الشاعر الكويتي دخيل خليفة: المسابقات الشعرية ضحك على الذقون.. والشعر الشعبي ملهاة مثل كرة القدم

اتهم من يهاجمون قصيدة النثر بأنهم مصابون بالانفصام

دخيل خليفة
TT

أحيا الشاعر الكويتي دخيل خليفة مؤخرا أمسية شعرية في الدمام (شرق السعودية)، سجلت حضورا متميزا لجمهور الشعر. وقد أصدر خليفة، المولود عام 1964، أربع مجموعات شعرية هي: «عيون على بوابة المنفى»، «بحر يجلس القرفصاء»، «صحراء تخرج من فضاء القميص»، «يد مقطوعة تطرق الباب». هنا حوار معه أجري على هامش أمسيته الشعرية، تحدث فيه عن المشهد الثقافي الكويتي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر التي يكتبها، وعبر فيه أيضا عن رأيه في الشعر الشعبي، والمسابقات التي تقام باسمه، وغير ذلك من القضايا الثقافية في بلده الكويت، والبلدان العربية عموما.

* ماذا بقي من الشعر في عصر الرواية؟

- الشعر ما زال سيد الأنواع الأدبية على الإطلاق، والشاعر أمير المهرجانات، ستكتشف ذلك حينما تدعو شاعرا وروائيا، لترى للشاعر حظوة ونصيبا من العشاق، بينما يركن الروائي - وإن كان كبيرا - في زاوية وليس معه سوى صحافي يوجه إليه السؤال المتكرر: «هل حقا هذا زمن الرواية؟». بالطبع لا أقلل هنا من شأن الروائيين، فلهم مكانتهم الكبيرة ولهم قراؤهم، لكنني أستغرب بالطبع أسلوب الجمع بين الحالتين وكأن الرواية والشعر في سباق دائم، رغم اختلافهما، هذا فن حكائي مباشر، وذاك لغة رمز وإشارة، هذا له أدواته المختلفة بالضرورة عن الآخر.. هل تريدوننا أن نكون كأي متلقٍّ تنطلي عليه حيل دور النشر الباحثة عن جوائز روايات لا تمثل سوى آهات مراهقين؟

* تتحدث وكأن الشعر ما زال ضمير العالم.

- الشاعر الحقيقي بقي على مر التاريخ ضمير مجتمعه، هو نزف الهم الإنساني في كل بقعة على هذه الأرض.. يكفي أن تعد الشعراء الذين تنفسوا هواء المعتقلات أو من تعرضوا للمضايقات في هذه الخارطة الكبرى التي تلتهمها النيران بين فترة وأخرى.. لتدرك أن الشاعر هو الصوت الأعلى، وإن تأخر صوته أحيانا لكونه خاضعا لشروط الفن، فلم يعد الشعر انعكاسا آنيا لأي حالة تقتضي وجوده.

* اليوم ذابت الفوارق بين شعراء التفعيلة وشعراء النثر.. ولم تعد هناك نكهة لكلا الفريقين.. هل أشغلتنا معارك الشعراء عن جماليات القصيدة؟

- لا.. الفوارق موجودة.. تكنيك قصيدة النثر يختلف عن قصيدة التفعيلة، ولا أعني هنا مسألة الإيقاع من عدمه، إنما لكل منهما روح وأساليب خاصة في الكتابة.. ولا أرى أن ثمة معارك مهمة الآن.. هناك فريق يهاجم قصيدة النثر لإيمانه أن «الشعر كلام موزون مقفى»، وهذا الفريق لا يعول عليه لأنه مصاب بانفصام ويمتلك قناعة نهائية.. والشعر ضد القناعات أصلا.

* كان البعض يخشى أن يوصم بالحداثة إذا كتب قصيدة النثر.. اليوم هناك استسهال في تناول القصيدة النثرية حتى لم نعد نتطيب مذاقاتها.. كيف ترى أنت ذلك؟

- الحداثة لا تخيف صاحبها إن أمسك بزمامها جيدا.. وليس بالضرورة أن تكون قصيدة النثر نوعا من الحداثة، لأن شرطها لا علاقة له بالشكل، بل بالمضمون، والفن. المتنبي لديه حداثة أيضا.. لكن بعض الشعراء يظنون فعلا أن كتابة قصيدة النثر تكمن في التخلي عن الوزن فقط.. والأمر هنا يشكل حالة وهم كبير، لكون هذا النوع من الكتابة أصعب من التفعيلة والعمودي. ولعل توفر وسائل النشر الإلكتروني ومواقع التواصل وغياب لجان التقييم عن دور النشر وسعيها لجيب الكاتب فقط سمح بانتشار نصوص هزيلة أقرب إلى كتابة «المذكرات اليومية» لعاشق لا يعرف من الحب سوى اسمه.

