع «يوتيوب» والرسائل المتبادلة عبر غرف الدردشة لتخمين ما يحدث في سوريا. وفي ظل هذه الخلفية يمكن للمرء أن يتخيل ما يمكن أن يشعر به الإعلاميون من حماس تجاه شهادة حية عن المأساة السورية من مراسل محترف.

وهذه الشهادة قدمتها بالتحديد غدي فرنسيس، وهي صحافية لبنانية شابة تعمل في تلفزيون «الجديد» وتكتب لجريدة «الأخبار» اليومية في بيروت، وقد قامت دار «الساقي» بنشر هذه الشهادة في شكل كتاب بعنوان «قلمي وألمي: مائة يوم في سوريا».

ومنذ البداية بدا واضحا أنه رغم إحساس فرنسيس ببعض التعاطف مع نظام بشار الأسد، فهي أيضا على قدر عال من الاحترافية منعها من الانزلاق في الدعاية التي يشنها النظام البعثي، فهي تروي بدقة متناهية موقف مؤيدي النظام - الذين تقدرهم بنحو 20 في المائة من السكان – من دون أن تقر بذلك. وفي الوقت ذاته تحاول أن تسلط بعض الضوء على المعارضة التي تقول إنها أكثر انقساما مما يفترض الكثيرون خارج سوريا. وقد قامت بتجميع عدة حوارات أجرتها مع عدد من قادة المعارضة، وهذه الحوارات يمكن أن تساعد على تجميع الأجزاء المتفرقة من الصورة.

وأكثر ما يجعل شهادة فرانسيس مثيرة للاهتمام هو أنها ليست من أولئك المراسلين المتعجلين الذين يطيرون إلى العاصمة ويتحدثون إلى سائق التاكسي أثناء الطريق من المطار إلى الفندق ويلتقون ببضعة مسؤولين ثم يعودون ويدعون أنهم خبراء في شؤون ذلك البلد، بل على العكس، تدعي فرنسيس أنها لا تعرف شيئا عن سوريا، وأنها تلميذة تسعى دوما للتعلم من أكبر كم ممكن من الناس ذوي الخلفيات المختلفة.

ومن شهادة فرنسيس، يبدو الرئيس الأسد شخصا مصابا بجنون العظمة ومحاطا بمجموعة من المتملقين المصممين على تأجيج نيران العجرفة بداخله، بل ربما يكون سجينا لبلاط فاسد وشرير من كبار المسؤولين الأمنيين وزعماء الطائفة العلوية وأباطرة الفساد.

ومن وجهة نظر فرنسيس أن جدليات المأساة السورية هي من صنع نظام لديه الاستعداد لتدمير البلاد على أمل البقاء في الحكم فوق أطلالها من ناحية، ومعارضة مصممة على عدم الاستسلام حتى لو دمرت البلاد من الناحية الأخرى. وقد تمكنت فرنسيس أن تذكر كثيرا من النوادر التي تلقي الضوء على الجانب الأشد إظلاما من الحياة في سوريا. ويذكرنا وصفها لتصرفات قوات الأمن بالطريقة التي كان يعمل بها جهاز المخابرات السوفياتي (كيه جي بي)، وهذا ليس مفاجئا على الإطلاق، حيث أسهم الـ«كيه جي بي» في تأسيس جهاز الاستخبارات السوري وتدريبه منذ الستينات حتى الآن. كما نلتقي أيضا بمسؤولين وتكنوقراط لم يساوموا من أجل أن يحكم الأسد «بالحديد والنار»، وهؤلاء هم بالأساس أفراد ليست لهم علاقة بالسياسة دخلوا مجال العمل العام على أمل الحصول على وظيفة جيدة وراتب كبير ومستقبل آمن لكن من دون التورط في إراقة الدماء، وهم اليوم لا يستطيعون التخلي عن النظام حتى ولو بسبب أن المعارضة لن ترغب في احتضانهم.

إن تجربة فرنسيس تبرز ما كان يدركه الكثيرون منا طوال الوقت، وهو أن نظام الأسد لا يتسامح مع كل ما له علاقة بالمراسلين المستقلين، حتى لو كان من صحافية لديها قدر من التعاطف معه. وقد انتهى المطاف بفرنسيس إلى الوقوع في قبضة قوات الأسد وطردها من سوريا واعتبارها شخصا غير مرحب به. لكن على الأقل، ما قامت به من عمل يستحق ما واجهته من متاعب ومعاناة.