الموسيقى في السعودية.. مرغوبة مذمومة

الممانعة الاجتماعية للموسيقى والغناء في مجتمع ينتج منذ نشأته أغانيه

العازفان محمد سلمان ومؤيد عبد الباقي
TT

السعوديون لا يستهلكون الفن والموسيقى والغناء فقط، بل إن بضاعتهم الفنية والجمالية الأكثر انتشارا ورواجا في العالم هي في الغالب أغان راقية وموسيقى تنضح جمالا، كما أن الجمهور السعودي مستهدف من قبل عشرات المحطات الفضائية ومؤسسات الإنتاج الفني والإذاعي. وقدمت الموسيقى السعودية روادا للعالم، وأسهمت في إحداث تواصل ثقافي، وأبرزت أعلاما أمثال محمد العيسى (1922) بالمدينة المنورة، وعلي عبد الرحمن باعشن (1930)، وحامد عمر (1937) من مكة المكرمة، والذي لحن معزوفة «إشراق» وأدخل عليها لحن «طلع البدر علينا» الأصلي، بالإضافة لعميد الأغنية السعودية الموسيقار طارق عبد الحكيم الذي أسهم في خروج الأغنية السعودية إلى مختلف أقطار الوطن العربي، والملحن صالح الشهري الذي بكته الساحة الفنية السعودية مؤخرا.

لكن الموسيقى ظلت تمثل حالة شاردة من المشهد، أو بضاعة يجري تهريبها عن أعين الرقباء، أو ممارسة لا يجرؤ أصحابها على البوح بها، والغريب أن الحفلات الموسيقية تذاع في وسائل الإعلام وتباع أشرطتها في العلن، لكن لا يجرؤ الموسيقيون على حمل آلاتهم في الشوارع أو الاجتماع للعزف في أي محفل عام.

ووزارة الثقافة والإعلام، التي تعترف بالفن وترعاه وتصرف عليه، لا تبذل جهدا لحماية رواده والمنتسبين إليه من التعدي والتجريح والتخويف، فبإمكان محتسبين متطوعين وغير رسميين إيقاف حفلة موسيقية أو منع تجمع حتى لو كان مدرسيا أو حفلة أطفال لمجرد وجود عزف موسيقي مصاحب لها.

* جدلية الموسيقى

* هناك فقهاء كثيرون لا يرون أن الموسيقى وما يتصل بها من غناء فعل مباح، لكن، في الوقت نفسه، هناك فقهاء، بقامة الفقيه العراقي عبد الله الجديع مثلا، يرون خلاف ذلك. وقال الجديع لـ«الشرق الأوسط» في حوار سابق «نعم حللت الموسيقى والغناء». وفصّل ذلك بالقول «إن الغناء والموسيقى بابهما اللهو والتسلية، فالأصل في ما كان هذا بابه أن يؤخذ منه ما يحقق مصلحة معتبرة، كإظهار الفرح المشروع، أو دفع السآمة والملل، ولا يكثر حتى يغلب فتفوت به المصالح المطلوبة، والمباح إنما رفع فيه الحرج ما لم يغلب واجبا أو مندوبا، ولم يوقع في محرم أو مكروه، فإذا صار إلى ذلك انتقل من الإباحة إلى التحريم أو الكراهة في حق من فعل ذلك». وقد توسع في ذلك في كتابه ذائع الصيت «أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان»، الذي طبع سنة 1986 في الكويت، وكتابه الآخر «الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام»، الذي طبع في بريطانيا 2004.

كذلك تناقلت وسائل الإعلام تصريحات للرئيس السابق لفرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة، الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، قال فيها «الموسيقى ليست حراما، ولدي أدلة تثبت عدم تحريمها إطلاقا».

لكن الموقف من الموسيقى يتجاوز الإطار النظري، أو مجرد الاختلاف في قراءة وفهم وتفسير النصوص، فهناك من يأخذ على عاتقه التصدي للموسيقى بكل أشكالها ومنع أي حفلات تشهد عزفا للموسيقى حتى لو كان مجرد إيقاع على هامش قصيدة، أو أناشيد للأطفال في مسرح عام، تماما كما حدث عدة مرات حين ألغى محتسبون حفلات للأطفال بينها إيقاف عرض «السنافر» للأطفال الذي حضره قرابة 2000 طفل في مهرجان «الورد الطائفي» بمدينة الطائف لتضمنه موسيقى. الأمر نفسه حدث في الأحساء والخبر وغيرهما.

* الإسماعيل: حساسية مجتمع

* «الشباب يقبلون على الموسيقى، كفن راق»، يقول عبد العزيز الإسماعيل، مدير الجمعية السعودية للثقافة والفنون، ويضيف «هناك طلبات كثيرة من الشباب للتسجيل في الدورات الموسيقية، التي استؤنفت مؤخرا في الجمعية عبر عدد من فروعها».

الإسماعيل رأى أن توقف النشاط الفني الموسيقي في الجمعيات لعدة سنوات يعود «لحساسية المجتمع»، وهو ما أدى لتراجع الفنون بسبب الحذر من مفهوم الموسيقى، وهو السبب ذاته الذي لم يتح للجمعية مباشرة أنشطة من هذا النوع سوى عبر ثلاثة فروع، واستمرار توقفها بفروع المدن السعودية الأخرى.

