«الخبز الحافي».. الرواية المغربية الأشهر لا تزال الأكثر مبيعا

مات محمد شكري وعاشت روايته

محمد شكري
TT

من بين الكتب التي صنعت مجد كتابها. في العالم العربي، رواية «الخبز الحافي»، التي حققت أرقاما قياسية، سواء على مستوى المبيعات أو اللغات التي ترجمت إليها، دون الحديث عن الرجة الكبيرة التي أحدثتها داخل الأوساط الثقافية.

أن يصنع كتاب مجد كاتبه يعني أن يكون، في نفس الوقت، مصدر ربح لناشره وموزعه. وقال عبد الله قشيري، الذي يملك كشكا لبيع الصحف والكتب، بساحة جامع الفنا بمراكش، لـ«الشرق الأوسط»، إن هناك طلبا متواصلا على «الخبز الحافي»، باللغتين العربية والفرنسية، من طرف القراء المغاربة وكذا السياح الأجانب، سواء العرب أو الغربيين. وأكد قشيري أنه طلب، من شركة التوزيع تزويده بعدد من النسخ، بعد نفاد معروضه من هذا الكتاب، من جهة، والتزامه بتوفير عدد محدد من النسخ لفائدة طلاب إحدى المدارس الخاصة بمراكش، من جهة أخرى. وشدد قشيري على أن كتاب شكري يبقى من الكتب القليلة التي ليست لها مرتجعات.

من جهته، قال الكاتب محمد اشويكة، جوابا على سؤال لـ«الشرق الأوسط»، حول «السر الذي يجعل الناس في حاجة مستمرة إلى قراءة (الخبز الحافي)»، إن «هناك حاجة إلى كثير من التأمل في زمن انقلبت فيه الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية بشكل سريع، ضدا على كل ميكانيزمات القراءة»، مشددا على أن «(الخبز الحافي) ظل خارج تلك السياقات، بعيدا عن التحليل المدرسي، نصا هاربا، ممنوعا، يستهوي عشاق القراءة المعاندة. فالرجل عاش الحياة طولا وعرضا، ولم يأبه بما دون ذلك كتابة وأسلوبا».

وذهب اشويكة إلى أن «البحث عن سيرة محمد شكري سيستمر ما دام المغرب المعاصر لم يحسم بعد في مواجهة أسئلته العميقة قصد الوصول إلى الحداثة المزعومة، وأهمها سؤال العقل، والفصل بين الحياة الشخصية والحياة العامة، والقدرة على مواجهة المشكلات الجوهرية».

ولاحظ اشوكية أن «تاريخ الأدب قليلا ما ينتبه إلى بعض الكتابات التي تظهر جارحة، محرجة، تتناول بعضا من الواقع بمشرط حاد، لكن مرور الزمن كفيل بجعل الناس يرون وجه الحقيقة دون تزويق ولا تنميق». وختم اشويكة حديثه، بالقول: «مات شكري ولم تمت أسئلته.. وذلك سر تزايد قرائه».

ومن المفارقات اللافتة أن رواية «الخبز الحافي»، التي كتبت عام 1972، لم تنشر بالعربية إلا عام 1982. وهي تشكل الجزء الأول من السيرة الذاتية للكاتب شكري، إلى جانب «زمن الأخطاء» و«وجوه». وولدت الرواية بتحفيز من الكاتب الأميركي بول بولز، الذي كان يقيم، وقتها، في طنجة، فيما تكفل الطاهر بن جلون بترجمتها إلى الفرنسية، وأثارت عند صدورها ضجة كبيرة، إلى درجة منعها في معظم الدول العربية، بسبب جرأتها غير المألوفة.

وفيما أخذت الرواية في النسخة العربية «الخبز الحافي» عنوانا، ونفس المعنى في الفرنسية، فقد أخذت في النسخة الإنجليزية عنوان «من أجل الخبز وحده».

