أسرار نجاح «سيرك الشمس» ومفاتيحه

«الشرق الأوسط» في كواليس الفرقة الترفيهية الأشهر في العالم

مشهد من عرض السيرك («الشرق الأوسط»)
TT

«سيرك الشمس» الذي حضر عروضه، حتى الآن، أكثر من 100 مليون متفرج، وبات شهوة المستثمرين في العالم بمن فيهم «ديزني» و«وارنر»، له خفاياه وخباياه الفنية والتنظيمية، لا بل والثقافية التي تستحق أن تعرف. «الشرق الأوسط» زارت كواليس هذا السيرك غير التقليدي، وتعرفت على مكامن أسراره، ومفاتيح نجاحه. وهنا تحقيق يلقي الضوء، على غرائب تبقى خفية لكنها جوهر هذه العروض وأساس عالميتها.

ليس صدفة أن تصبح عروض «سيرك الشمس» من بين الأهم في العالم، وليس صدفة أيضا أن تتمكن هذه الشركة الفنية الكندية من بلوغ العالمية خلال 28 سنة من عمرها ليرتفع عدد العاملين فيها إلى 5 آلاف شخص، وتقدم 21 عرضا مختلفا في 21 مدينة في العالم، في وقت واحد. إنه الإتقان، والذهاب بالمهارات، الإنسانية والتكنولوجية، إلى أقصاها. ومن ينظر إلى «سيرك الشمس» بأنه مجرد مشروع تجاري رابح، ربما سيفكر مليا حين يعرف أنه المؤسسة التي تحتضن 1300 فنان على الأقل من نحو 45 دولة، وتحيطهم بالرعاية والعناية، وتوفر لهم أسباب التطور والسبل التي تدفع بهم إلى الأمام.

«سيرك الشمس» الذي يفتن الملايين حول العالم، بدأ بدخول الدول العربية، فبعد دبي، عرض في المغرب ولبنان، وبعدها سيأتي دور الأردن وقطر، وهذا ربما نتيجة تملك شركة «دبي وورد» 20 في المائة من «سيرك دو سولاي» منذ عدة سنوات. يقول لنا مكسيم، المسؤول الإعلامي في السيرك، الذي تكفل بالإجابة عن أسئلتنا وبمصاحبتنا في الكواليس، وساعد في التعرف على الفنانين وطرح الأسئلة عليهم: «ندخل حديثا إلى المنطقة، كنا في إسطنبول وها نحن في لبنان آتين من المغرب، وقريبا سنكون في عمان، والنتائج مشجعة للغاية. لكل بلد تقاليده وتجربته التي نحاول أن نتعايش معها لكن البداية مبشره».

حط «سيرك الشمس» في لبنان للمرة الأولى هذا الشهر. كالعادة قدم عرض «سالتينبانكو» وهو الأقدم عمليا في تاريخ هذه الشركة الفنية. عمل اختباري تقاس به درجة حرارة المدن ومدى تفاعلها مع هذا النوع من العروض. «90 شخصا في هذا العرض، وهو الأصغر والأكثر كلاسيكية». 30 طنا من المعدات المعدنية علقت في السقف لتأمين تسلق الفنانين، بينما تم شحن المستلزمات بحرا في 17 مستوعبا. «لا يتطلب تحضير المسرح بكامل تجهيزاته، وتعليق الرافعات، وترتيب الإضاءة أكثر من 11 ساعة» يقول مكسيم، فقد قام العاملون بهذه المهمة لمئات المرات وباتوا يعرفون عملهم.

بينما يقوم بعض الفنانين بتمارينهم البهلوانية التي تبدو خطرة للغاية، على المسرح في «فوروم» بيروت، يقودنا مكسيم إلى ما وراء المسرح لنكتشف عالما مذهلا، يضج بالتمارين، والورشات الرياضية والتمثيلية، إضافة إلى أنواع الملابس والأدوية والمأكولات، كل المستلزمات الحياتية للمجموعة، حاضرة هنا. المساحة هائلة، وكل ما يمكن أن يخطر على بال إنسان موجود ومتوفر للفنانين. «يعمل هؤلاء الفنانون 5 أسابيع ويرتاحون أسبوعين اثنين، يعود خلالهما كل منهم إلى بلده. هذا هو قانون العمل عندنا». ويضيف مكسيم: «يحق لكل شخص أن يحمل حقيبتين فقط، فيهما كل مستلزماته، عند انتقاله خلال فترة العمل، لهذا نؤمن للعاملين معنا كل احتياجاتهم الأخرى». في ركن كبير تصطف أنواع من الآلات الرياضية التي يصعب حصرها. في الكواليس هناك أيضا مجموعة من «المرشات» والأحواض التي تسمح للفنانين بالاستحمام، وهناك مطعم، وقسم للطبيب، وآخر للتدليك. وبينما نحن نجول في ما يشبه المقصورات التي خصصت كل منها لغرض، نقع على صف طويل من الغسالات والنشافات، وإلى جانبها صناديق معدنية بداخلها كل المساحيق اللازمة للغسيل. هذا قسم غسيل الملابس إذن؟ نسأل وقد أصابتنا الدهشة. يجيب مكسيم بأن فريق العمل يعيش كالبدو الرحل، من بلد إلى آخر، والمؤسسة تشحن كل هذا العالم المتكامل من بلد إلى آخر بواسطة البحر.