* هناك من يطالب الأدباء بأن يتفرغوا لإبداعهم.. بالنسبة إليك، هل يتعارض عملك في الإعلام مع مشروعك الشعري؟

- بالطبع.. لكن القضية لا تكمن في نوع العمل بقدر مسألة التفرغ، العمل في الصحافة والفضائيات مضنٍ لكونه يستهلك قدراتك الكتابية ويستنزف لغتك بشكل يومي.. تبقى مشغولا بلغة مباشرة، ومواضيع لا علاقة لها بالإبداع في أحيان كثيرة.. كما أنك تصل إلى البيت منهكا، خصوصا أن العمل الآن أصبح مضاعفا بعد استخدام الكومبيوتر.. فتعود إلى بيتك لا لتقرأ، بل لتنام.

* الحزن والتجربة الشعرية

* ثمة مسحة من الحزن تخيم على أجواء القصيدة لديك.. دواوينك الأربعة تشي بهذا الهم.

- وهل الفرح حالة قابلة للكتابة أو الممارسة؟ كل ما حولنا محبط، معارك طبقية وطائفية وفئوية وصحف خاصة غارقة بالشتائم وشعوب متخلفة وسيادة شريعة الغاب.. كيف ننتج نصوصا تشبه مقالب توم وجيري إذن؟

* في ديوانك الأخير «يد مقطوعة تطرق الباب» ركزت على التكثيف، وأخلصت لقصيدة النثر على خلاف ما سبق.

- أعي ماهية الشعر، وأدرك أن المتلقي الآن يريد النص أشبه بوجبة سريعة تحمل لذتها في طياتها، حتى مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» ربطتك بعدد محدد من الأحرف. في كل تجربة أحاول مغايرة ما سبق، في هذه المجموعة المكملة للنسق الفكري ذاته المتعلق بأزمة «الهوية» أردت خلق حالة إدهاش بأقل مسافة وزمن ممكنين.. قدمت قصيدة نثر تخصني بعيدا عن شوائب التجارب الأخرى، ركزت على تشظي الذات / الجسد / الأعضاء.. هكذا أعتقد.

* لكنك لم تكتب حتى الآن على شكل تيمة واحدة؟

- هذا النوع من الشعر شخصيا لا أحبه، التيمة الواحدة تخلق نوعا من الملل، قرأت كثيرا من المجموعات لم تدهشني، بعضها مصاب بالتكرار، وبعضها يفقد توازنه، فقصيدة النثر تحديدا تتطلب مهارة عالية لتكون مختلفة.. وكلما طالت تسرب الملل إلى روحك.

* البعض اعتبر مجيء نصوص المجموعة متفرقة لا تنم عن «تجربة» متكاملة لتكون مشروعا.

- المشروع في أي كتابة يتعلق بالنسق الفكري والمضمون والفن أكثر من كونه جاء في زمن غير متصل أو تجربة تتمثل في نص واحد.

* في ديوانك «صحراء تخرج من فضاء القميص» ثمة تناسلات لغوية وصور من رحم الصحراء، تشتبك مع اليومي بتجلياته العولمية.. كيف مازجت بين العالمين في نسق شعري؟

- متعب هذا الديوان، والعولمة كحالة تخترق ما يواجهها، لا تحدها صحراء، ولا حواجز، فذراعها طويلة جدا، غير أنني أجد الصحراء حالة شعرية لم تطأها «أقلام» كثيرة، وبالتالي حاولت لملمة قاموسها لألقيه على الحاضر بعولمته وقضاياه التي أبقت الإنسان بعقليته الصحراوية رغم أنه يلبس قميصا يعكس حالة تمدن.

* المسابقات والشعر الشعبي

* هل ترى أن مسابقات الشعراء تعزز مكانة الشعر ودوره.. أم أنها يمكن أن تستثير النزعات العصبية؟

- حينما تتمعن في شروطها وكيفية إقامتها تدرك أن هدفها إعادة الشعر إلى زمنه الجاهلي، فأي مسابقة هذه التي يدخل فيها رأي الجمهور (القبلي في الغالب)؟ أليست نوعا من الضحك على الذقون؟ وهل يستحق من فازوا لقب «أمير الشعراء»؟ لاحظ أن التركيز على الشعر التقليدي أو العمودي هو هدف البرنامج، وحينما يدخل الموهوبون في مسابقات كهذه يديرها متخلفون، ستخبو موهبتهم ولن تتطور إطلاقا.. سألت أحد النقاد المشاركين في اللجنة: «منذ متى كانت الرسائل الهاتفية أداة نقدية تغلب هذا الشاعر على ذاك؟»، فارتبك.. ثم قال: «الدراسات الجديدة تعتمد رأي المتلقي»!!

