«لغة الإنترنت» تكتنز بعضلات تعبيرية

من رحم الجوال يولد أدب جديد يتنافس على جوائز

TT

اللغة الإنجليزية تزداد قوة بسبب الإنترنت، ولكن اللغة العربية تقوى هي الأخرى. ثمة دراسات تؤكد أن التكنولوجيا بلغتها المختزلة والمكثفة، لا تضعف اللغات وإنما تمنحها صلابة من نوع جديد ومبتكر. مسابقات الشعر التليفونية والقصص النصية، هي أدب جديد طالع من رحم الآلة. أي لغة هي تلك التي سنتكلمها ونكتبها غدا؟ هنا تحقيق يلقي الضوء.

كتبت الأميركية جوديث مارتن في كتابها «الإتيكيت الحديث»: «دعوة زفاف، أو دعوة عشاء، في بطاقة مزينة في ظرف أنيق تعبر، ليس فقط عن أهمية الدعوة، ولكن أيضا عن أهمية استعمال الورق والحبر».

وكتبت الأميركية فرجينيا شيا في كتابها «نيتيكيت» (إتيكيت الإنترنت): «تواصل الإنترنت أهم من كلماته. ويمكن أن تكون دعوة زفاف، أو دعوة عشاء، عبر الإنترنت مزخرفة وملونة وأنيقة حتى أكثر من البطاقات الكرتونية. والمبدعون يقدرون على إرسال دعوات مصحوبة بموسيقى. والمبدعون أكثر يقدرون على إرسال دعوات فيديو».

وكتبت نعومي باروني في كتابها «لغة الإنترنت»: «لا أقدر على منع دعوات الزفاف أو العشاء على الإنترنت، لقد صارت لغة التواصل الرئيسية، وتتفوق على التليفون، إذا وضعنا في الاعتبار المراسلات بين غرباء من مختلف الدول».

* لغات الإنترنت

* في نهاية السنة الماضية، أجرى موقع «إنترنت ويرلد ستاتيستيكس» (إحصائيات الإنترنت العالمية) بحثا أوضح أن اللغة الإنجليزية، لا تزال تسيطر على الإنترنت بنسبة ستين في المائة. وخلال العشر سنوات الماضية، بسبب زيادة استعمال الإنترنت، زاد استعمال اللغة الإنجليزية بنسبة 300 في المائة.

لكن، ربما لن يستمر هذا لفترة طويلة. خلال العشر سنوات نفسها، زاد استعمال اللغة الإسبانية بنسبة 700 في المائة، والروسية بنسبة 1800 في المائة، والصينية بنسبة 1200 في المائة. غير أن العربية زادت بنسبة عملاقة: 2500 في المائة.

وحسب هذه الإحصائيات، يبلغ عدد الذين يستعملون اللغة الإنجليزية 600 مليون شخص في كل العالم، والصينية 500 مليون شخص، والعربية 60 مليون شخص.

* خلفية اختصار الكلمات

* عن تأثير الإنترنت على اللغة، أي لغة، قال كتاب «لغة الإنترنت» إن السؤال هو: أي نوع من اللغة؟ لغة تحرص على الفاعل والفعل والمفعول، والحال والظرف؟ أو لغة تختصر حتى كلمة «إنترنت» إلى «نت» وحتى كلمة «إيميل» إلى «إي إم»؟ بالإضافة إلى أيقونات بدلا عن كلمات (مثل وجه باسم، أو قلب، أو حمامة سلام). وحروف بدلا من كلمات، مثل «إل أو إل» بدلا من «حب كثير» أو بدلا من «أنا الآن أضحك بصوت عال» (تعليقا على نكتة أو غير نكتة). لكن، اختصار الكلمات إلى حروف بدأ قبل الإنترنت بقرون.

في القرن الأول قبل الميلاد، كان ماركوس سيسارو، فيلسوف إيطالي (توفي سنة 43)، حلقة الوصل بين الثقافة اليونانية التي اندثرت والثقافة الرومانية التي خلفتها. وهو الذي وضع أسس اللغة اللاتينية. وتعتبر كتاباته أساس حركة النهضة التي شهدتها أوروبا بعد ذلك بقرون كثيرة، في القرن الـ14. وحسب ندوة عن الموضوع في مؤتمر للاتحاد الأميركي للعلوم قبل سنوات قليلة، اختصر سيسارو بعض الكلمات اللاتينية، وكان أول من فعل ذلك في اللغة اللاتينية، أم اللغات الغربية الحالية.

ومن الكلمات التي اختصرها حرف «ك». بدلا عن «كوم» (معناها «مع». طبعا، ليست لها صلة مع «دوت كوم» في الإنترنت). وحرفا «آي دي». بدلا عن «انو دومينو» (السنة الميلادية). وحرفا «آي إم». بدلا عن «انتي ميريديم» (قبل منتصف اليوم). وحرفا «بي إم». بدلا عن «بوست ميريديم» (بعد منتصف اليوم).

