شاعر سعودي يعيد أمجاد الشعراء الصعاليك

محمد مسير مباركي: الجنون مصطلح شعري.. والصدق والصعلكة يشكلان معنى واحدا

الشاعر السعودي محمد مسير مباركي يلقى قصائده في نادي الباحة الأدبي
TT

لشدة انحيازه للشنفرى، شاعر الصعاليك في العصر الجاهلي، التصق لقب «الشنفرى الأكبر»، بالشاعر محمد مسير مباركي، ومن الغريب أن هذا الشاعر الذي يكتب الشعر منذ أكثر من ثلاثين عاما، لم تنظم له سوى ست أمسيات شعرية في بلاده، بينما عرفه جيل من الأدباء ومحبي الشعر في بلدان أخرى كاليمن.

«الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي في الدمام مع الشاعر محمد مسير مباركي، المقيم في جدة غرب السعودية.

* كيف هي علاقتك بالشعر؟ أيكما اختار الآخر؟

- إن الشعر ذنب يتخير من يقترفوه بعناية، كما يتخير ناظم العقود الدر المتجانس ليسلكه في خيط واحد، ولا يمت للشعر بصلة من يحسب أنه قبض على الشعر/ الزئبق. إن الشعر دهشة ربما اجترحها، لكنني أظل جنينها ورعشة ناهزتها، لكنني أظل فلذتها. إنه التكون من صدفة ناشئة والتخلق في رحمٍ متحول وغير مستقر.

* هل بقي للشعر مكان في عالم اليوم؟

- لقد بقي لنا كل الشعر حتى في أحلك ظروف وأقسى آلام وأوجع الواقع، وهل هناك أجمل من أن يجد الإنسان مواسيا له أكمل من الكلمة وأعذب من موسيقى الشعر، يتلمسه الآخرون بين جوانحك، أما الشاعر فيظل يطارده كطيف.

ونحن الشعراء مكان الشعر وزمنه فمتى وجدنا وجد، ومنا يتكون، وفي حروفنا تتشكل مراحله، وعبرنا يمر من جيل إلى جيل. وما دام يولد شاعر على الأرض يولد زمنه.

* لكنه زمن الرواية، كما يقال، وليس الشعر.

- الشعر مغامرة مجهولة البداية والنهاية، أما الرواية فمغامرة أيضا، ولكن معلومة البداية مجهولة النهاية وكلاهما فن.. نهر الإبداع يتدفق كل آن، وفي كل اللغات وعبر كل الأجناس، وفي النهاية كلها تشكل نهرا واحدا يغسل فيه الناس أرواحهم قبل آذانهم، وأحزانهم قبل عقولهم. وأرى أن هذا سؤال كيدي اخترعه نقاد شابوا نهر الشعر، ويجب أن لا يسأل بعد هذه اللحظة.

* كانت لك قصائد تتنبأ فيها بما أصبح يعرف اليوم بـ«الربيع العربي».

- أولا كتبت ديوان «نبوءة» في القاهرة، وطبعته في صنعاء عام 1999، ولم أكن أحدس ولكن كنت أرى وكتبت في المقدمة «خمس إرهاصات سافرة قبل البدء» ومنها «صريخ»، التي قلت فيها:

جسد الريح

بوصلة للجهات اللعينة

فاطوِ شراعك

يا عام ألفين

حتى نصيخ..

لها

أم لنا كل هذا الصريخ؟

كنت أعي تماما أن الاحتدامات ستطول كل الظالمين في الأرض، وأن هذا زمن افتراق المواقف، فالإعصار الذي كان عابرا على أجساد المظلومين حل في أرواحهم ومفترق الطرق أصبح طريقا واحدا لا بد أن تمشي فيه أو تعاكسه. وأخيرا أنت إما أن تنحاز مع أو ضد، والإنسان عموما إما أن يكون عبر الحركة أو يتجمد.

* ما علاقتك بالشنفرى وبعالم الصعاليك؟

- حظي سيد الصعاليك وأجودهم شعرا «الشنفرى» بمدح شعره من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الرغم من أنه كان شاعرا جاهليا.

بالنسبة لي، فالشاعر المصري محمد محمد الشهاوي، وهو الذي اجتمع عليه الأمران الشيخوخة ونكران الشعراء له، كان يناديني أيام كنت معه في القاهرة بـ«الشنفرى الأكبر»، وذلك حسب قوله «لاجتماع البكارتين في شعري بكارة اللغة وبكارة المعنى بالإضافة للغة شعري الثائرة».

والصعلكة في أساسها تعني «الفرادة والتفرد»، وأن لا تكون إمعة لأحد من الناس مهما كان اتجاهه، إلا أننا الآن ضيعنا لغتنا.

