مارسيل خليفة لـ «الشرق الأوسط»: أقوم بجولة عالمية عنوانها محمود درويش

سيمفونية وأسطوانتان جديدتان تلتحم فيها موسيقاه بقصائد شاعره الأثير

مارسيل خليفة
TT

عملان جديدان لمارسيل خليفة؛ سيمفونية «العائد» التي قدمها مؤخرا في قطر، وأسطوانتان جديدتان بعنوان «سقوط القمر»، قصائد مغناة لمحمود درويش، مستعيدا صديقه الحميم وكأنه لم يرحل. بمناسبة هذين العملين أجرت «الشرق الأوسط» مقابلة في العاصمة اللبنانية بيروت مع خليفة، الذي أراد التحدث عن مصادر إلهامه، عن جده وأمه، عن علاقته التوأمية بمحمود درويش، وعن رؤيته للثورات العربية والسلطة. مقابلة أشبه بنص كتبه مارسيل خليفة، لاعبا كعادته على وترين: البوح من جهة، والهروب بالشعرية من حرج بعض الأسئلة من جهة أخرى.

* جديد مارسيل خليفة الذي قدمه مع أوركسترا قطر الفلهارموني في ثلاث أمسيات بدار الأوبرا في الدوحة سيمفونية «العائد». الاسم في حد ذاته يحمل إيحاءات كثيرة؛ أي «عودة» اليوم؟ وإلى أين؟ في زمن الثورات العربية.. بماذا تتميز السيمفونية الجديدة عن أعمالك الموسيقية السابقة؟

- أكتب متحررا من كل شيء، وعندما يصبح لديك ما تقوله حقيقة، سوف تثير بالتأكيد الإعجاب لدى البعض والرفض لدى البعض الآخر. وإذا نظرنا إلى أوركسترا يحتل خشبة المسرح لا نستطيع إعطاء اسم لأي من وجوه العازفين على الرغم من أن الجميع يستحق التقدير والإعجاب بالدرجة نفسها، كما كل العازفين البارعين الذين فضلوا المجد الفردي على الذوبان الرائع في الأوركسترا. العازفون يرسمون بآلاتهم الموسيقية الألوان المحددة من المؤَلّف. الأوركسترا لوحة تتضمن كل ما يؤلف اللوحة من خليط الألوان ومن ريشة الفنان، ومن ذلك الانفعال الذي يولد التفاصيل. هناك نوع من الجمود وانعدام الحياة فيما يوجد على الورق، ولكن العازف يقرأ النص والنص يصبح مستقلا عن المؤلف. وكي يعزف النص يجب استيعاب العملية التي أدت إلى وجود هذه النوتات على الورق، فهي مرتبطة بسلسلة من الأحاسيس الغريزية وبسلسلة من التخمينات في الأسلوب، وفي إعادة إنتاج الصوت بحيث يجذب الانتباه بالجديد، وإعطاء دفع أو شكل جديد في كل مرة تعزف فيها المقطوعة.

* ما الذي يميز الموسيقى عن غيرها من الإبداعات الأخرى؟

- الخارق في الموسيقى هو عدم إمكانية تكرارها، الصوت سريع الزوال، يمر ولا تستطيع أن تستعيده عندما تشاء، ليس كاللوحة تراها والكتاب تفتحه. تختلف الموسيقى عن الكلمة المكتوبة لأن الموسيقى تولد فقط عندما يتم إصدار الصوت. الموسيقى موجودة في مخيلة المؤلف تابعة لقانون الفيزياء، يتخيلها المؤلف في عقله، يستخدم التدوين الموسيقي بتلك النقاط السوداء على ورقة النوتة البيضاء المسطّرة وتولد الموسيقى فقط عندما تُعزف، لا يمكن تكرار الأداء بأي شكل من الأشكال حتى لو تم تسجيله على شريط سيكون مختلفا، ولا يكون الشيء ذاته. فعندما نكرر المقطوعة في كل مرة يكون الأداء مختلفا؛ وعندما تنتهي المقطوعة يختفي الصوت.