الإسماعيل أكد أن الجمعية تحاول إعادة الاهتمام بالموسيقى والفنون عبر أساليب علمية وطرق منظمة، منوها بأنها لا تقيم أي حفلات موسيقية، وإنما الاقتصار بتقديم دورات علمية نظرية وعملية موسيقية مقابل أخذ رسوم مالية.

لكن لماذا يجري التعامل مع الموسيقى بمثل هذا الارتباك؟ يجيب مدير جمعية الثقافة والفنون «إن ارتباك المشهد الموسيقي، وتراجع الثقافة الفنية، يعود إلى غياب التربية الفنية، التي تسببت في إرباك العلاقة الثنائية ما بين المجتمع والموسيقى، وانتشار الفهم الخاطئ بحقها حتى أصبحت مفهوما معاديا»، منتقدا في الوقت ذاته غياب الدعم الرسمي للثقافة والفنون.

وأضاف الإسماعيل «أدى تراجع الاهتمام بالموسيقى والفنون بشكل عام لتأثر علاقة التواصل الفني مع الخارج، حيث بات المشهد أكثر انغلاقا على الآخر، وغير قادر على فهم من يختلف معه، وذلك كله بسبب تجاهل الموروث الفني وعدم التعامل مع التراث الموسيقي بالصورة السليمة». وقال «لم نتمكن من الاستفادة من الفنون كإحدى وسائل التعبير الحديثة لتوصيل صوتنا للداخل والخارج بكل اختلافاته».

* سلمان جهام: لا للنساء

* من جانبه، يرى سلمان جهام، مشرف لجنة الموسيقى بفرع جمعية الثقافة والفنون في الدمام التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، أن «الجهات الرسمية تقف إلى جانب الفنان، إلا أن الإشكال يعود إلى المجتمع الذي يخلق إشكالية الموسيقى»، وقال «هناك من المحتسبين من يأتون للجمعية للقيام بجولات حسبة، وهناك من بينهم من يراعي مساحة الحوار والتعامل مع الأنظمة وطائفة أخرى أكثر تشددا».

ويضيف جهام «إن تقديم الدورات الموسيقية الشرقية بأسلوب أكاديمي على آلة العود هو مقتصر على الذكور من دون الإناث، إذ لا يسمح النظام بإنشاء لجنة موسيقية ضمن القسم النسائي للجمعية»، مشيرا إلى أن الدورات الموسيقية تشهد إقبالا جيدا من قبل الشباب السعودي، يصل أحيانا إلى 40 متدربا، يتعلمون فيها المبادئ النظرية التأسيسية للموسيقى بشكل عام، إلى جانب عزف آلة العود، وبرسوم محددة.

* العلي: النفوس تواقة للوجدان

* عازف الناي طاهر العلي، المعروف في شرق السعودية، يقول «إن تقبل الموسيقى في المجتمع السعودي ظل أمرا متفاوتا بحسب المناطق، فثمة مناطق تشهد تسامحا كالشرقية والغربية، مقابل تحفظ في مناطق أخرى»، مضيفا أن هناك انفتاحا شاملا من قبل الشباب للموسيقى «فطبيعة النفس تواقة إلى الوجدان، والموسيقى من الوجدان». وأكد العلي على تواضع وبساطة تعليم الموسيقى بالسعودية، منوها بأن العادات والتقاليد هي بسبب تحفظ المجتمع السعودي الشديد على مفهوم الموسيقى، وهو الأمر الذي كان مغايرا في السابق.

العلي يرى أن هناك صعوبة في التقدم بأي مقترح يتعلق بإدخال منهج الموسيقى في المدارس في الوقت الراهن، لأن المجتمع لم يتقبل لحد الآن جمعية للثقافة والفنون فكيف بـ«المناهج الموسيقية»؟!

* التركي: رفع الذائقة الفنية

* أما فاضل التركي، العازف والملحن الموسيقي، فقال «إن الشعب السعودي محب للموسيقى سواء أكانت غناء أو إنشادا، لكن استبعاد الموسيقى لفترة طويلة أثر على نوعية الإنتاج الموسيقي الذي أصبح غير جاد أو مبني على فكر، ولو كانت لدينا معاهد أو مدارس موسيقية لأصبحت لدينا موسيقى سعودية شهيرة». ويدعو التركي إلى ضرورة التبني الرسمي لإنشاء أكاديميات ومعاهد موسيقية لتخريج موسيقيين متمرسين، مقتصرا جهد المختصين الملحنين والمنتجين في الكتابة والتنوير ومحاولة إنتاج ما يسهم في رفع الذائقة الفنية والموسيقية.

* الموسيقى تعانق الشعر

* من جانبه، طالب الكاتب والشاعر حسين الجفال، رئيس منتدى الوعد الثقافي، وزارة الثقافة والإعلام بتقديم الدعم المالي لجمعية الثقافة والفنون، مما سيساعدها على دعم المبدعين من الشباب. ومعروف أن ملتقى الوعد الثقافي يقيم الأمسيات الشعرية والقصصية ومهرجانات ثقافية في السعودية والخليج. ويقول الجفال «إن الموسيقى ظلت ومنذ الأمسية الأولى للملتقى الرفيقة الدائمة ضمن مناشطه الخاصة، مما أسهم في التعرف على مبدعين وفنانين حقيقيين يعزفون في الظل، وقد اكتشف الملتقى أكثر من 20 فنانا تمكنوا جميعا من العزف على آلات موسيقية مختلفة».