فك شفرات الجسد في الرواية الإماراتية

دلالات المنزل والمدينة والصحراء والبحر والمقهى.. والرجل والمرأة

TT

صدر عن دار «قلم» بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، كتاب نقدي يحمل عنوان «الجسد في الرواية الإماراتية»، للدكتور رسول محمد رسول. يتضمن الكتاب مقدمة وافية وأربعة فصول، وهو مسرد بالمصادر والمراجع التي اعتمدها في بحثه النقدي.

وصف رسول هذه الدراسة بأنها ضرب من المغامرة، لأن موضوع الجسد، بحسب رأيه، لم يُطرَق من قبل في الرواية العربية عموما وفي الرواية الخليجية والإماراتية على وجه التحديد. وهذا يعني أن مغامرته النقدية سوف تفتح آفاقا ريادية جديدة.

يعتقد الباحث أن الكثيرين لا يفرّقون بين الجسم والجسد، بل إن بعض الناس يتساءلون باستغراب عن طبيعة هذا الفرق وماهيته! ولتبديد هذا الغموض الذي يحيط بكلمة «الجسد» تحديدا التجأ الباحث إلى السيميائية بوصفها معنية بدراسة اللغة من زاوية الدلالة. فالسيميائية، كما يفسرها سعيد بنكراد، هي «كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة.. إنها تدريب للعين على التقاط الضمني والمتواري والمتمنع، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكنونات المتن». وطالما أن د.رسول يحاول الإمساك بهذه الدلالة المتوارية لذا أوجبت عليه الاشتراطات البحثية الدقيقة أن يتبنى المقاربة السيميائية في تحليل عدد من النصوص الروائية الإماراتية.

يعرّف الباحث في الفصل الأول من كتابه بأن مصطلح الجسد أو الـ«Metabody» هو «كينونة رمزية وإيحائية وإشاراتية وعلاماتية وأيقونية تضاف إلى الأجسام من خلال تمثيل الإنسان لها»، لكن هذه الرموز والعلامات تحتاج إلى من يلتقطها. وقد شبهها الباحث بأنها «شبكة متخفية من القوى الحاثة على ظهور الجسد». وبطبيعة الحال فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يخرج هذه الشبكة المتوارية من دياجير الأجسام القارة ومثوياتها الراكسة والمحجوبة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن «الجسد» هو كينونة افتراضية «بعدية»، لكنها ممكنة الوجود والتصير والحضور. ويسوق الباحث أمثلة عديدة في هذا الصدد، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى «جسم» المرأة بوصفه كينونة مكانية لها جغرافيتها الخاصة، لكن صاحبة هذا الجسم حينما ترتدي ثوبا يتناسق مع بنيتها فهي تخرج جسمها من مكانه الطبيعي إلى مكانية جسدية تتوفر على معطيات جمالية جديدة.

يركّز الباحث في الفصل الثاني على جسدية الأشياء، ويختار منها سبع جسديات شائعة، وهي جسدية المنزل والمدينة والصحراء والبحر والمقهى، إضافة إلى الجسدية الذكورية والأنثوية. وتعتمد بعض معلومات هذا البحث عن خبرات الكاتب وملاحظاته الشخصية، فلا غرابة أن يتحدث عن منزلهم القديم الذي كان آيلا للسقوط، ومنزلهم الجديد الذي شيدوه لاحقا حيث سكنت عمته إحدى غرفه التي أحبها الباحث لأنها مرتبطة بالحكايات التي كانت ترويها له عمته قبل أن ينام، لكنه سوف يكره هذه الغرفة تحديدا بعد وفاة عمته لأن جسدية الغرفة قد تحولت من جسدية سعيدة إلى جسدية محزنة.

