مصدق.. رجل الشعب أم ديكتاتور؟

أسطورة إيرانية يعاد إنتاجها بأشكال مختلفة

غلاف الكتاب«محمد مصدق والانقلاب الأنغلو - أميركي المأساوي» المؤلف: كريستوفر دي بيلايغو الناشر: دار «هاربر» - نيويورك ولندن (2012)
TT

عند الكتابة عن المجتمعات غير الغربية في القرن الماضي أو غيرها من الأحداث الأخرى، يتبنى الكثير من المؤرخين الغربيين والأميركيين أحد اتجاهين:

الاتجاه الأول يمكن وصفه بأنه «إمبريالية العجرفة»، التي تؤكد على أن تطورا شهدته المجتمعات غير الغربية يعود إلى التصرفات الكريمة للقوى الغربية التي كانت مهمتها تصدير «الحضارة»، لأن أهل هذه المجتمعات الذين يشار إليهم على أنهم «مواطنون» لا يمكنهم القيام بشيء بمفردهم.

الموقف الثاني يمكن وصفه بـ«إمبريالية الذنب» التي ترى أن ما حدث لشعوب هذه البلاد كان خطأ القوى الغربية، وأن المواطنين ما كانوا ليفعلوا أي شيء ليضروا أنفسهم.

وعلى مدى عقود هيمنت «إمبريالية الذنب» على النقاشات التي دارت في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية حول التاريخ الإيراني، ويأتي بين هذه النقاشات أسطورة لعب فيها الأرستقراطيون القدامى دورا محوريا. الأسطورة هي أنه في أغسطس (آب) 1953، نظم اثنان من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية انقلابا أسقط الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، ومهد الطريق أمام الملالي للاستحواذ على السلطة بعد 26 عاما من ذلك. كان بطل الأسطورة الدكتور محمد مصدق، الذي عينه الشاه آنذاك رئيسا للوزراء للمرة الثانية عام 1952.

جاءت الأسطورة بعد عقد تقريبا من أحداث خليج الخنازير، الذي تداعت بسببه سمعة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والتي كانت تسعى جاهدة إلى البحث عن بعض قصص النجاح.

بيد أن الاستخبارات البريطانية ما كانت لتسمح للأجهزة الأميركية بالحصول على كل المجد. ويحاول بيلايغو أن يرضي كلا الطرفين. ففي النسخة الأميركية من كتابه يحمل البديل «الانقلاب الأنغلو - أميركي المأساوي»، بيد أنه في النسخة البريطانية يضع عنوانا أكثر إيجازا «انقلاب بريطاني كامل».

كان واضع خطة الانقلاب كيرميت روزفلت الذي، إن صدق دي بيلايغو، كان بارعا في الفنون السوداء. وصل كيرميت إلى طهران في 19 يوليو (تموز)، وأطاح بمصدق بعد شهر، قبل السفر لتناول طعام الغداء مع ونستون تشرشل في لندن. ولمساعدته لم تكن لدى وكالة الاستخبارات المركزية الكثير من المصادر الأميركية، بما في ذلك مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» كينيث لوف، وكاتب متعاون في وكالة «يونايتد برس إنترناشيونال» إيراني الأصل.

تعرض خصوم مصدق لانتقادات بالغة القوة من دي بيلايغو. وعلى الرغم من وصف أنصار مصدق بـ«الشعب» أو «الجماهير»، فقد وصم خصومه بأنهم سكان الأحياء الفقيرة ضد وزراء حاصلين على شهادات الدكتوراه من باريس.

ولا يمكن لدي بيلايغو أن يتخيل أن بعض الإيرانيين العاديين على الأقل قد يكرهون مصدق، «فالغوغاء والحمقى» هم من ثاروا ضد الدكتور. وعندما يحرقون المباني والمتاجر يظهر أنصار مصدق غضبا شعبيا فقط، لكن عندما يتحرك خصوم مصدق ضده يصف دي بيلايغو تحركهم بأنه «تحريض».

وفي تأييد مصدق وُصِف الدكتور مظفر بقائي بأنه «وطني شاب»، لكن عندما تحول بقائي ضد مصدق وُصف بأنه «ديماغوجي» (الحقيقة أن بقائي كان أستاذا للمنطق في جامعة طهران، وعضوا في البرلمان، وزعيما لحزب العمال الديمقراطي الشعبي). ولحسن الحظ فإن أسطورة مصدق مليئة بالثقوب كالجبن السويسري، ولم يكن بمقدور بيلايغو أن يتجاهلها.

دعونا نبدأ بالزعم أنه قبيل تدخل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت إيران ديمقراطية. الحقيقة هي أن إيران لم تكن ديمقراطية، لكنها ملكية دستورية يملك فيها الملك، الملقب بالشاه، الحق في تعيين أو إقالة رئيس الوزراء. وبحلول عام 1953، قام الشاه الذي ارتقى إلى العرش في عام 1941 بتعيين وإقالة 10 رؤساء وزارة من بينهم مصدق. وبين 1953 و1979، وعندما غادر للمنفى قام الشاه بتعيين وإقالة 12 آخرين. لكن أيا من تغييرات رؤساء الوزراء هذه وصفت بأنها انقلاب لأنها لم تغير جوهر أو شكل الدولة إيران كدولة دستورية بشكل كامل.

المثير للدهشة أن مصدق نفسه لم يعترض على حق الشاه في إقالته من رئاسة الوزراء. وخلال محاكمته زعم أنه تشكك في بداية الأمر بشأن صحة قرار الشاه في إقالته. ولم يزعم مصدق نفسه بأن الأميركيين لعبوا دورا في إقالته من رئاسة الوزراء. ويصور دي بيلايغو مصدق بأنه «واحد من أوائل الليبراليين في الشرق الأوسط، وكانت أفكاره عن الليبرالية أكثر تطورا عنها في أوروبا والولايات المتحدة».