وفسر اختصاراته بأنها «لتسهيل الفهم والتفاهم. أساس اللغة هو التواصل، وأساس التواصل هو الفهم».

وبعد سيسارو بـ1600 سنة، جاء الألماني جوهان غوتنبورغ (توفي سنة 1468) مخترع ماكينة الطباعة. وانتقد اختصار الكلمات، لأكثر من سبب:

أولا: لأنه اخترع الطباعة، حرص على طباعة كل شيء.

ثانيا: لأنه طبع الإنجيل، وحرص على منع أي تحريف فيه.

ثالثا: اعتبر نفسه باعث الروح في اللغات.

* تهديد اللغات

وقال كتاب «لغة الإنترنت» إنه، حتى قبل الإنترنت، صارت اللغة التقليدية النقية، في كل بلد تقريبا، مهددة، لأكثر من سبب:

أولا: تحول التكنولوجيا الثقافات تدريجيا من أدبية إلى علمية.

ثانيا: تساعد العولمة على تغلغل كلمات أجنبية ربما في كل لغة رئيسية في العالم. وليس بالضرورة من اللغة الإنجليزية (الأولى في العالم وفي الإنترنت). هذه، نفسها، تتغلغل فيها كلمات أجنبية.

وحتى قبل الإنترنت، كان، ولا يزال، هناك نقاش، ربما في كل دول العالم، عن مسؤولية المدرسين والآباء والأمهات عن تعليم الأولاد والبنات اللغة التقليدية الصحيحة (كتابة أو كلاما). ليس فقط كلمات علمية وأدبية، ولكن أيضا كلمات التواصل الاجتماعي، مثل: «من فضلك» و«شكرا» و«آسف».

وكان، ولا يزال، هناك نقاش حول حماية اللغة الأساسية من اللهجة المحلية الدارجة، وأيضا، من الكلمات والعبارات الأجنبية الواردة. في نفس الوقت، يريد أهل كل لغة من لغتهم مسايرة التقدم الحضاري والتكنولوجي والأدبي.

وفي موقع كتاب «لغة الإنترنت» في الإنترنت، نقاش طويل وممتع بين المؤلفة وقراء، خاصة القراء الشباب والشابات. قال شاب: «ظلت اللغات تتطور منذ بداية التاريخ؛ لماذا تحرمون علينا أن نطورها؟ لماذا لا تريدوننا أن نبدع؟»، وردت: «واجب الآباء الأخلاقي والتعليمي هو تعليم أبنائهم أسس الحياة الصحيحة، ويشمل هذا اللغة الصحيحة».

واشتكت للكاتبة والدة من انهيار اللغة الصحيحة عند أولادها وبناتها بسبب كتابات التواصل الاجتماعي. لكن المؤلفة طمأنتها، وقالت لها: «كم أيقونة يستعملون؟ وكم حروف مختصرة يستعملون؟ وكم عبارات وكلمات غريبة يستعملون؟ مائة؟ ألف؟ عشرة آلاف؟ لا بأس عليك. اللغة الرئيسية فيها، في المتوسط، عشرة ملايين كلمة تقريبا».

* فوائد الإنترنت

* لهذا، يبدو أن كثيرا من المهتمين بلغة الإنترنت لا يخشون على اللغات الأساسية. ويرون الإنترنت عامل تقوية، وليس عامل تفكيك، لهذه اللغات.

مثلا: كتاب «نيتيكيت» (إتيكيت الإنترنت)، قال إن البنات أكثر استعمالا من الأولاد للأيقونات، والأحرف، والكلمات الغريبة. وأضاف: «مثل عادات بنات كثيرة، تصير موضة، ولا تستمر كثيرا». ولأن هدفهن هو إيصال رسالة، وليس شكل الرسالة، لا يجب على الآباء والأمهات والبالغين القلق على لغة التواصل معهن.

وبعد أن يسرد كتاب «لغة الإنترنت» مشكلات الإنترنت اللغوية، يقول إن الوضع ليس سيئا كما يعتقد المتشائمون. وأن هناك فوائد. منها:

أولا: بالمقارنة مع التليفون، الإنترنت كتابة أكثر منه صوتا. وطبعا، الكتابة تقوى وتحفظ اللغة أكثر من الكلام.

ثانيا: بعد ظهور الترجمة الإلكترونية للغة المكتوبة، زاد الاهتمام باللغة المكتوبة.

ثالثا: استعمال كلمات قليلة في «تويتر» و«فيس بوك» وغيرهما يركز على أساس اللغة (على كلمات، لا على الأفعال).