* متى كتبت هذا العمل؟ وفي أي ظروف؟

- العائد يشبه ذلك الصوت الذي لا يتكرر. نعود ولا نرى الأمكنة والأشياء التي نعرفها، ولكننا نتخيل الذي كان. عدت إلى ضيعتي بعد هجرة قسرية دامت 19 سنة، وكتبت هذا العمل المؤلف من أربعة أجزاء أو حركات.

عندما كنت صغيرا لم أدرك أن الكبار كانوا صغارا مثلنا. ذات يوم كنت أعتقد أنهم خلقوا كبارا ولم يكن لهم طفولة. كانوا يوهموننا بأنهم يعرفون كل شيء؛ يسرقون منا طفولتنا المنذورة للرحيل المبكر لندخل في عالمهم المفضي إلى العدم، لماذا يدفعوننا لنخسر طفولتنا ونُقحَم في عالم لا نفهمه ولا نفقه كنهه ولا سره؟ كنا أطفالا منذورين للعب والضحك والمطر والشمس، وكانت الأرض تهرب من تحت أقدامنا كالرياح العاتية تقصف في دربها كل شيء. كنا كالسيل العارم نجرف بدربنا معالم الحقول والهضاب ونرميها في تلك الوديان السحيقة، وكان يأخذنا الدهش من كل شيء، نجلس على أكوام القش نراقب العصافير تحوم على الحبوب المنثورة، فتختلط رائحتنا برائحة الزعتر والنعناع، وفي الليل كانت أجسادنا تغتسل بضوء القمر الفضي على إيقاع البحر ونظامه، حيث كنا نغافل أهلنا المشغولين ونسرح مع الصيادين في ليل أعمى لا نرى شيئا ولكنه كان ينتعش بالسهيرة. وكانت الأمواج الصغيرة تحملنا وتلفنا بالزبد، ولم نكن نتوب عن ركوب الأمواج. الزمن قاس يراقبنا يداهمنا وكنا نتحين الفرص لنسابقه لنستعجله وهو يتباطأ كي لا نراه، إلى أن غافلنا وبدأنا نستمهله وهو يجد السير بنا.

* العائلة حاضرة في هذه السيمفونية؟

- كان جدي يحفر، يقلم، يسقي، ينتزع أوراقا أو يقطف الورود والطفل الذي كنته تنحفر الأشياء في ذهنه؛ في شهر فبراير (شباط) كان يطعّم التفاح والإجاص، وفي شهر أبريل (نيسان) تتفتح الورود والبنفسج بين يديه ويزرع الأكي دنيا والعرايش، وفي شهر مايو (أيار) يكتسي الزيتون بالزهر ويسقط الخوخ والمشمش والخيار في يديه، وفي الصيف يبدأ بالحصاد ودرس الحبوب، وفي شهر أغسطس (آب) ينضج العنب والبطيخ، وفي شهر سبتمبر (أيلول) الجوز وثمار البلوط وقطاف العنب والرمان والسفرجل والزيتون، وفي «تشرين» تسقط أوراق الشجر، وفي «كانون» تعود الأمطار التي تغذي الأرض ويعود ويزرع البصل والثوم؛ رحل جدي ورحلت معه تلك العصافير التي كانت تزين الحقول ونبتت بنايات عشوائية أكلت الأخضر واليابس وصار ملوّن بلدي الأخضر.

