«اليمامة».. إقليم النبوءة المزيفة ونقطة التحول في التاريخ الإسلامي

الباحث السعودي د. عبد الله العسكر يطرح مفهوم النظرية الإقليمية لتفسير تاريخها منذ حركة «مسيلمة»

د. عبد الله العسكر و غلاف كتاب اليمامة
TT

استقطب تاريخ اليمامة اهتمام العديد من المؤرخين، ولقيت البحوث والمؤلفات التي تناولت تاريخ المنطقة اهتماما أيضا من الدوائر العالمية في الغرب نظرا لتأثير هذا التاريخ الخاص في العصور المختلفة على تاريخ الجزيرة العربية بشكل عام. واليمامة، هي اسم قديم لإقليم في الجزيرة العربية يشمل ثلث الجنوب الشرقي مما يعرف اليوم بـ«نجد».

ومع ذلك فإن دراسة تاريخ اليمامة الواسع لم تحظ باهتمام الدارسين، حيث تركز معظم ما كتب عنها في سياق حروب الردة أو مقرونا بتاريخ الحجاز، أو نبوءة مسيلمة.

وفي بحثه الأخير، نجح الدكتور عبد الله إبراهيم العسكر، الحاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة كاليفورنيا، والمتخصص في التاريخ الإسلامي وتاريخ الشرق الأوسط الحديث، في معالجة تاريخ اليمامة ودراسته قبل الإسلام وفي صدر الإسلام، وتفسيره من منظور جديد، لم يسبق أن طرق من قبل بشكل يتيح الوصول إلى نتائج غير مسبوقة، من خلال فحص المصادر التاريخية والدينية والمذهبية والاقتصادية والجغرافية والأدبية والتراجم وكتب المال والخراج والسياسة وكتب اللغة والمعاجم وغيرها.

بداية يشدد الدكتور العسكر في كتابه الجديد «تاريخ اليمامة في صدر الإسلام.. محاولة للفهم»، والذي صدر عن دار «جداول»، على أنه من غير المنطقي النظر إلى تاريخ اليمامة من زاوية «الردة» أو «نبوءة مسيلمة»، ذلك أن اليمامة منطقة واسعة وغنية بمقاييس القرنين السادس والسابع الميلاديين، وقد شهدت حراكا سياسيا قبل الإسلام وبعده لا يمكن إغفاله.

تطرق المؤلف الدكتور العسكر إلى الموقع الطبيعي لليمامة، والنظام الاجتماعي السائد فيها، واقتصادها، والحياة السياسية فيها ودور بني حنيفة في الصراع بين القوتين العظميين، بلاد فارس وبيزنطة. وقد جعل هذا تاريخهم موضع اهتمام تعدى مجرد شبه الجزيرة، كما تناول المؤلف الحياة الدينية للإقليم والعلاقة بين اليمامة ومكة، وبينها وبين المدينة، وحركة مسيلمة التي ظهرت ضمن الحركات الدينية التي عاصرت الإسلام، ولكنها ظهرت بشكل مستقل ودخلت لاحقا في صراع مع المجتمع الإسلامي، حيث برزت نشاطات شخصين طموحين باعتبارهما الوحيدين اللذين دعيا باسم «رحمن» في التقليد الإسلامي: مسيلمة رحمن اليمامة، والأسود العنسي رحمن اليمن، علما بأنه لم يذكر شيئا حول أي اتصال بين الاثنين، كما غطى الكتاب الغزو الإسلامي لليمامة من خلال حروب الردة وهي المعارك التي شنها المسلمون بقيادة أبي بكر الصديق الخليفة الأول، ضد القبائل العربية المعارضة في شبه الجزيرة العربية. وقد سبقت الفتوحات التي تلت لبلاد المشرق وشمال أفريقيا، وأدت إلى توسيع الدولة الإسلامية.