رابعا: صار الإنترنت نفسه مكان نقاش عالمي حول تطوير اللغات والمحافظة عليها (لم يكن هذا سهلا قبل الإنترنت).

خامسا: انتشرت مواقع تعلم اللغات. ومع اختراع فيديو الإنترنت، وانتشرت الدروس المرئية والمسموعة.

* مائة وأربعون حرفا

* كتب ديفيد كريستال، بريطاني متخصص في لغة الإنترنت: «مثل كل وسيلة، للإنترنت محاسن ومساوئ. وينطبق هذا على لغة الإنترنت». وأشار إلى الرسائل التلفونية (تيكست). وقال: «على الناس أن لا تقلل من دورها، ليس في إضعاف اللغة، ولكن في تقويتها». وأشار إلى أن صحيفة «غارديان» البريطانية كانت عقدت مسابقة «تليفون بويتري» أي (شعر التليفون). ولأن الكلمات المكتوبة في التليفون لا تزيد عن 160 حرفا، قال إن التجربة «كانت أكثر إثراء للشعر الإنجليزي، ليس فقط لقلة كلماتها، ولكن أيضا لتحديها للناس، ولإبداعات الناس»، في تأليف قصائد لا تزيد كلمات كل واحدة منها على 160 حرفا.

وقال كريستال إن صحيفة أخرى، لم يذكر اسمها، عقدت مسابقة «تلفون نوفيلز» أي: قصص التلفون.

وقال إنه، في كل الأحوال، يسارع القراء إلى إرسال تعليقاتهم، أو اقتراحاتهم، إلى صاحب القصيدة أو القصة. وفي النهاية، يمكن أن يصدر نوع جديد من الرواية أو الشعر، وهو الذي يستعين فيه صاحبه بآخرين. وسأل كريستال: «هل سيقلل ذلك من قيمة الرواية أو القصيدة أو يزيدها؟ أعتقد أنه سيزيد من قيمتها، ويفتح الباب أمام نوع جديد من الإبداعات المشتركة».

وعن موقع «تويتر»، الذي يحدد كل رسالة بـ140 حرفا، قال كريستال إن الناس يمكن أن تقول إنه للكسالى الذين لا يريدون التبحر في استعمال الكلمات والعبارات اللغوية الصحيحة. لكنه، في نفس الوقت، قدم نوعا جديدا من اللغة، وهي اللغة «المختصرة، والعملية، والسريعة».

غير أن كريستال حذر من صفحات الـ«مدونات». وقال إن أصحابها، في حالات كثيرة، لا يلتزمون باللغة الصحيحة. وسمى لغة المدونات «نيكيد لانغويدج» (لغة عارية). وقال إن أصحابها يرون قواعد اللغة مثل ملابس تلبسها امرأة حسناء. وهم يفضلون أن يرونها عارية، من دون قواعد. وقال: «لننتظر ونر مستقبل اللغة العارية هذا...».

* اللغة العربية

* بالنسبة للغة العربية، يظهر دور الإنترنت الإيجابي في مواقع الإنترنت التابعة لكليات اللغة العربية في الجامعات، ومجامع اللغة العربية.

كتابة كلمة «اللغة العربية» في موقع «غوغل» تقود إلى مواقع كثيرة جدا، منها: مجمع اللغة العربية الأردني، وكلية اللغة العربية في جامعة أم القرى السعودية، وحتى مجمع اللغة العربية في حيفا، والمجلس الدولي للغة العربية.

ويوضح النقاش حول هذا الموضوع جوانب سلبية وإيجابية:

إيجابيا: سمحت المؤسسة الدولية لأسماء وأرقام الإنترنت بوضع عناوين المواقع والصفحات العربية. ولا بد أن هذا سيساعد على زيادة استعمال الإنترنت بين العرب.

سلبيا: تأسست مواقع عن «تحديث» أو «اختصار» أو «علمانية» أو «أمركة» أو «برطنة» اللغة العربية. وهناك موقع يدعو لفصل اللغة العربية عن القرآن الكريم.

لكن، في كل الحالات، إيجابيا وسلبا، يظل أهل اللغة العربية حريصين على تقويتها، وليس فقط على صمودها أمام اللغات الأخرى، وخاصة اللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من سيطرة هذه على التكنولوجيا والعلوم والآداب، وخاصة مجالات الترفية (سينما، تلفزيون، اجتماعيات)، يحاول أهل اللغة العربية اشتقاق كلمات عربية لاختراعات غربية. مثل: فضائية (ساتيلايت)، وجوال (موبايل)، وهاتف (تليفون)، وحاسوب (كومبيوتر).

ولا بد أن الإنترنت يساعدهم. لهذا، لا يمكن القول إن الإنترنت يضعف اللغة العربية، أو أي لغة أساسية أخرى.