متى بدأت؟ لا أدري

بشير مفتي *

TT

قد أرجع ذلك إلى فترة طفولتي، ولكن، هل كنت أكتب حقا؟ اكتشفت موهبة رسم الحروف، فكنت أملأ كُرّاستي بالحروف والكلمات التي لا معنى لها.. أرسمها حتى ينتهي ورق الكراسة، فأصرخ وأبكي حتى أحصل على كراسة جديدة أملأها بالحروف التي لا أعرفها ولا أفهم دورها على الورق.. ثم نسيت.. نعم نسيت كل ذلك لاحقا. لم أكن تلميذا مثاليا ولا ناجحا في التعليم، بل كنت أكره التعليم، وأحب اللهو واللعب، وكلما ابتعدت عن التعليم، شعرت بسعادة حقيقية كأنها الحرية.. أن تكون بعيدا عن السلطة التي كنت أراها مجسدة في مؤسسة التدريس بدءا من المعلم، إلى المدير، إلى الحراس.. إلخ، وكل هذا لأن الظروف القاسية تجعلك أحيانا لا ترى في التعليم أي فائدة تذكر، عكس ما كان يراه أبي الذي كان يلح علي لكي أدرس وأتعلم وأصبح موظفا محترما يكسب نقودا. أما أنا، فكنت بحاجة إلى نقود، أين النقود؟ لم تتحسن ظروف العائلة إلا بعد أن كبر إخوتي وبدأوا يعملون في مهن مختلفة؛ واحد ساعي بريد، والآخر موظف في شركة وطنية للطرقات، وأكبرهم أكمل الدراسة الجامعية وصار أستاذ رياضيات بالثانوية وكان هو القدوة الحسنة في هذا المجال لمن بقي ينتظر صعوده هو الآخر إلى مرحلة الكبر والعمل وتحمل المسؤوليات.

أبي كان رجلا عظيما، لكنه فقير؛ بالكاد كان يوفر لنا ما نمسك به رمقنا.. في المدرسة الابتدائية، كان معلم العربية يفرض علينا أن نقرأ قصص الأنبياء والرسل والأبطال، مقابل أن ندفع لمكتبة الفصل مبلغا زهيدا. قرأت المئات من القصص المخصصة للأطفال، وقصص الأنبياء، وسير أبطال العرب.. إلخ. في البداية، قرأت خوفا من العقاب لأن من لم يكن يقرأ كان يعاقب أشد العقاب، ثم استمتعت بذلك الذي رحت أقرأه حبا فيه لا غير.

أما في المرحلة الثانوية، فكنت أدرس بقسم فيه سبعة ذكور وثلاثون فتاة، وكان أغلب الذكور ميالين للعب كرة القدم، ويكرهون الدراسة، وكنت معهم في ذلك. غير أني اكتشفت القراءة النوعية عن طريق العقاب. أخي فرض علي أن أقرأ رواية لنجيب محفوظ، قرأتها بشق الأنفس وتعبت في فك لغزها، فلم أكن أفهم ما يحدث فيها، وطريقة كتابة محفوظ بدت لي معقدة، وعندما لاحظ أخي معاناتي في قراءتها أعطاني رواية لإحسان عبد القدوس، التهمتها بسرعة وعشقت أسلوبها كذلك. وفجأة، دون حتى أن أنتبه، شعرت بأني صرت أعشق قراءة الكتب، وكل وقتي يذهب في الانعزال والغرق بين صفحات تلك الأوراق المدهشة التي تنقلك من عالم إلى عالم آخر.

وجدت مكتبة أخي أستاذ الرياضيات ممتلئة عن آخرها بالروايات.. جرتني تلك الروايات التي قرأتها إلى حب الكتابة من جديد، وبدأت أكتب خواطري الأولى ويومياتي الأولى، وكنت مع الوقت، أشعر بالحاجة إلى أن أقرأ أكثر، وأكتب أكثر، كأن هناك تلازما بينهما في ذهني، وبدأت مع الوقت أتلذذ بفعل الكتابة بوصفه شيئا فيه متعة لا نهائية.. ساعدتني قراءة حياة الكتاب على حب الأدب؛ على رأسهم هنري ميللر الذي تحكي رواياته بكاملها عن رحلته مع الحياة وتعلم الكتابة.. «يوميات كافكا»، ومؤخرا فقط قرأت «إنها تجربة» لأرسين كالدويل، و«مذكرات تينيسي ويليامز»، و«عالم الغد» لستيفان زفايغ.. كذلك عشرات التراجم قرأتها لكتاب من كل العالم. كنت أفرح حين أقرأ السيرة الذاتية لكاتب ما، وأنا أفتش عن تلك اللحظة التي يشعر فيها أنه بلغ مقاما في الكتابة؛ المقام الذي تمناه، وحلم به طويلا، وكل حياته ما هي إلا طريق لتحقيقه. ولكن حتى أعظم الكتاب وأبرعهم تعلمت منهم درس الشك.. عدم الثقة، واليقين الغائب، وأن الكتابة هي محاولة متواصلة، ونقص دائم، ورغبة أبدية في طلب الكمال.

لقد كنت وأنا أقرأ سيرهم وحياتهم أحلم أن أصل، بدوري، إلى تلك اللحظة السحرية، التي أشعر فيها أني بدأت الكتابة بالفعل، وأن الكتابة ستصبح دنياي الحقيقية، وعالمي المفضل، وعندما بدأت أشك في كل ما أكتبه، أحسست بأني بدأت أكتب حقا.

* روائي جزائري