المشكلة أنه لا يوجد في تاريخ مصدق الذي يمتد على نحو نصف قرن، كحاكم إقليم ووزير ورئيس للوزراء، ما يؤكد على أنه محب لليبرالية. هنا يقتبس دي بيلايغو من مصدق تعريفه للزعيم المثالي الذي ينبغي أن يكون «ذلك الشخص الذي تكون كل كلماته مقبولة ومطاعة من باقي الأفراد». ويضيف بيلايغو «سيظل فهمه للديمقراطية على الدوام مرتبطا بالأفكار التقليدية للقيادة الإسلامية، حيث يختار المجتمع شخصا صاحب خلق سام ويتبعه أينما ذهب»، وهو ما قد يتطابق مع تعريف «الزعيم المثالي» الذي وضعه آية الله الخميني الذي شعر بالإهانة لوصفه بأنه ديمقراطي.

وخلال رئاسته للوزراء أظهر مصدق ميولا ديكتاتورية واسعة النطاق. فلم يعقد مصدق اجتماعا كاملا لمجلس الوزراء ولو لمرة واحدة، متجاهلا القاعدة الدستوري بالمسؤولية الجمعية. وقام بحل مجلس الشيوخ، الغرفة الثانية من البرلمان، وأغلق المجلس، الغرفة الأولى من البرلمان. وقام بتعليق الانتخابات العامة قبل انتهائها، وأعلن أنه سيحكم بسلطة مطلقة. وقام مصدق بحل المجلس الوطني للتعليم العالي وأقال أعضاء المحكمة العليا، وقبيل أن يقال من منصبه في رئاسة الوزراء كان على شقاق مع كل أصدقائه وحلفائه، حتى إن البعض منهم كتب إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطلب منه التدخل لإنهاء ديكتاتورية مصدق. وعلى مدى فترة طويلة من حكمه عاشت البلاد في ظل الأحكام العرفية في الوقت الذي سجن فيه المئات.

هل مصدق رجل الشعب كما يزعم دي بيلايغو؟ مرة أخرى تعكس روايته صورة مختلفة. فمصدق ينتمي إلى ما يسمى العائلات الـ1000 التي امتلكت إيران. وتمكن هو وأبناؤه من القيام بدراسات مكلفة في سويسرا وفرنسا. وكانت للأولاد مربيات فرنسيات، وعندما كانوا يشعرون بالمرض كان يرسلون إلى باريس وجنيف للعلاج (حتى دي بيلايغو يلمح إلى أن مصدق ربما كانت له عشيقة فرنسية). وفي إحدى المناسبات التي أرسل فيها مصدق إلى المنفى الداخلي اصطحب معه حاشية كاملة، بما في ذلك طباخ خاص.

ويصف دين آتشيسون مصدق بأنه «فارسي ثري، ورجعي ذو عقلية إقطاعية، تسيطر عليه كراهية متعصبة تجاه البريطانيين». لكن حتى كراهيته المفترضة للبريطانيين موضع شكوك. فعمه فارمانفارما كان حليفا رئيسيا لبريطانيا في إيران على مدى ما يقرب من أربعة عقود. وفي مذكراته يقول مصدق إنه في أول منصب له كحاكم لإقليم فارس «كان يعمل هو والقنصل البريطاني معا كإخوة».

وتصوير مصدق على أنه كان مثالا للوطنية غير مقنع أيضا، فبحسب مذكراته الخاصة فإنه قرر في ختام دراسته للقانون في سويسرا البقاء هناك للحصول على الجنسية السويسرية، لكنه عدل عن هذه الفكرة عندما قيل له إن عليه أن ينتظر عشر سنوات من أجل الحصول على تلك المزية. في الوقت ذاته تمكن عمه فارمانفارما من تأمين وظيفة مهمة له في إيران، أغرته بالعودة إلى البلاد.

ارتبط اسم مصدق بتأميم النفط الإيراني في عام 1951، بيد أنه لم يكن حتى عضوا في البرلمان الذي قام بالتصديق على قانون التأميم، فقد عينه الشاه رئيسا للوزراء لتنفيذ القانون، لكن تردده جعله يفشل في مهمته.

حاول بيلايغو بناء دراما في إيران في الفترة من 1951 وحتى 1953، وتصويرها على أنها نزاع بين الاستعمار البريطاني والهوية الإيرانية. لكن هذا الزعم يصعب تصديقه هو الآخر، فإيران لم تكن على الإطلاق مستعمرة بريطانية. وشركة النفط الأنغلو - أميركية كانت حاضرة في خمس مناطق نائية لا ترقى لتشكل واحدا في المائة من مساحة البلاد، في إحدى محافظات البلاد.

في ذروة نشاطها قامت الشركة باستخدام 118 بريطانيا. ومن ثم لم تشاهد الأغلبية الإيرانية بريطانيا واحدا على الإطلاق. بيد أن دي بيلايغو يصف الإيرانيين بأنهم «مواطنون» و«شرقيون»، يواجهون «العالم الأبيض». المحزن أيضا أن دي بيلايغو لا يعرف شيئا، كما يبدو، عن المئات من الكتب وآلاف المقالات التي تقدم الرواية الإيرانية للأحداث، وهو ما يشير إلى أنه يرى أن ما يكتبه الإيرانيون عن تاريخهم لا يوجد به ما يرقى لأن يكون رواية صحيحة.

امتد تاريخ مصدق على مدى نصف قرن، وقد ينتهي التاريخ إلى اعتباره طفلا مدللا رفض أن ينضج، وربما كانت شعبيته السلبية جذابة قبل عدة عقود، لكن هذا قد يبدو غريبا في الوقت الراهن.