تركيا وضعت مناهج للغة العربية هي الأولى من نوعها

محمد حقي صوتشين: لغة الضاد باتت تعلم رسميا في مدارسنا

TT

الانفتاح السياسي التركي المستجد على العالم العربي، يترافق وخطوات ثقافية عدة أبصرت النور، لعل من أهمها القرار المتخذ من قبل وزارة التربية التركية العام الماضي، بتعليم اللغة العربية اختياريا في المرحلة الابتدائية والثانوية. الدكتور محمد حقي صوتشين، رئيس لجنة المناهج العربية الجديدة التي وضعتها تركيا وفقا للمقاييس الأوروبية، وهو أمر يطبق للمرة الأولى على لغتنا، والقيم حاليا على مشروع الترجمة العربية إلى التركية وبالعكس، يحدثنا في هذه المقابلة، عن مستقبل اللغة العربية في تركيا، والمشاريع الحالية لتوثيق العلاقات الثقافية بين العرب والأتراك.

اتخذت وزارة التربية الوطنية التركية قرارا عام 2011، يقضي بتدريس اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية كلغة أجنبية اختيارية أو إلزامية على غرار اللغات الأجنبية الأخرى، من بينها الإسبانية والإيطالية والصينية. هذا القرار يترافق مع الانفتاح المستجد لتركيا على العالمين العربي الإسلامي. وهي ليست الخطوة الثقافية الوحيدة التي اتخذتها تركيا، منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة، بل ثمة مشروع للترجمة من العربية إلى التركية وبالعكس، وهناك افتتاح لمراكز تعليم اللغة التركية في كل من بيروت والقاهرة، ودول إسلامية في البلقان مثلا، إضافة إلى مشاريع ترميم لأماكن تراثية عثمانية في شمال لبنان باتت تشارك فيها وتمولها، هذا غير التعريف بجامعاتها من خلال نشاطات مختلفة لاجتذاب الطلاب العرب، وإيفاد فرق موسيقية وفنية للتعريف بالفنون التركية. ما المشاريع التركية الثقافية لإعادة بناء الجسور مع العالم العربي؟ وما مراميها؟ وما الذي ينتظره الأتراك في المقابل من الشعوب العربية؟ عن هذا يحدثنا الدكتور محمد حقي صوتشن، أستاذ اللغة العربية في «جامعة الغازي»، صاحب مؤلفات عن اللغة الحضارة العربيتين، والمسؤول عن لجنة وضع المناهج العربية الجديدة، كما أنه منسق مشروع الترجمة التركي - العربي الذي بدأ العمل به منذ سنة، وهنا نص المقابلة التي أجريت على هامش «ملتقى مجلة العربي الحادي عشر» الذي أقيم في الكويت.

* أنت على رأس لجنة مهمتها وضع مناهج جديدة لتدريس اللغة العربية في المدارس التركية، لماذا الآن؟ وما المراحل التي قطعتموها؟

- قبل ست سنوات، وبتمويل من البنك الدولي، قررت وزارة التربية تجديد مناهج التدريس في تركيا، ومنها مناهج اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وفق المعايير الأوروبية. ومنذ ما يقارب السنة طلب إلينا كلجنة مكونة مني ومعي أكاديميان وعدد من أساتذة العربية في مدارس اللغة والخطابة، وضع منهاج جديد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. حددنا أهدافا تعليمية لكل مرحلة، بحيث على الطالب أن يحصل على مهارات في الكلام والقراءة والكتابة، كي ينتقل إلى المرحلة التي تليها.

* ما الأسلوب الذي اتبعتموه في مناهجكم؟

- معلوم أن تدريس القواعد والترجمة هي الطريقة الأكثر شيوعا لتعليم العربية، وهي من أكثر الطرق بدائية وتقليدية. نحن اتبعنا الأسلوب التواصلي الحديث المتبع في تعليم اللغات الأوروبية وطبقناه العربية. وهو أسلوب يتبعه «المركز الثقافي البريطاني» في تعليم الإنجليزية، و«معهد غوته» في تعليم الألمانية، وهذه المرة الأولى التي يطبق فيها هذا النهج في العالم على اللغة العربية.

* لعلكم وضعتم أسسا يمكن للعرب الإفادة منها؟

- هذا صحيح.. فالعربي يتعلم الفصحى أحيانا وكأنها لغة ثانية مختلفة عن العامية، لذلك قد يساعد المنهج الذي وضعناه العرب أنفسهم، كما أن الأوروبيين يمكنهم الإفادة منه لتعليم العربية في بلادهم. كنا أمام اختيار معيارين، إما اتباع المقاييس الأميركية أو الأوروبية، فاخترنا الثانية، نظرا للارتباط المعروف بيننا وبين أوروبا. تصوري أننا وضعنا تطبيقات جديدة، وكثيرون قد يستفيدون من مناهجنا. ما سيتعلمه الطلاب هو لغة من صلب الحياة، لا لغة جافة بعيدة عن التطبيقات اليومية.