* وأين هي الأم التي غنيتها من هذا الحنين؟ أمك التي توفيت وأنت في العشرين؟

- أستطيع قياس حجم التغييرات الداخلية والعاطفية والنفسية التي طرأت على حياتي يوم رحلت أمي الصغيرة حيث أدركت ما الذي يعنيه هذا الغياب، وأدركت أنها لن تعود فارتميت في حضن جدتي وبكيت. لقد كان موت أمي من أكثر المناطق إيلاما في ذاكرتي، باكرا يومها غنّت العصافير الصغيرة وحيدة والتفّت على صباحي بشدوها المتعرّج بليلي العميق. لقد قاومتُ ذلك الغياب الصاعق لأمي حيث كان ينبت من بين يديها الحبق والريحان على مصطبة تمتد من خطاها كسهلة صغيرة في أحواض ممتلئة بالتراب والحياة. صمتي اليوم مرصع بالأمل. أفتح مسارب الهواء من أجل أقدام الصباح المشغولة بالوصول إلى الهدف لتختفي وتتلاشى على الأزرق في موجة آتية من بعيد، لتتكسر على الصخور ألاحقها وهي تتعب عند بلوغها الشاطئ لترتاح عند أقدام اليابسة. وفي الطريق إلى بحر قطط تنزلق هائجة مائجة على صراخ الشهوة؛ أعود إلى حينا، إلى بيتنا وشمس حارقة تدخل من النافذة. إنها الرابعة بعد الظهر، تزحف على قدمي، على السجادة الحمراء، وتلعق الأوراق أمامي. كنت عندما أدخل غرفة الطريق في هذا البيت العتيق أتأمل روح أمي المتألقة الناهضة إلى الأعالي، لم يكن سهلا أن تفقد عناقات واحتضانات أم إلى الأبد. أتت مثل البرق في حياتي وتركت أثرا أحمله؛ رحلت وتركت أحلامها تغمر قلبي بنعاس لذيذ، تجلس إلى جانبي، تأخذ يدي، تقبّل وجهي بدمع ابتسامتها؛ كيف حدث يا ابني وبيّض كل هذا الشيب لحيتك؟

كيف يمكن أن يشيخ المرء بهذه السهولة وأنت ما زلت طفلا في حضن أمك؟ العودة مثل الذهول، هي الجنون، مثل النهر، المجرى هو الذي يبدأ وينتهي وليس الماء. طرف الشال الذي غطى وجهي ولامس عيني من النور المفرط والأبيض الحاد والجارح أبكاني من زهوه.

* هي إذن سيمفونية الذكريات التي تكاد تصبح حاضرا؟

- سيمفونية «العائد» تحكي عن الحرب مع وردة صغيرة تطلع من بين الركام وتعطي أملا بالحياة وروعتها. وتحضر الطفولة بكامل سطوتها وهي الشيء الوحيد الذي لا يتكرر ولا يعود أصلا. يعود ذلك الطفل الذي كان من خلال الموسيقى، ليمرح ببسالة مع الآلات في عودة مستحقة من خلال النغم. في السيمفونية محاكاة لكل الأشخاص الذين رحلوا من زمان. حوار موسيقي مع صمت الغياب يدعو العائد للتأمل وللمناجاة، ولا بد من فرح العودة. وفي النهاية لا بدّ من العودة، ولن ننسي هنا كل منفي وكل مسلوب فرح العودة في الاحتفال الكبير الذي نسمع تردداته في عزف التشيللو وهو يختلط ببكاء الفرح لينتهي بكرنفال صارخ بالألوان.

وختاما لا نستطيع أن نصوغ معنى للموسيقى بالكلمات. لا معنى للموسيقى إلا في ذاتها، والسماع هو الوسيلة الوحيدة لإبراز القيمة الجمالية للعبارة الموسيقية من خلال الصفاء الذي نبحث عنه في دواخلنا. هكذا في الموسيقى تقترب الروح من الروح وتتسع للإنسانية كلها لتأتي بكامل سطوتها كلسان كوني وحيد وتتحرك حولنا وتملأ الفضاءات، في حزمة ضوء، في خفقة جناحي فراشة تحط على سياج جسر خشبي، بين عشبتين، في شمعة خافتة وراء نافذة صغيرة، قريبا من الينبوع، من خرير الساقية، من ارتطام جناحي الحمام بسطح الفضاء المفتوح، لا حيطان لا أسيجة لا أبواب ولا سواتر.