واعتبر المؤلف أن اليمامة لم تكن بأي شكل منطقة إسلامية رغم وجود بعض المسلمين فيها، كذلك كان ثمة حركة دينية وسياسية (حركة مسيلمة) تتطور ضمن خطوط توازي خطوط الدولة الإسلامية في المدينة، إضافة إلى ذلك، كان التضامن العشائري مستخدما لخدمة هدف كل من الجانبين (نبي مضر ضد نبي ربيعة، كما في قصيدة نظمها عمارة بن عقيل).

وتناول الدكتور العسكر في هذا السياق الاتفاقية بين مسيلمة وسجاح، حيث رأست الأخيرة قومها بني تميم وادعت النبوة وشكلت خطرا على اليمامة بل إن سجاح تقدمت ضمن حملة قادتها ضد مسيلمة إلى حجر اليمامة (الاسم القديم لمدينة الرياض)، وهو ما دفع مسيلمة إلى التفاوض معها وأصبح هناك نبي مزيف (مسيلمة) ونبية مزيفة (سجاح) وقد تلقت سجاح وفقا لهذه الاتفاقية نصف محصول اليمامة لتعود سجاح مع أتباعها إلى منطقة ما بين النهرين.

وتعد حرب اليمامة من أشرس المعارك التي خاضها المسلمون بعد أن تعرض الجيش الإسلامي الأول إلى اليمامة بقيادة عكرمة بن أبي جهل لهزيمة كبيرة بعد معركة قصيرة، وتبع ذلك الجيش الإسلامي الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة وتعرض هذا الجيش أيضا لهزيمة فاجعة أمام جيش مسيلمة، وهذه الانتصارات لبني حنيفة منحتهم القوة النفسية والثقة بزعيمهم، وهو ما كانوا بحاجة إليه للمستقبل.

إن المعلومات الوحيدة المتوفرة التي يمكن استعمالها لدراسة إدارة اليمامة في عصر ما قبل الإسلام توجد في الأعمال المعجمية العربية، لكن حتى هذه لا تعطي سوى تفاصيل قليلة.

ويبدو أنه خلال حكم هوذة بن علي، ملك اليمامة، كانت تمارس سياسة أشبه بسياسة رجال الدولة. ولا تعطي المصادر أي إشارة حول ما إذا كان هوذة قد عين ممثلين له في القرى المختلفة، أم أنه اكتفى بتأسيس علاقات جيدة مع رؤساء العشائر ومالكي الأراضي الكبار في القرى. ويمكن الافتراض أن حكم هوذة لم يكن موضع ترحيب جيد من أنصاف البدو، مثل عشيرة ثمامة بن آثال، الذي اختار، بعد موت هوذة، أن ينحاز إلى المسلمين بدلا من دعم مسيلمة. ويبدو أن هوذة لم يكن يثق بأهل اليمامة الرحّل. لقد كان يفضل السكان المستقرين، وهذا يفسر إصراره على الاحتفاظ بكتيبة فارسية يقودها مرزبان وجنود فرس لمساعدته في السيطرة على البدو في اليمامة وحولها. وعلى الرغم من أن الوجود العسكري للفرس في اليمامة قد وفر بعض الأمن للمنطقة، فإنه لم يكن مقبولا لدى كل من السكان الحضر والبدو. ولم يكن سكان المدينة يحبون ذلك لأنهم شعروا أن اليمامة أصبحت محمية فارسية.

أدرك مسيلمة، على أي حال، مثل هذه المشاعر، واستعملها لتأمين الدعم لقيادته ونبوته. ويفسر هذا شعبيته الساحقة وقدرته على استدعاء 40 ألف مؤيد لمعركة واحدة في عقرباء.

ومع ذلك لم يتمتع مسيلمة بحكم سلمي، فبعد أن استولى على السلطة، كان لا بد أن يواجه طموحات المدينة. وقد تزعم اليمامة لفترة تقل عن ثلاث سنوات وكانت هذه سنوات تعبئة مستمرة.