* هل أنت آخر الصعاليك المحترمين؟

- لست أولهم ولا آخرهم.

* هل غيابك عن الساحة الثقافية على الرغم مما تمثله من طاقة شعرية كبيرة سببه شغفك بالصعلكة؟

- ألا ترى أن كلمة الصدق والصعلكة هنا تشكلان معنى واحدا؟ أن تصبح شاعرا، فهذا يعني أنك دخلت دائرة المسكوت عنه وهي في تعريفي الفلسفي دائرة الأرواح المأزومة بما يجري حولها وعليها.. الغيبي منها أشمل من العيني واللاهوتي منها أعظم من الناسوتي.. إنها مجرة نحن فيها ذرات وذرات نحن فيها هباءات نبحث فيها عن إجابة فتزداد علامات الاستفهام المعقوفة اتساعا.

* كيف ترى الساحة الثقافية؟

- الساحة الثقافية في السعودية تخصب بأحلام الشعراء وتجدب بقرار رئيس ناد أدبي وما بين ولادة شاعر في هذا البلد، وموت شعراء إعلام مترهل ودور نشر خرقاء وجشعة. إن كل الأندية الأدبية في هذا البلد تتحاشى محمد مسير مباركي لأن هناك شعورا بأنني لست مع الجوقة التي صيغت كما يشتهون.

وسؤالي إلى وزير الثقافة: لماذا؟ ولرؤساء الأندية الأدبية: متى؟ ولزملائي الشعراء: كيف؟

* ماذا تفسر ادعاء المرض النفسي والجنون في كل مؤلفاتك؟

- كلمة الجنون عندي أساسا هي مصطلح شعري، ولمن أراد الزيادة فليطلع على بحثي المنشور بعنوان «الشعر بين الجنون والعقل».

وقلت في مقدمة ديواني الثاني «منسك للسريرة في حرم الرمل»: «إنني أنا المريض النفسي الوحيد في هذا العالم الذي لا يقبله الأطباء في مصحاتهم الرشيدة»، وفي ديواني «الغيد الصناديد والرجال الحائضون»، ورد على لسان زوجتي: «وفي اعتقادي أنه المجنون الأوحد الذي يعترف أمام (العقلاء) بجنونه الشرعي، ولا يبالي؛ بل هي الكلمة الوحيدة التي يحرضني دائما على قولها له. أقول له: يندر أن تلد امرأة مثلك أيها المجنون العظيم. فيجيبني وهو يبتسم: الرجال صنفان إما (مجنون) وإما أحمق، والنساء صنفان إما (عاقل) وإما عاقر».

وفي عالمنا ليست الحقوق هي المشكلة ولكن الواجبات، وليس الجهل هو الأزمة بل التجاهل وليس الإمكانات البشرية والمالية هي المعضلة ولكن توظيفها وأنا شاعر ثائر لا يرضيني إلا الحق وأهله.

* لماذا تربط القصيدة بالحمى؟

- القصيدة وعي بالحياة يصل الألم بالنشوة، ويتصل بحبل سُري أوله لك وآخره عليك؛ فإما أن تكون معها أو لا وهكذا الحمى تكون معها بين حدي الإغماءة والإفاقة.. ولهذا أقول في لحظة حمى:

إنسانا في الإنسانِ أرَى

أمْ وَحْشَة أنْفاسٍ قَلِقَة

ذِمَمٌ للبيعِ وأرغفة

للجوعِ وعيشٌ كالفَلَقَة

سحْناتٌ مُضْمِرَة شَفَقا

وضَمائرُ مُظْهِرَة شَفَقَة

ورجالٌ قاماتٌ غُلْفٌ

ونِساءٌ هالاتٌ شَبِقة

إيْهٍ شُعَراءَ الأرْضِ وهلْ

إلاكم والحَرْفُ العَشَقَة

إنْسانِييْنَ وأنْصارا

للحَق ائْتُوا لا مُرْتَزِقَة

رُوْحانِييْنَ بلا عُقَدٍ

وحَوارِييْنَ بلا عَقَقَة

خُلَفاءَ الخالقِ لا الكُرْسي

وشهودَ المُصْلِحِ لا الفَسَقَة

كم بينَ لحَى صَدَقَتْ ولحَى

تَكْتالُ على الشعْرِ الصدَقَة

* من يلهمك؟

- الإلهام من كل شيء وفي كل شيء، الأهم أن تجد ذاتك وأن تكون أنت، فالوردة والمرأة والموقف وقبل هذا القراءة وبعد هذا التجربة.