* هل ستبقى الأعمال الموسيقية البحتة الطاغية على نتاجك في الفترة المقبلة، علما بأن الناس تفاعلوا ولا يزالون يتفاعلون بشكل كبير مع الكلمات التي ترافق موسيقاك، وربما يتعطشون إلى ذلك؟

- لا فرق بين الموسيقى والقصيدة والأغنية. لن تكون الموسيقى ذاتها ولا القصيدة ذاتها. لن يكون الصوت ذاته، سيكون النهر ذاته بمياه مختلفة. وهذا ما يعطي للفن ذلك الإحساس بالأزلية. إنه فن الوهم، عامل خلق الوهم بالموسيقى والصوت. أعود لسؤالك حول الموسيقى الطاغية في إنتاجي علما بأن الناس تتفاعل مع الأغنية، لأقول إن الثقافة الموسيقية ضعيفة جدا بل مفقودة فعليا عندنا. من المهم إيقاظ وعي الناس، حول كيف تمت كتابة المقطوعة وما الذي ألهم المؤلف في كتابتها؟ لماذا يحتوي الصوت على كل هذه العاطفة؟ وكيف نستمع؟ الموسيقى هي الأقل معرفة من قبل الناس. في الثقافة العامة يهتم الإنسان المثقف بالفلسفة والأدب ويعرف الكثير في السينما والرسم، النحت والمسرح، ولكنه قد لا يعرف شيئا عن الموسيقى. هناك نوع من الجهل المتعلق بالموسيقى ولهذا نرى مستمعين محافظين للغاية لا يريدون موسيقى جديدة. يريدون فقط ما علق في ذهنهم من قوالب الماضي أكثر مما يريدون الجديد. قليل من الناس الذين يعرفون الموسيقى وقد جعلوها جزءا من حياتهم. علينا أن نخلق سبلا للاستماع وجعل الموسيقى سهلة المنال، ولهذا ترتبط أعمالي الموسيقية بالذاكرة الشعبية كما ارتبطت الأغنيات بذلك. عندما أكتب لا أضع أمامي خارطة طريق لتكون أغنية أو موسيقى إنما للبوح عما بداخلي من حب، ولأقول: لا، ضد هذا المد الطافح بالقذارة والبؤس الذي نعيش فيه.

* هل ستكون سيمفونية «العائد» في صلب برنامج حفلات جولتك الأميركية بدءا من أبريل المقبل، أم أن الجمهور هناك له ميول من نوع آخر؟

- الجولة التي سأقوم بها ستطال الأميركتين وأوروبا وبلدانا عربية وسأقدم فيها عملي الجديد «سقوط القمر» لمحمود درويش. وهو عبارة عن أسطوانتين جديدتين تلتحم فيهما موسيقاي مع شعر درويش. في هذا العمل تعود بي الذاكرة إلى صباح باكر من صباحات شهر أغسطس (آب) لسنة 1976 دخلت أحد الاستوديوهات، وسجلت «وعود من العاصفة»، أول أعمالي لشعر محمود درويش، وكنت قد كتبت الموسيقى لهذه القصائد وأنا في سجني القسري في ضيعتي في بداية الأحداث. وبعد أخذ وردّ ولقاءات مع مسؤولي شركة الأسطوانات الفرنسية صدرت «وعود من العاصفة» في أسطوانة 33 دورة في احتفالات صحيفة «الإنسانية». وكانت أول تظاهرة لهذا العمل الجديد على خشبة الجناح اللبناني في «الكورنوف»، ضاحية باريس الشمالية، بالقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل. ومن يومها وأنا أقلب المدن صفحة صفحة حاملا موسيقاي وباحثا عن الذات في سفر دائم من أجل أن أعرف أعمق وأفضل وأكثر. فعندما أسافر أرى الكون مليئا بالمعجزات والأساطير بمعرفة وحس، اكتسبت حياتي معناها من تحقق هذا السفر في هذه الأرض التي تتمدد كما لو أنها لا تنتهي.