* هل جنى الشعراء الشعبيون على الشعر الفصيح؟

- بعض الشعراء الشعبيين موهوبون جدا، وكان أحرى أن ينضموا إلى قافلة الفصيح، لكن وسائل الإعلام أغرتهم لدوافع لا تخلو من خبث وأهداف غير معلنة.. الحكومات هي التي حاولت التجني على الفصيح عبر فتح القنوات للشعبي.. حتى تحول إلى حالة عامة في بلداننا، فأصبح هو الأصل وما سواه حالة عابرة.. الشعر الشعبي ملهاة مثل كرة القدم.. ألا تتذكر في أيام حكم حسني مبارك لمصر؟ كانت أصعب القرارات يتم تمريرها في مباراة الأهلي والزمالك!

* أمسية الدمام

* ما الذي بقي عالقا في ذهنك من أمسيتك الأخيرة التي أقمتها في ملتقى «الوعد» في الدمام؟

- أدهشني الجمهور النوعي، غالبيته من أدباء وفناني المنطقة الشرقية (السعودية)، كانوا يقظين ويفكون شفرة النص بسرعة، ويلتقطون مواضع الجمال فيتفاعلون معها، هذا الأمر مهم بالنسبة للشاعر، يشجعه على طرح نصوصه بجرأة مهما كانت صعبة أحيانا.. ولا أخفيك أن أمسية الدمام واحدة من أجمل الأمسيات التي شاركت بها.. ولعلي وفقت أيضا في اختيار نصوصي.. وهذا أمر جيد لأنني لا أختارها إلا قبل الأمسية بساعتين أو ثلاث دون أن أتهيأ نفسيا.. هكذا اعتدت.

* يقال إنك متابع جيد للساحة الشعرية السعودية.

- الساحة الثقافية السعودية غنية ومثيرة للانتباه، في الشعر هناك أسماء لامعة، أنحاز منها إلى الجيل التسعيني الذي برز منه أحمد الملا، وحمد الفقيه، وعلي العمري، ومحمد الحرز، وإبراهيم الحسين، وأحمد كتوعة، وعيد الخميسي، وغسان الخنيزي، وهدى الدغفق، وآخرين، فضلا عن الجيل الذي يليه وبرزت فيه أسماء عدة، منها: زكي الصدير، وهيلدا إسماعيل، ومحمد خضر، وحامد بن عقيل، وعبد الله ثابت، ونور البواردي، وآخرون أيضا. وسبق هؤلاء الراحل محمد الثبيتي، والشعراء: محمد الدميني، وعبد الله السفر، ومحمد جبر الحربي، وعبد الله الصيخان، وفوزية أبو خالد.. إنها ساحة غنية بالمبدعين والتجارب الخلاقة..

أما في مجال النقد فلا أحد ينكر الآن مكانة النقاد السعوديين في الساحة العربية.

* إلى أي مدى يتأثر الشعر بالنقد؟ وبالنسبة إليك، هل يؤثر فيك ما يقوله النقاد بشأن تجربتك الشعرية؟

- لا توجد مدارس نقد عربية، هناك آراء انطباعية، بعض النقاد يطبقون نظريات غربية، يفلحون أحيانا في اقتناص أشياء ويفشلون في أخرى.. بينما يهيم البعض الآخر في واد لا علاقة للشاعر به إطلاقا.. صدري مفتوح للنقد، أستفيد مما أراه أصاب الهدف، وأترك ما أراه هراء.. وفي كل الأحوال أعرف أين أضع قدمي، ولدي الشجاعة لتمزيق ما لا يعجبني.. في الكويت لا يوجد نقاد بالمعنى الحقيقي.. لدينا شاعران جميلان يمتلكان أدوات نقدية هما سعدية مفرح، وصلاح دبشة.. لكنهما بخيلان في هذا الاتجاه.

* مشهد مرتبك

* بالمناسبة، كيف ترى المشهد الثقافي في الكويت؟

- مشهد جيد ومرتبك في آن معا.. هناك شباب يمتلكون أدوات جميلة لكن تطورهم بطيء، بينما يبقى الجيل التسعيني أكثر قدرة على تطوير أدواته والاشتغال على ذاته بعيدا عن سلطة المتلقي أو انتظار عطف أي مؤسسة ثقافية.. في الكويت الآن تمارس الملتقيات الثقافية دورا مهما في تطوير الذائقة أو إبراز الوجوه المبدعة وملاحقة الإصدارات، وأبرزها «ملتقى الثلاثاء الثقافي» الذي أسسناه في عام 1996، ويضم وجوها كويتية وعربية هي الأبرز في المشهد الكويتي.