واليوم، حين نستعيد سيرة محمد شكري، بعد ما يقرب من تسع سنوات على رحيله، لا نفعل أكثر من ربط حياته وتجربته الإبداعية بـ«الخبز الحافي»، الرواية التي صنعت مجد كاتبها، وبؤسه، في الوقت نفسه.. رواية، قال عنها النقاد إنها «تؤرخ لحالة البؤس والتهميش التي عاشتها شرائح عريضة من مغاربة ما قبل منتصف القرن الماضي»، و«تقدم مغرب القاع الاجتماعي، مغرب المنبوذين والفقراء والأشقياء، مغرب كل تلك الشخصيات البسيطة التي يحولها الكاتب إلى كائنات ترفل في المطلق الإنساني، وترفض الحشمة الزائفة».

أما رجال الإعلام فرأوا في شكري ذلك «الكاتب الاستثنائي، وربما، الوحيد، الذي إذا اتصلت به لتحصل منه على حوار أو تصريح أو وجهة نظر، تكون مطمئنا إلى أن ما سيقوله سيحتل الواجهة أو الصفحة الأولى، لأنه يقول دائما كلاما مميزا ذا نكهة خاصة»، كما قال أحد أصدقائه من الصحافيين.

وذهب رجال السياسة إلى أن شكري «سؤال غامض، لأن ما نراه منه يخفي الجزء الأكبر الذي لا نراه».

ومن بين كتاب الغرب، قال الإسباني، المقيم في مدينة مراكش المغربية، خوان غويتسولو، إن شكري «نظر إلى حياة بلده من القاع، فرأى ما لا يراه الآخذون بزمام الحكم أو العاجزون عن رؤيته».

أما الكتاب العرب فقالوا عنه إنه «كان حكاية»، وإنه «وجه صفعة للثقافة العربية الحديثة»، مشددين على أنه «نجح حيث فشل الكثير من الأدباء»، وأنه «نجح في أن يكون بطل نصوصه وكاتبها في آن واحد».

أما شكري فقال إن هدفه كان أن يجمل ما هو قبيح، في حياته وفي حياة الآخرين، وأنه عندما يكتب عن الدعارة مثلا، فليس معنى ذلك أنه يريد أن يشوه المرأة، طالما أن توظيفه للجنس ليس للإغراء، ولكن للكشف عن التشوهات الموجودة في المجتمع.

وفي أحد حواراته، تحدث شكري لأحد الصحافيين الإسبان، عن الطريقة التي اشتغل بها على الترجمة الإنجليزية لـ«الخبز الحافي»، فقال: «كنت أترجمها ذهنيا، من العربية إلى الإسبانية التي أتحدثها، وأمليها على بول بولز، الذي كان يكتبها بإسبانيته، وبعد ذلك كان يترجمها إلى الإنجليزية»، قبل أن يتابع شكري، متفكها: «مغربي وأميركي يتفاهمان في طنجة باللغة الإسبانية».

واعترف شكري بأنه حاول، غير ما مرة، قتل الشهرة التي منحتها إياه رواية «الخبز الحافي»، قبل أن يتابع، قائلا: «كتبت (زمن الأخطاء) ولم تمت، كتبت (وجوه) ولم تمت. إن (الخبز الحافي) لا تريد أن تموت، وهي تسحقني. أشعر بأنني مثل أولئك الكتاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد، شأن سرفانتيس مع (دون كيخوت)، أو فلوبير مع (مدام بوفاري). (الخبز الحافي) لا تزال حية، رافضة أن تموت. الأطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني (الخبز الحافي)».

وسيعترف شكري للصحافي الإسباني بطبعه العنيد، مبررا ذلك بكونه من برج «الجدي»، قبل أن يضيف: «الكاتب لا يُودّع الكتابة حتى يُودِعوه قبره». وحين سيسأله الصحافي «أليست لك نية في الذهاب، قريبا، إلى القبر؟»، سيجيبه شكري: «لا. لا. لا».