* ما الذي أعادك إلى محمود درويش؟

- ما زال صدى تلك الأيام العابرة مع صديقي محمود درويش يحلق بي على غيمة بيضاء في بيروت في القاهرة في باريس في دمشق في الجزائر في تونس في الرباط في عمان في نيويورك، وفي الطريق إلى القدس، في الزهرة الطالعة من جرح الصخرة، في الجلسة، في السهرة، في ليلة رأس السنة، في الفندق، في المطعم في المقهى، في الساحة، في القطار، في الباخرة، في الطائرة، في الباص، في السيارة، في كل شيء، كل شيء، كل شيء. أتنهد من أعماقي والأرض تتسع وتدور وأدور معها كغريب مع قصائد محمود درويش. كم مرة قطعناها سوية كطير الحمام في يومين، نتبادل الحنين الذي لا يفسر من خلال دمع الغيب، نشربه حتى الثمالة.

في هذا العمل الجديد، وفي هذه الجولة الجديدة، سنعلو بشعر محمود درويش وبالحب ولن نستكين. وليس لنا إلا الريح نسكنها، ندمنها، نتنفسها. أتذكر عودتي مع درويش ذات مساء من جنوبي الجنوب، تقاسمنا الطريق وقطيع الماعز الذاهب إلى حظيرته يخفي ثغاء مبحوحا من فرط وطأة المساء، وكان الطريق مفتوحا على القرى الممتدة. قال لي يومها: «ما أجمل هذه البلاد، وهؤلاء الناس الطيبون يحلمون بصياغة الحياة ولا يتوبون عن أحلامهم، يعشقون ولا يأبهون لخسارة غدهم، أعلن انتمائي إلى جهاتهم».

* ما الذي ستغنيه لدرويش هذه المرة؟

- في هذه الجولة، سأعود إلى مقاطع من تقاسيم شعره في قلق متوّج بقوس قزح، وفي غيمة أينعت في عشب روحه، أنظر نحوه، أمشي باتجاهه، أطير إليه؛ ألمه من وحدته في مساء بعيد ولنكمل ليلنا. سنشتهي بريق حضوره لنستعيد الدهشة الأولى، سنحن إلى صداقة تأخذ عذوبة الحب، سنحس بالمطر يخترق أعماقنا. هل تكون هذه الأمسيات أصواتا نستعيدها من زخات المطر التي بللتنا ذات مساء؟ كيف تتحرك الأمكنة والناس والأشياء والزمن؟ هل هذا هو ضوء الحياة؟ أو هل هذه هي النار المشتعلة أو هل هذا هو الحب أو هل هذا هو الوهم الذي صار حياة أرضا كواكب نجوما أو هي رغبة ولادة؟ عزلة؟ تذكر؟ نسيان حلّ فينا وتجسدنا لنبحث عن حب كثير في فضاء واسع وسع الأبد؟ وهل هذا التذكر والتخيل وهذه الأمسيات تبني حياة نكون فيها لا قبالتها، نسترد غبار الدروب الأولى الذي علق بأقدامنا ولشكل الحياة التي امتزجت بنسيم خفيف تحول ريحا يحوم كالطير على أرض مدورة يداعبها بغبار النجوم، يملأ نهاراتها بنور الكواكب من ملايين السنين الضوئية في فضاء هائل، ليصل إلينا ليحيا فينا، وليأخذنا في تمرين يومي إلى الدخول في مكمن الحياة السري. سيحتضن نداؤنا صرخة مبللة بالملح وأرضا تترعرع في القمح، لا نتوحد مع الكون بل يتوحد الكون فينا. سنذرف دمع الأغنيات وسنناجي محمود درويش كلما نهد في أمسياتنا ليخفق قلبنا. سيكون لطعم الغياب معنى آخر ليغمرنا بنوره. سنناديه لحنا همسا حبا حلما ليسمعنا. كم ضاق هذا العالم برحيله، كان أنيقا كعصفور طليق، وحيدا كغيمة شاردة، غزيرا كنهر هادر لا ينضب صاخبا كموجة لا تتعب من حراكها الأبدي. هذا هو عنوان جولتنا العالمية.