وربما كان العمل الوحيد الذي يمكن أن ينسب إليه في مجال الإدارة هو مغادرة القوات الفارسية لليمامة. وقد يكون هذا التحرك ناجما إما عن سياسة مسيلمة الإدارية وإما عن الحالة في بلاد فارس بعد موت حليفها هوذة، وربما كان الأمر يتعلق أيضا بالحالة في اليمن، حيث كان عامل فارسي آخر، هو باذان، قد اعتنق الإسلام وطلب من القوات الفارسية مغادرة الإقليم، وثمة احتمال آخر هو أن المرزبان الفارسي في اليمامة لم يرغب في مواجهة المسلمين.

كانت معركة عقرباء هي نقطة التحول في تاريخ اليمامة.. فالمسلمون لم يحطموا طموحات مسيلمة فحسب، لكنهم قتلوا أيضا أغلب مؤيديه البارزين. أما مؤيدوه الآخرون، فإنهم إما انتحروا وإما تبعثروا في شبه الجزيرة العربية. وبعد المعركة، تغير كليا وجه الإدارة في اليمامة - أو الحالة كلها في المنطقة في الحقيقة. لذلك فإن المعلومات المتوفرة عن هذه الحقبة لا يمكن استعمالها لوصف الحالة الإدارية قبل المعركة. وفي الحقيقة قد يستنتج المرء أن معركة عقرباء، التي وصفها الجاحظ وكتاب آخرون بأنها «الفتح الكبير» كانت نقطة تحول ليس بالنسبة إلى اليمامة فحسب، ولكن في تاريخ الإسلام بكامله.

وخلص الباحث الدكتور عبد الله العسكر إلى القول إن الغاية من هذا الكتاب هي الحصول على فهم أوضح لعدد من الأحداث التاريخية، بما في ذلك الحركة السياسية التي قادها المتنبي مسيلمة، وحروب الردة وحركات تمرد الخوارج في اليمامة خلال العصر الأموي. وبحسب وجهة نظر المؤلف، كانت جميع هذه النزاعات إظهارا للشعور الإقليمي المستمر لدى أهل اليمامة. وعلى الرغم من أن هذا الشعور الإقليمي كان يجري التعبير عنه بطرائق مختلفة من فترة إلى أخرى، ولذلك كان يبدو «عشائريا» مرة، و«دينيا» في المرة الثانية، و«طائفيا» في الثالثة، فقد كان في كل حالة يتعلق بسكان اليمامة المحليين وهم يكافحون من أجل تقدم المصالح الاقتصادية في منطقتهم.

ثانيا، لقد شجع تنوع المناطق البيئية ضمن سلسلة جبال العارض ونظام وديانها على التخصص في الزراعة. وكانت بعض المستوطنات مشهورة بالتمر، وأخرى بالحنطة، بينما ظلت غيرها لا تنتج أي مواد غذائية على الإطلاق، لكنها شغلت المناجم في مناطقها، واستبدلت الطعام بالمنتجات المعدنية.

كما شجع التنوع البيئي على التخصص الاقتصادي، الذي بدوره جعل كل مستوطنة متخصصة تعتمد على الأخريات من أجل السلع التي يمكن أن تنتجها بنفسها.

وأخيرا، إن طبيعة إمداد المياه في اليمامة جعلت من الصعب على أي مستوطنة أن تكون مكتفية ذاتيا. ففي كل واد كان يوجد كثير من المستوطنات المختلفة على امتداد مجراه، ولم يكن بإمكان أي مستوطنة أن تنشئ سدا على الوادي وتستعمل مياهه كلها وحدها. وكان لدى المستوطنات الموجودة عند رأس كل واد، من ناحية أخرى، كمية من المياه أكثر مما تستطيع استعماله.