ما الذي لم يفكر به المنظمون؟ خزائن معدنية كبيرة، عددها بالعشرات، تغلق لتتحول إلى صناديق محكمة الإقفال، مرتبة، منظمة، ومزودة بأسماء فرق العمل. هذا قسم الملابس التي سيستخدمها الفنانون أثناء العرض، نحو 3 آلاف قطعة لهذا العرض وحده، ثمة فساتين وسراويل وأحذية، وأقنعة وطرابيش. من كل قطعة أكثر من واحدة، هذا ما يشرحه لنا مكسيم. فالأسلوب البهلواني للعروض قد يعرض الملابس للتمزق الجزئي أو الكلي. لهذا إلى جانب الملابس، قسم الخياطة. أكثر من خياطة، ومتخصصة في تصليح الأقنعة، تصاحب الفريق. في قسم الخياطة، أقمشة وقطع من كل لون لتصحيح ما يمكن أن يتمزق، خزائن خاصة لبكرات الخيط الكبيرة. كل درجات الأخضر، وكذلك بكرات لدرجات الأزرق والأصفر، والأحمر، وغيرها من الألوان. إلى جانب كل هذا قسم كي الملابس الذي تعمل فيه سيدتان، تباشران بعملهما بمجرد وصولهما إلى البلد الذي سيقدم فيه العرض، ليظهر الفنانون على المسرح بكامل أناقتهم وترتيبهم. ثمة خزائن للقفازات، وأخرى للقبعات، وغيرها للأقنعة، وأخرى للأحذية.

حقا لا تأتي الشهرة بالصدفة، ولا يبنى النجاح اعتباطا. فهذه المؤسسة الفنية لم تترك شيئا إلا وفكرت بأمره. وبينما كنا نمر على هذه الأقسام، تسكننا الدهشة وتظهر على وجوهنا علامات التعجب، يواصل العاملون شغلهم وكأنهم لا يروننا، فالممثلون يواصلون التدرب على أدوارهم، والرياضيون آخذون في التركيز على حركاتهم البدنية، بينما مكسيم لا يبدو أنه يعبأ كثيرا لاستغرابنا من كل ما نرى، وكأنه تعود على علامات الاستغراب مرتسمة على وجوه زواره. يشرح لنا المستضيفون اللبنانيون، أن بعض الأمور طلب منهم تحضيرها قبل وصول الفريق، لكن «سيرك الشمس» يحمل معه أغراضه حيثما حل، ولا يحتاج إلا للكشف على المكان ومدى ملاءمته للعرض والتحضيرات قبل وصول فريق العمل.

لا يخيل لمن يرى عروض «سيرك الشمس»، مهما كانت باهرة ومذهلة، أن الكواليس القابعة خلف المسرح بهذه الضخامة وعلى هذا المستوى الرفيع من الإتقان. نعود بعد جولتنا إلى المسرح، لنفهم أن الفنانين رغم قفزهم في الهواء على ارتفاع يصل إلى 17 مترا، وقيامهم بحركات غاية في الخطورة من حيث الظاهر، فإن كل سبل الحماية مؤمنة لهم.. 4 رافعات على جوانب المسرح على كل منها يوجد تقنيون مهمتهم «حفظ حياة الفنانين»، من خلال ربطهم بحبال خاصة يتعاملون معها بحرفية عالية ودقة شديدة.