ويؤكد الباحث أن العاصمة أبوظبي توحي بأبنيتها الشاهقة وأبراجها العالية وكأنها كتلة من الأجسام الغريبة الشاذة على جسد المدينة. وحينما يلج الزائر أو حتى المواطن الإماراتي إلى قلبها ستتفكك المدينة إلى وحدات سكنية صغيرة، لكن يظل «قصر الإمارات» هو العلامة الجسدية الفارقة ربما لطرازه الأصيل، أو لتشبثه بشاطئ البحر، أو لجسديته التي تخلصت من كتله الجسمانية الفظة وتماهت كأنموذج بصري يسر الناظرين. لا بد من الإشارة إلى أن جمالية جسدية الصحراء تكمن في سعتها وجلالها وتغيرها المتواصل، وهذا الأمر ينسحب على البحر في سعته وغموضه وكثرة الأحياء التي تعيش أعماقه وتؤثث فضاءه الجسدي. وتتبع الباحث جسدية المقهى والتغيرات الجوهرية التي طرأت عليه حتى أصبح بالشكل الذي نراه الآن، شاشات سكرين عملاقة، وإنترنت يكاد يختصر العالم في حاسوب، وفتيات خدمة في غاية الأناقة والجمال، بينما كان صاحب المقهى هو الخادم الوحيد الذي يلبي طلبات الزبائن الكثيرين الذين يحتشدون في جسم المقهى لكي يضفوا عليه جسدية جديدة. هذه الأناقة التي أشرنا إليها توا والاهتمام المفرط الذي يبديه الرجال والنساء على حد سواء هو الموضوع الذي سماه الباحث بالجسدية الذكورية والأنثوية، فمثلما يهتم الرجل بمظهره الخارجي، وقص شعره، وحلاقة ذقنه، ومشق حواجبه، فإن الأنثى تتبع الأسلوب ذاته في تقنيتي الحجب والإظهار حيث تزيل شعر الوجه، وتزجج الحاجبين، وتطلي أظافر اليدين والقدمين، وتضمّخ نفسها بأفضل العطور، وترتدي الملابس الجميلة المتناسقة بغية لفت انتباه الرجل. ولأن الموضوع ينصب على الرواية الإماراتية تحديدا فقد ركز الباحث على الملابس الخليجية وطريقة تزيينها بالقطع الفضية والذهبية والفسفورية التي تتناسب مع الحلي الذهبية التي تضعها المرأة في أنحاء متفرقة ولافتة للانتباه من جسدها.

يقسم الباحث الجزء الرابع والأخير من الكتاب إلى ثلاثة أقسام وهي الجسدية الأنثوية وجسد البحر والجسدية الذكورية، حيث يرصد في القسم الأول ستة أجساد ممطورة وضالة ومستعارة وما إلى ذلك. ففي رواية «رائحة الزنجبيل» لصالحة غابش نواجه الجسد الممطور للدكتورة علياء الغافي، حيث تنقعت ملابسها تحت المطر حتى التصقت بمعالم جسدها. ولا يختلف جسد «لطيفة» عن الجسد الممطور لعلياء، لكن مريم الغفلي أضافت أفعالا جديدة طارئة على جسد بطلتها المنقوعة في الماء، كالارتجاف والتعرق والخرس والإحساس بالحصار، الأمر الذي منح جسد الضحية علامات أيقونية خارجية وداخلية شديدة الإيحاء جعلتها بالنتيجة تبدو مثل حورية أو ملاك. في رواية «للحزن خمسة أصابع» يصف ناصر جسد خلود بأنه «ضال» من دون أن يفصح عن طبيعة هذه الضلالة إن كانت نفسية أم أخلاقية أم وجودية. ثم يتحامل مطر بن محارب، بطل رواية «الغرفة 357» لعلي أبو الريش، فيصف خادمة الفندق السريلانكية بأنها غبراء وشعثاء ومرتجفة لأنها فوتت عليه فرصة اللقاء بمادلين، الفتاة الشقراء التي أحبها حبا جما، وأفضى هذا الحب إلى ضياعه في الصحراء بحثا عن قبر أمه. أما «نسمة» بطلة رواية «الحب المدمر» لسمية محمد العكبري، فإنها تظهر بصورة الجسد المستعار، حيث يوثق والدها صورها منذ طفولتها حتى اللحظة الراهنة التي لا تخلو من تجليات بصرية جميلة في الرصد والالتقاط. ربما لا يحتاج أن نتوقف طويلا أمام المرأة المبتلة في رواية (الطائر بجناح أبعد منه) لناصر الظاهري، لأنها لا تختلف كثيرا عن المرأتين الممطورتين حتى وإن توافرت الشخصية الثالثة على علامات جسدية إيجابية، مثل الاسترخاء والدفء ورائحة الطهر. يتوافر البحث على أكثر من قراءة لجسدية البحر، ويكفي أن نشير هنا إلى رواية «حلم كزرقة البحر» لأمنيات سالم.

أما القسم الثالث والأخير من هذا الكتاب فيتضمن قراءة متفحصة للجسدية الذكورية في ثماني روايات لعل أبرزها «الجسد الراحل» لأسماء الزرعوني، التي تتبعت جسدية عيسى المزلاي الذي غادر المكان ككينونة بدنية، وظل حاضرا كعلامة أيقونية موحية، ورواية «ملائكة وشياطين» لباسمة يونس، والتي رصدت جسد شقيقها المعلول بمرض نقص المناعة وما خلفه هذا المرض الخبيث من هزال ونحول وروائح حمضية مقززة تنطوي على علامات أيقونية شديدة الإيحاء في رسم أبعاد الجسد المعطوب.

وفي الختام لا بد من الإقرار بأن كتاب «الجسد في الرواية الإماراتية» للدكتور رسول محمد رسول يسد فراغا كبيرا في الثقافة العربية التي لم تخض كثيرا في هذا المضمار.