كان ثمة أساس آخر للتضامن الإقليمي هو التجارة. فقد كان مزارعو اليمامة ينتجون كمية من الحبوب والتمر أكثر مما تستطيع المنطقة استهلاكه، لذلك كانوا يصدرون الفائض لديهم إلى مكة والبحرين والعراق.

كان التكافل الاقتصادي لدى أهل اليمامة يكتمل بالثقافة المشتركة، والاهتمام المشترك بالطموحات السياسية لغير أهل اليمامة.

كانت المحافظة على هذا التوازن الدقيق صعبة. وكان الكثير من الصيغ المعدة للقيام بذلك تقترح في أوقات مختلفة، ومنها اقتراحات هوذة بن علي ومسيلمة ونجدة بن عمير. وقد عكست التحالفات التي شكلها هؤلاء الزعماء المختلفون والاستراتيجيات التي اتبعوها حالات متبدلة في شبه الجزيرة العربية.

حصل المتنبي مسيلمة، على دعم أهل اليمامة لأنه قدم نفسه باعتباره يوفر لهم فرصة جديدة لصون استقلالهم. وكان مسيلمة معروفا بأنه متعبد وكاهن قبل موت هوذة، وحتى قبل أن يبدأ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - رسالته.

وعندما مات هوذة، بحث أهل اليمامة عن زعيم بديل، ورفضوا الاستمرار مع النظام المدعوم من الفرس، وأملوا أن تتمكن عقيدة مسيلمة الدينية من كسب المؤيدين له من بين بني تميم وإبطال أثر دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم. وظنوا أن مناشدات مسيلمة لتضييق التعصب العشائري والإقليمي (محمد نبي قبائل مضر، لكن مسيلمة هو نبي ربيعة) سيثبت أنها أكثر جاذبية من تحذيرات محمد حول جهنم وإصراره على التضحية وتطهير الذات.

أخفقت مقاومة مسيلمة للدولة الإسلامية على أي حال، وتعرضت اليمامة للتدمير على يد الجيوش الإسلامية الغازية.

خلال منتصف العصر الأموي، على أي حال ظهر شعور يمامي إقليمي مرة ثانية في مظهر جديد تجلى في زعيم خارجي هو نجدة بن عمير، الذي أسس سلطة طائفية في اليمامة. وأعلن أن المنطقة أصبحت مستقلة. وكان مدعوما بحماس من الناس المحليين، ليس لأنهم قبلوا عقيدته الخارجية.

تغيرت العلاقات بين أهل اليمامة والغرباء عندما أصبحت المنطقة تحت حكم المسلمين. وكان أهل اليمامة، قبل هزيمتهم في معركة عقرباء، يعتبرون المنافسين الرئيسيين لأهل مكة. وكان الميدان السياسي صغيرا ويتضمن بضعة أنظمة عربية متساوية القوة (أو متكافئة بشكل جيد على الأقل). وبعد الفتح الإسلامي اتسع الميدان السياسي كثيرا جدا، وأصبحت اليمامة منطقة ضعيفة وعديمة الأهمية. ومن أجل تحررهم من الإمبراطورية، كان أهل اليمامة بحاجة إلى حليف قوي وحسن التنظيم يمكنه أن يتحدى الدولة الأموية عسكريا وآيديولوجيا.

كانت سلطة الخوارج على اليمامة قصيرة الأجل، ولكن ليس لأن الدولة الأموية هزمتهم، ولكن لأن زعماءهم أصبحوا طموحين جدا. وبدلا من أن يعززوا قوتهم بتشجيع المؤيدين المحليين، حاول زعماء الخوارج توسيع سيطرتهم لتضم أجزاء أخرى من الجزيرة العربية مثل البحرين. كان هذا أكثر مما أراده أهل اليمامة، ولذلك سحبوا دعمهم بشكل تدريجي، وحولت دولة الخوارج الضعيفة عاصمتها إلى البحرين. وبعد هذا فقط تمكنت الجيوش الأموية من سحقها.