* في مدارسكم، اللغة الأم هي التركية، وعلى التلميذ أن يختار إجباريا بين الإنجليزية أو الفرنسية كلغة ثانية، ثم تأتي العربية اختيارية كلغة ثالثة بين باقة من اللغات، فهل تعتقد أن الإقبال سيكون معقولا عليها؟

- ثمة رغبة كبيرة لدى العديد من الأتراك لتعلم العربية، وأتصور أن عدد المقبلين في تعلم العربية لن يكون قليلا، وهذا لأسباب عديدة.

* ما هذه الأسباب؟

- القرار حكومي ويأتي لأسباب استراتيجية. أما بالنسبة للناس، فيأتي تعلم العربية لأسباب دينية منها رغبتهم في قراءة القرآن. وعادة من يبدأون بدراسة الأبجدية يكملون المشوار. فمن سيختار العربية في المرحلة الابتدائية، سيجد نفسه يعاود اختيارها في المرحلة الثانوية.

ولا ننسى أيضا أن هناك دوافع تجارية، فقد تفكر الأسرة في أن تعلم أولادها العربية لتسهيل عملهم في العالم العربي، أو التبادل التجاري مع الدول المجاورة وكسب المال. إضافة إلى هذا هناك البعد السياحي المهم بالنسبة لتركيا والذي لا يمكن إغفاله.

* ما اللغات الأجنبية التي تعلم اليوم في تركيا؟

- 90 في المائة من المدارس تعلم الإنجليزية كلغة أجنبية إلزامية بدءا من الصف الرابع، لكن الطرق التعليمية ضعيفة، لذلك حين يتخرج الطلاب لا يجيدون التحدث بالإنجليزية، ويكتبون مع بعض الأخطاء، لهذا ولأسباب أخرى وجب إعادة النظر في المناهج.

أما العربية فهي تدرس لمن يريد التخصص بها في الجامعة، وفي «مدارس الأئمة والخطباء» التي يبلغ عددها نحو 493 مدرسة ما يقارب 235 ألف طالب وطالبة. كما أن اللغة التركية تتضمن نحو خمسة آلاف مفردة عربية. أما مع المناهج الجديدة يصبح تعلم العربية ممكنا بالنسبة للتلاميذ منذ المرحلة الابتدائية، لو أرادوا ذلك، كما بمقدورهم استكمال تعلمهم للعربية في المرحلة الثانوية. وبحسب القانون لو أرادت مدرسة ما ثانوية اختيار العربية كلغة أجنبية إلزامية بمقدورها ذلك.

* وماذا عن حركة الترجمة من العربية إلى التركية؟ نحن نقرأ بالعربية كتبا مترجمة لشعراء وروائيين أتراك، هل يعرف الأتراك الأدباء العرب الكبار؟

- للأسف فإن الأدباء الأتراك يتابعون الأدب العربي من خلال اللغتين الإنجليزية والفرنسية. الأدب العربي المترجم إلى التركية قليل جدا. نجيب محفوظ ترجم بشكل رديء جدا عن العربية، وأعيدت ترجمته عن الإنجليزية فجاءت أفضل. هناك ترجمات لكتاب عرب مثل جبران خليل جبران وتوفيق الحكيم وأدونيس عن لغات وسيطة، لكنني أعدت ترجمة بعض قصائد لأدونيس عن العربية. لكن هذه المشكلة من المفترض أن تحل، وسيتعرف الأتراك بشكل أفضل على الأدب العربي بترجمة مباشرة من النص الأصلي، بفضل مشروع «تيدا» الذي سيعنى بالترجمة من العربية إلى التركية وبالعكس.

* وهل هو متخصص بالترجمات بين التركية والعربية؟

- «تيدا» مشروع قائم منذ 5 سنوات، وهدفه نقل الأدب التركي إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية، وإقامة ورشات عمل. وقد تمت إضافة العربية منذ ما يقارب السنة، وأنا منسق اللغة العربية في هذا المشروع. وأود القول إن ما يقارب 100 كتاب أدبي تركي تمت ترجمتهم إلى العربية، رغم أن المشروع لم يكن يشمل العربية.