وأنا تعودت أن أقرأ كل شيء حتى نفسي:

أقرأ في العتمة

نفسي

آن أشلح التعبْ

وآن يجهشُ الدمُ

فيحلمُ

وأستقيد جثة الهموم

في صلصال شهقتي المُضاءة

وحين يقطرُ اللهبْ

أقايضُ البراءة

* كيف تفسر التناص الذي تعمد له في بعض قصائدك مع قصائد التراث؟

- ربما أنت تقصد الأبيات الأربعة التي وردت في مقدمة ديوان «نبوءة» والتي منها:

وما «السلم» إلا ما علمتم وذقتمُ

فأرواحكم مرعى السلام المرجمِ

سئمت تكاليف «الشعور» ومن يعش

«ثلاثين» حولا «بالبراءة» يسأمِ

رأيت المنايا خبط «نعماءَ» من تصبْ

«ترحْهُ» ومن تخطئْ يعمر «فيندمِ»

وأعلمُ «ما مستقبل العرب في غدٍ»!

ولكنني عن علم «ماضيهمُ» عمِ!

وهذا ليس تناصا وإنما إعادة صياغة لمعنى أرى أنه هكذا أقرب إلى حقيقة ما يجري منذ 100 عام في العالم العربي.

* قبل فترة أقمت في اليمن.. ما المغريات التي دفعتك إلى ذلك؟

- قوبلت هناك بترحيب من الناس والشعراء وعلى رأسهم الصديق الشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، ووزير الثقافة القاص المبدع خالد الرويشان، وقبلهما الشاعر عبد الله البردوني، ومن هذا الاحتفاء تدريس نماذج من شعري في جامعتي صنعاء وتعز.

بالإضافة إلى هذا، فأنا كنت هناك كل يوم في أمسية شعرية سواء في مهرجان أو حفل أو معرض كتاب أو في المجلس اليومي مع الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح، الذي يحرص على حضوره الشعراء والأدباء ليس من اليمن فقط وإنما من كل العالم.

أما هنا فأنا أكتب الشعر منذ ثلاثين عاما ولم تقم لي إلا ست أمسيات فقط.

من قصيدة «الفَلَكُ الشَنْفَرِي»

تَرْكُضُ الأرْضُ ما بينَ صَحْوَيْنِ

والأرْضُ حُلْمٌ على قَلَقٍ

في سِواها نُفِيْقُ.. فهل أُذُنٌ واعِيَة؟

تَتَأبَطُ أبْناءَها المُتْعَبِيْنَ

بَناتُ الحَوادثِ

والقابِلاتُ يُعِذْنَ «العُجُولَ» منَ «السامِرِيِيْنَ»

و«التِيْهَ» منْ «لا مِساسْ»

تَرْكَضُ الأرْضُ عَنْهم بِهِمْ

منْ عَلٍ كالتَضارِيْسِ تَبْدو المَقابِرُ

والدَمُ نَخْبُ سِوانا مِرارا

وَوَعْدٌ لأغْيارِهم مَرَتَيْنِ..

ومَنْ رُوْحُهُ منْ نُحاسْ

بالسَعِيْرِ يُساسْ

***

تَرْكُضُ الأرْضُ

تَخْضَلُ خُمْصانَة بالكَوارِثِ

تَحْثُو الجُذَى الضارِيَة

أيُها اللَيْلُ يا أدْعَجَ الرُوْحِ خَفْ

لا أنا راهِبٌ للعَوِيْلِ البَغِيِ

ولا أنتَ دونَ الخِياناتِ عَفّ

أنتَ منْ كَوَرَ الشُبُهاتِ،

وَدَلَّى عَناقِيْدَها كَرْنَفالَ غَواشٍ لأرْواحِنا

وقَراصِنَة طَيِبِيْنَ لأحْلامِنا

وجُيُوْشَ تَرَفْ؛

أمْ وُجُوْهٌ بِلا وُجُهاتٍ،

عُقُوْلٌ بِغَيْرِ عِقالٍ،

أسامٍ وليستْ سِماتٍ،

مُلُوكٌ وما مَلَكُوا أمْرَهُمْ،

مَلَكاتٌ ولا مَمْلَكاتِ لها،

وَقَناطِيْرُ منْ كُلِ شَيْءٍ تَصُوْنُ الخَرَفْ؟

الغَرُوْرُ أمانِيُّهُمْ

والغُرُوْرُ مَقامُهُمُ بينَ حَدَّيْنِ..

حَدِّ صَدِيْقٍ جَهُوْلٍ

وحَدِ عَدُوٍ عَلِيْمٍ بِجَهْلِ الصَدِيْقِ عَرَفْز