* هناك انقسامات حادة في الكويت، أكثر حتى من تلك التي نشاهدها في الخليج.. هل يمكن أن يلعب المثقفون دورا يتجاوز ما يخربه السياسيون؟

- الكويت بلد حر.. والسياسة حالة هوس، لكنها تتحول إلى مرض يتجاوز المعقول في بعض الأحيان.. السياسة تشبه لعبة شد الحبل، الذكي من يرخي ويشد في الوقت المناسب، لأنها حيلة لتحقيق هدف ليس إلا، وفي كل الأحوال يمارس المثقفون حالة غياب عن هذا المضمار. صحيح أن بعض القضايا تتسرب في قصائد هذا الشاعر أو رواية ذاك، لكن الفعل المباشر غائب تماما مثل غياب الثقافة عن خطة التنمية التي قدمتها الحكومة لمجلس الأمة. شاعر واحد يمارس نقدا للسياسيين بشكل يومي هو نشمي مهنا (وضاح)، لكنه يكتب بالعامية التي يرى أنها أقرب إلى الناس في هذا المضمار.

* لماذا تعيش التجربة الأدبية في الكويت انحسارا رغم اتساع الوسائل الإعلامية؟

- المبدع ذاته منكفئ على نفسه، وكأن المطلوب أن تجره من ياقة قميصه لتطالبه بنص جديد.. على أن هذا المبدع يغيب عن أغلب المهرجانات التي تحتضنها البلاد بين فترة وأخرى..

* ما علاقتك بالمؤسسات الثقافية، رابطة الأدباء، وغيرها؟

- لا علاقة لي بأي منها. ولا أعترف بأي مؤسسة تربط الإبداع بالجنسية.. في السابق كانت هذه المؤسسات جسرا لإيصال هذا وذاك. الآن أنت على تماس مع كل المبدعين في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها.. ودعوتك لأي مهرجان أصبحت شخصية.. ثم ما الذي تضيفه لي مؤسسة بالية أصلا؟

* من قصائد الشاعر

* «خيبات لا يربطها سوى الوطن..!»

1 - سجن:

الليلة

سنطبش معا في الهواء

ربما نسقط إلى الأعلى..!

نضحك على خيباتنا التي

تدلت أقدامها من أرواحنا

وعلى أحلام

تحتاج تأشيرة دخول..!

* 2 - جثة:

نزعت أصابعي عن يدي

ووضعت رأسي بين مشجبين

هكذا في الفراغ....!

ليمر الضاحكون على سوادهم

يهزأون من ظل

بلا رأس

ويد تبحث عن أصابعها

في جيوب الجثة..!

3 - غرفة:

أكره الأنفاس الملوثة

والقلوب المكفنة بالسواد..

أكره المصطبة

عندما تنفض عن ظهرها

آهة عاشق من طرف واحد

أكره الغرفة

عندما تكون

مجرد سماء في قلب أسود..!

«جوع»

مر بي جائعا

وعلى جرف قلبي اتكا

تصفحني..

عندما لم يجد في نهرا

بكى..

«تعريف»

الحب ليس مكالمة عاجلة

ولا غرفة بسريرين يستوعبان ضحكة مؤجلة

إنه اعتذار متأخر

لشارع يسهر وحيدا..!

«خارج القانون»

الضحكة الوحيدة الخارجة على القانون

نسيتها أمس على حافة الليل

هذا الصباح

صحوت بلا فم..!

«لو»

لو أن ظلا مر

قرب نبضاتي المتعثرة هنااااك

لاكتشف جثتي

قبل أن أهرب منها

لو أن قدما سهت عن أختها قليلا

لداست دمعتي المتخشبة

لو أن كلبا نبح

لنهضت

أجر الشارع على نصفي الأسفل

«أوطان»

كل هذه الكوابيس

بلا شوارع معبدة

كان على الأوطان أن تكبر قليلا

أن تقلم أطرافها الصدئة

أن تتعالى على فقاعاتها الصغيرة

أن تمنحنا وردة

بدلا من قطعة بيضاء

وحفرة لا تكفي دمعة كلب ضال..

«فؤوس»

لو أن جسدي جذع شجرة

لما تحمل كل هذه الفؤوس

تخيلت الأرض

بساطا يطير بي

لأقبل النجوم على حين غفلة

صحوت

والكل يرقص فوق عظامي!

لو أن قلبي مصباح زيت

لما تحمل كل هذا الدخان

الذي لطخ الزجاج

«كسرة خذلان»

بلا مبرر تمشي على الزجاج

كأنك اعتدت تفريغ السنوات في جيبك المثقوب!

ليكن الحب ابتسامة ليست بمتناول القلب

أو دمعة على وهم

يترنح في ذاكرة موسومة بالهذيان

لك أن توزع العمر كيفما تشاء

كل سنة على عتبة

كل شهر على كسرة خذلان

كل يوم على خدعة

فقط لتمشي وحيدا

مثل جسد فارغ..!