* يتهمك البعض بأنك ركبت موجة الثورات العربية بعد أن خبا نجم أغنية المقاومة، ويقولون إنك تنكرت لليسار الذي كنت نجمه وصوته، فبماذا تجيب هؤلاء؟

- الثورة هي ثورة شاملة على كل شيء. تبدأ من الذات الإنسانية مرورا بكل القضايا العادلة. ودعينا نجنح بالسؤال قليلا لنحكي عن دور الأغنية والموسيقى والثقافة. لا تكون ثقافة إلا متى كانت حرية. الحرية للثقافة شرط وجود، أو هي بهذه المثابة، ومن ليس حرا دونه ودون الإبداع الثقافي مساحة الفراغ الذي لا يحد. وحيث لا تكون حرية، يمكن للثقافة أن تكون أي شيء آخر غير أنها ثقافة، يمكنها أن تتحول إلى آيديولوجيا دعائية، إلى خطاب متلعثم يغمغم بمفردات غامضة وتبريرية، إلى فولكلور للزينة، إلى أي شيء تفتقر فيه إلى ما يجعلها ثقافة تعبر وتبوح، تكشف المخبوء وتهتك المستور، وتؤدي وظيفتها الإنسانية والاجتماعية والجمالية. الحرية للمثقف كالفضاء الفسيح للطائر، كالماء للسمكة، كالتربة الخصبة للمزارع، وليس صحيحا أن قليلا من الحرية خليق بأن يصنع مثقفا أو مبدعا، فالحرية لا تقاس بالمقادير، ولا تخضع للتكميم الحسابي - من الكم - ففي تقييدها بالحدود حط وزراية بمعناها. وكما أن الطائر لا يملك أن يحلق في القفص، والسمكة لا تملك أن تسبح في زجاجة الزينة المنزلية، والمزارع لا يملك أن يزرع في الرمل، كذلك لا يكون في وسع المبدع المحجوز بأصفاد المنع والمتمتع بشبهة حرية أن يبدع بالمعنى الحقيقي للإبداع، المعنى الوحيد له، كانطلاق حر نحو إعادة بناء كل الأشياء والرموز والمعاني والعلاقات.

* تريد أن تقول إن التسلط محق الإبداع؟

- للثقافة والإبداع تجربة مريرة مع السلطة، جميع أنواع السلطة. الإبداع في عرف كل سلطة تطاول على الموروث، والمتعارف عليه والمشهور بين الناس، في العقائد والاعتقادات والتقاليد والقيم والأخلاق العامة. هو في هذه الحال، أشبه ما يكون بالبدعة، وهي موطن الذم والقدح والاستنساخ عند حراس الموروث العقدي والأخلاقي. البدعة خروج عن الأصالة ومروق والإبداع صنوها في ذلك المروق منظورا إليه كتحرّر من سلطان السائد والموروث. هل هي محض الصدفة في اللسان العربي أن تتشابه البدعة والإبداع لفظا وأن تشتق اللفظتان من الجذر اللغوي نفسه. أم أن وراء التشابه بعض تماهٍ في المعنى والدلالة لدى حراس الموروث والسائد والمقدس.

* وما دور المثقف في هذه الحالة؟

- يواجه المثقفون والمبدعون ثلاثة أنواع من السلطات متضافرة الأهداف، وإن اختلفت في التكوين والمجال؛ السلطة السياسية، والسلطة الدينية، والسلطة الاجتماعية. يقوم على كل سلطة سدنة وكهان وإكليروس سياسي وأخلاقي يتعهد مقدساته السياسية والدينية والاجتماعية بالصيانة والحماية من المتمردين عليها، المتطاولين بالإبداع والنقد على مقامها الحرام. الجامع بين سدنة المقدس هؤلاء هو التحريم، تحريم الجديد والمستجد، والرأي المخالف، والنقد والسؤال. وكل ما يشتبه في أنه ينتهك محرمات السياسة والقانون والأخلاق والقيم والميثولوجيا التي تعيش منها، وتعيش على امتيازاتها، طبقات طفيلية ريعية من رجال الدولة والدين والنظام الاجتماعي التقليدي.