* والآن كيف يتم العمل عمليا مع الجانب العربي؟

- المشروع له شقان: الترجمة والورشات. هناك اقتراحات تقدم من قبل جهات أو دور نشر تريد ترجمة كتب تتم الموافقة عليها وتمويلها. لكن من جانب آخر هناك ورشات عمل تتم في اسطنبول لمدة عشرة أيام، يتم من خلالها تدارس ما سيتم ترجمته. فنحن نختار كل سنة موضوعا. هذا العام اخترنا القصة القصيرة، ونرسل نصوصا لستة مترجمين، ليعملوا عليها، قبل أشهر من الورشة، وحين نجتمع في اسطنبول من خلال الورشة يكون هناك منسق من الجانب العربي وآخر من الجانب التركي ويتم تقييم الترجمات.

نحن نتعاون في الوقت الحالي مع «المركز القومي للترجمة» في مصر، ونسعى لتعاون مع «مؤسسة الفكر العربي». نريد أن نعدد شركاءنا، فهناك مشروع «كلمة» في الإمارات، ولا بد من جهة أخرى في المغرب مثلا، لنكون قد غطينا المنطقة العربية.

* حزب «العدالة والتنمية» رسم استراتيجية لبناء جسور ثقافية مع الدول العربية، إلى أي مدى ستعيق الثورات العربية لا سيما في سوريا، هذا المشروع؟

- الثورة في سوريا كانت ضربة قاسية للتواصل، فهم ممر بري إجباري لنا صوب العديد من الدول العربية لكن الخسائر، قد تقتصر على سوريا. ويرجح أن تكون مرحلة عابرة ويتم تجاوزها.

* كان هناك موقف ثقافي وحضاري بين العرب والأتراك، يمكن وصفه بالمتشنج، والآن تغيرت التوجهات، هل هذا التقارب العربي - التركي، يرد على رغبة عند الأتراك، أم أنه قرار يأتي من فوق؟

- قبل «العدالة والتنمية» كان التوجه التركي أوروبيا، مع التغيير الذي حصل باتت السياسة الخارجية متعددة التوجهات. التوجه الأوروبي يدعمه الأتراك بغالبية كبيرة جدا، لكنهم يدعمون معه التوجه الإسلامي أيضا. هذان الاتجاهان يغذي بعضهما بعضا. فتركيا أوروبية وقوية تمثل المنطقة في الاتحاد الأوروبي ستعود بالفائدة على المنطقة كلها.

* إلى أي مدى تعتقد أن الشعب التركي معني بتوثيق علاقاته الثقافية مع العرب؟

- الشعب التركي متدين بطبعه، وهو شعب متمسك بتقاليده الإسلامية. والنزعة التي ترونها الآن في السياسة الخارجية، منسجمة مع التطلعات الشعبية.

على المستوى اللغوي، اللغة العربية شعبيا، تتمتع بقداسة في نظر الأتراك كما كل الشعوب الإسلامية الأخرى، وتصوري أن تقديم الأدب العربي عبر الترجمة سيجد تجاوبا كبيرا.

* ما مستوى التجاوب مع مشاريعكم من قبل الجهات العربية التي تحاولون التنسيق معها؟

- نحن الآن بدأنا بخطوة وضع المناهج، وتعليم اللغة العربية، والسؤال المطروح هو هل سترد الدول العربية بخطوة مماثلة لتعليم التركية. نحن أنشأنا في بيروت مركز «يونس أمره» لتعليم التركية وله مثيل في القاهرة، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وسيتم افتتاح مراكز أخرى في دول أوروبية. ومن الممكن أن تستفيد الشعوب العربية من وجود هذه المراكز، لتعزيز التواصل بيننا. الإقبال في بيروت كبير جدا، والمركز الثقافي التركي في سوريا كان يستقبل 700 طالب، وعندنا مراكز لتدريس اللغة التركية في أنقره واسطنبول يتوافد عليها عرب كثيرون.

أعتقد أن هناك اشتياقا تاريخيا كبيرا بين العرب والأتراك. فالجانبان افترقا لفترة من الزمن، وها هما يعاودان اللقاء. النقاش الحاد حول الدور التركي، واللوم الكبير الذي نسمعه من العرب، هو بسبب الحب بين الطرفين.

* لكن حين نتكلم عن الثقافة فالأدب وحده لا يكفي؟

- بالتأكيد حين نتحدث عن الثقافة علينا أن نشمل كل أنواع الفنون، وأشكال التعبير، بما في ذلك الفولكلور الذي بمقدوره أن يقرب الشعوب. الشعب التركي عنده فولكلور غني وكذلك الدول العربي، ولا بد من الاشتغال على هذا المجال، لتعريف المجتمعات ببعضها البعض، وتوثيق الروابط على المستوى الشعبي. الأساس في العلاقات بين الجانبين أن الجليد قد انكسر، والعجلة بدأت بالدوران.