المديرة الفنية للعمل، مينالين فودفيل، هي راقصة في الأصل لمدة 15 سنة، قضت 5 سنوات منها في المؤسسة قبل أن تتسلم هذه المهمة. تشرح فودفيل لنا ونحن نسألها عن ماهية عملها: «لست أنا من وضع هذا العرض، لكن مهمتي، بعد أن صار عمره 20 سنة، أن أحافظ على ألقه وكأنه ولد اليوم. أتابع الفنانين، أشد أزرهم، أعدل بعض التفاصيل إن لزم ذلك، وقد أتدخل لتبديل أمور أكثر أهمية، مع الحفاظ على جوهر العمل. كل شيء يتغير في العالم؛ التكنولوجيا، والمفاهيم، ورغبات الجمهور.. وظيفتي أن أبقى يقظة لكل هذه التحولات». وتتابع فودفيل: «بعد ألف عرض مثلا، يشعر الفنانون بالملل، مهمتي أن أمدهم بالحوافز». ولكن كيف تبثين الحماسة في نفوس هؤلاء الراقصين والبهلوانيين والممثلين والموسيقيين؟ تجيب فودفيل: «الأساليب كثيرة، ننظم نشاطات فنية، مسرحية، وربما رحلات ترفيهية. أسألهم عما يحبونه. قد نقيم ورشات عمل في الكومبيوتر أو التصوير أو حتى الإدارة. الفنانون يعبرون عن رغباتهم، ونحن نلبي». عشرات آلاف طلبات التوظيف على الموقع الخاص بـ«سيرك الشمس»، كل يعرض مهاراته التي ليست لغيرة، هناك من هم آتون من عالم الرياضة، أو التقليد، وربما السيرك بكل بساطة. تشرح فودفيل: «إن الطلبات تدرس وتفلتر وتوضع تبعا لخانات محددة، وحين تحتاج المؤسسة لدور بعينه أو مهنة دون سواها يتم الانتقاء النهائي لمن هم أفضل. ولكن ماذا بمقدور فنان قضى 20 سنة في (سيرك الشمس) أن يفعل بعد خروجه منه؟ فودفيل تؤكد أن السيرك معني بأبنائه، وبمستقبلهم، وهم يعرفون ذلك». وتضيف: «نحن مؤسسة تحفظ أبناءها، وتبقى وفية لهم، حريصة عليهم. ثمة من يتطورون معنا، ويغيرون مهامهم ضمن المؤسسة، ومنهم من يتركوننا لأعمال أخرى، وغيرهم يحتاجون لمساعدتنا، لإكمال حياتهم المهنية ونحن لا نخذلهم. هذا هو سر نجاحنا وتفوقنا». أفراد «سيرك الشمس»، يعيشون كعائلة، ينامون معا، يسافرون، يعملون ويتنزهون، ويلتقون بعضهم أكثر مما يرون عائلاتهم. تقدم الفرقة الواحدة عرضها نحو 400 مرة في السنة الواحدة، أمر تكراره ليس بالسهل مهما كان الإنسان خلاقا، وعلى الفنانين أن يوحوا للجمهور بأنهم يقدمون عرضهم في كل حفلة، وكأنها المرة الأولى.

معلوم أن «سيرك الشمس» ليس سيركا بالمعنى التقليدي للكلمة، فالمؤسسة الكندية التي طورت هذا الفن، جعلت من عروضها متعة للناظر بعيدا عن إشراك العنصر الحيواني. ليس في «سيرك الشمس» غير البشر الذين يتم اختيارهم من بين نخبة النخبة. عروض تعتمد على الإخراج المسرحي، والابتكار الموسيقي، والعزف الحي، والقصة الموحية، واللغة التي تصل إلى كل الناس، إضافة إلى استثمار أحدث التقنيات لمساعدة الفنانين على تقديم الأفضل في القفز والبهلوانية وكل فنون السيرك واللياقة البدنية. لا يترك «سيرك الشمس» اختصاصا إلا ويستفيد من آخر مبتكراته، فثمة مهندسون يعملون على قياس إمكانية تطوير الأدوات أو شكل الأعمدة التي يتسلقها الفنانون مثلا، وهناك مستشارون رياضيون، مهمتهم تصور أقصى ما يمكن أن يصل إليه الفرد أثناء أداء مهمة جسدية معينة، هناك طبعا الديكورات والألحان والأغاني التي توضع خصيصا لك عمل ينتجه «سيرك الشمس».

تخرج من كواليس «سيرك الشمس»، وكأنك تخرج من عالم لا يشبه ذاك الذي تعيش فيه. كل شيء في هذه المؤسسة مرسوم وفق حساب، حتى من يتكلم من الفنانين مع الصحافيين ومتى.. لكل عمله كما خلية نحل دأبت على صناعة العسل اللذيذ، دون أن يهتم جنود الخلية كثيرا لما سيقال عن المذاق.