ذهنية التحريم ليست ذهنية سياسية، وإن توسلت مفردات سياسية، وإنما ذهنية ما قبل السياسة، أو سابقة في الوجود للحظة السياسة بمعناها المدني والعصري كفعالية إنسانية واجتماعية يحكمها مبدأ النسبية والتنافس. وهي قطعا ليست ثقافة دينية، لأن الأديان أتت تمثل ثورة على السائد والموروث وتحرّر الوعي الإنساني من الخوف من المجهول. وأتت تدعو إلى التسامح والاجتهاد وإعمال العقل. وإنما هي ثقافة قبل دينية تتمسح بالمقدس كي تنتهك أقدس حق في الوجود: الحرية. ثم إنها ليست ثقافة المجتمع ولا أخلاقه التي درج عليها، وإنما تستثمر تمسك المجتمع بمنظومة قيمه فتوحي بأن الثقافة والإبداع ينتهكان ثوابت تلك المنظومة حين يساءلان السائد والموروث. نعم، لا يمكن قياس نسبة ثقافة التحريم على القانون والدين والنظام القيمي الأخلاقي. إنها ثقافة القراصنة والمحتالين والمستبدين والمفسدين في الأرض. وهي ثقافة معادية لكل ما دعت إليه شرائع السماء والأرض والثقافات والحضارات من مبادئ وقيم عظيمة. إن إكليروس التحريم لا يتمتع بأي قوة سوى تلك التي يصطنعها لنفسه من ادعائه النطق باسم الدولة والدين والمجتمع من سطوة هذا الإكليروس غير المقدس، والقمع والاحتلال هما التجسيد الأعلى والأكثر قبحا وبشاعة للتحريم. أن تناضل ضد التحريم، معناه أن ترفع صوت الاحتجاج عاليا ضد هؤلاء جميعا ضد المستبدين المتمسحين بالقانون، وضد المعادين للحضارة المستغلين للدين والقيم والأخلاق، وضد البرابرة الغزاة المحتلين، أيها القراصنة، ارفعوا أيديكم عن حناجرنا.

الثقافة الحرة الرافضة للامتثال هي المستهدفة. المثقف العربي متهم دوما، أو عرضة للاتهام في أي وقت، ما دام يبدع، لذا فهو ليس مطالبا بأن يبدع فحسب، لكن أن يدافع عن إبداعه ضد قوى القمع المتربصة به عند كل منعطف. إن ثمة مستقبلا لا يمكن لأحد منعنا من الذهاب إليه أحرارا، وبمختلف اجتهاداتنا الفكرية والفنية.

* هل يفكر مارسيل خليفة في تقديم أغنيات للثورات العربية بروحها الجديدة، في مرحلة مقبلة؟

- أحاول كل يوم أن أجدد قدرتي من خلال أعمال أنقلها دوما إلى الناس عبر الأسطوانات والحفلات في مسارح العالم. الموسيقى هويتي الوجودية والإنسانية وحمّلتني في الوقت نفسه مسؤوليات كبيرة أعيشها برحابة صدر وبمعان إنسانية وبجماليات نادرة. أصغي إلى نفسي وإلى العالم بطريقة أكثر صفاء وأنتبه إلى عملي وأقيم في صمتي لأكتب. الموسيقى بحاجة إلى كثير من الوقت، أحلم، أعالج شقاء الحياة بالكتابة. الحياة ساحرة مدهشة. في الموسيقى يتحوّل الأسى إلى عصفور والغضب إلى بسمة والقبح إلى وردة في ارتقاء بهيج بجوهر ثورات القضايا العادلة وحرية الحياة.