لصوص الفن.. ظرفاء بعيون الناس والإنتربول يطاردهم

15 ألف قطعة سرقت من العراق و70% من تراث أفغانستان الفني

TT

باتت سرقة التحف الفنية تشغل الـ«إف بي آي» كما «الإنتربول»، بعد أن بلغت أرقاما قياسية. فقد سرق 70% من التراث الفني لأفغانستان و15 ألف قطعة من العراق إثر دخول القوات الأميركية إليهما. هذا عدا ما يسرق من كبريات المتاحف في فرنسا وإيطاليا، وبقية أوروبا. مافيات، وأسواق عالمية تربط لصوص الفن «الظرفاء»

حماية التحف الفنية النادرة من عمليات السطو والسرقة، على رأس هواجس المؤسسات الثقافية وشغلها الشاغل، بعد أن باتت تسجل كل سنة اختفاء أجمل وأشهر مقتنياتها بسبب سارقين يتمكنون من اختراق الحواجز الأمنية للاستحواذ على الجواهر الفنية الثمينة.

الظاهرة أخذت أبعادا خطيرة في بلدان كفرنسا وإيطاليا ومصر والعراق واليونان وأفغانستان، التي سرقت منها في السنوات الأخيرة لوحات وقطع وتماثيل لا تقدر بثمن، معظمها لم يتم العثور عليه على الرغم من محاولات البحث الحثيثة.

الكنائس ولوحات بيكاسو الأكثر تعرضا للسرقة..

آخر سرقة لوحات في فرنسا، تعود لفبراير (شباط) المنصرم، حيث اختفت أربع لوحات من القرن السادس عشر والسابع عشر لرسامين معروفين أمثال بليني (العذراء والطفل) ونيكولا بوسان (منبع النهر) من متحف الفنون الجميلة لمدينة أجاكسيو بجزيرة كورسيكا. الحادثة عرفت نهاية سعيدة بعد أن دلت مكالمة مجهولة المصدر عناصر الشرطة، بداية شهر مايو (أيار)، إلى مكان اللوحات. لكن النهايات السعيدة ليست دائما مصير التحف الفنية المسروقة. فاللوحات الخمس لماتيس، فرنار ليجي، براك، موديلياني وبيكاسو (بقيمة 100 مليون يورو) التي اختفت منذ عامين من «متحف الفن المعاصر» بباريس لم يعثر عليها لغاية الآن، ولا على دفتر رسومات بيكاسو (33 رسما ما بين 1917 و1934) الذي سُرق من متحف بيكاسو في باريس عام 2009.

ناتانيال هرسبرغ، الصحافي بالملحق الثقافي بجريدة «لوموند» وصاحب كتاب عن سرقة التحف الفنية بعنوان «المتاحف الشفافة» دار نشر «دو توكان»، رصد قائمة بأهم التحف التي سرقت في الثلاثين سنة الماضية. مائة وعشرون قطعة من جميع أنحاء العالم لا يُعرف مصيرها لغاية اليوم وهي لا تخص اللوحات فحسب بل كذلك التحف الصغيرة التماثيل والقطع المعدنية والمخطوطات وحتى الأثاث الثمين.

كثيرة منها اختفت إبان الحروب، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، لا سيما تلك التي أخذها النازيون من أملاك العائلات اليهودية الغنية، ولكن أيضا عند حدوث حروب أهلية في برمانيا مثلا، حيث كان الجيش يتاجر بالتحف لشراء السلاح. ومن فترة قريبة اختفت قطع أثرية ثمينة في متاحف بغداد، وصل عددها حسب تقييم الخبراء إلى 15 ألف قطعة، أما ما اختفى في أفغانستان بعد التدخل الأميركي، فيقدر بنحو 70 في المائة من التراث الفني والثقافي لهذا البلد.

الأرقام التي وردت في كتاب «المتاحف الشفافة» لناتانيال هرسبرغ تكشف أن فرنسا تُسجل أعلى نسبة سرقات للتحف الفنية في أوروبا، متبوعة بإيطاليا. وعدا هذه السرقات التي تكتب عنها وسائل الإعلام لأنها تخصّ متاحف معروفة وفنانين كبارا فإن الحوادث التي تسجلها مصالح الشرطة المختصة تفوق ذلك بكثير. فقد تمّ عام 2011 تسجيل أكثر من 24 سرقة في متاحف فرنسا. 86 سرقة حدثت أيضا في قصورها، 245 في كنائسها ودورها و61 في غاليرهاتها.

على رأس قائمة التحف التي تتعرض للسرقة، تلك التي تخصّ الفنان بيكاسو، حيث يقيّم الخبراء نسبة لوحاته ورسومه المسروقة بستة في المائة.

لكن الإحصائيات الرسمية تكشف أن وتيرة هذه الأحداث هي في انخفاض إذا ما قُورنت بالسنوات الماضية. فمن 7180 قطعة نُهبت عام 2002 في فرنسا، انخفض العدد بحسب الديوان المركزي لمكافحة عمليات تهريب الممتلكات الثقافية (أو سي بي سي) إلى 1173 عام 2011، باستثناء تلك التي تحدث في الكنائس والكاتدرائيات والتي عرفت زيادة محسوسة، فمن 116 عام 2002 ارتفع العدد إلى 245 عام 2011، والسبب يعود لغياب إجراءات الحراسة في مثل هذه الأماكن التي تخصص للعبادة والتي تبقى مفتوحة للجميع لغاية ساعات متأخرة من الليل.

إجراءات أمنية ضعيفة...

كل التحقيقات التي أجريت إثر عمليات السطو كشفت أن نقص إجراءات الأمن هو الذي يشجع أحداث النهب. فأجهزة الإنذار لم تكن تعمل في القاعة التي سرقت منها لوحات «متحف الفنون المعاصرة» في باريس. نفس الشيء بالنسبة للأقفال التي كانت تغلق المعرض الزجاجي المحفوظ فيه دفتر رسوم بيكاسو والتي كانت مكسورة منذ مدة. أما الحارس الذي سرق متحف أجاكسيو فقد خرج بأربع لوحات دون أن يلاحظ أحد اختفاءها. بل إن غالبية السارقين يستحوذون على التحف في وضح النهار ودون اللجوء للعنف أو السلاح.

بالنسبة لمسؤولي المتاحف يعلّق ناتانيال هرسبرغ الصحافي في الملحق الثقافي بجريدة «لوموند» بالقول: «مثل هكذا وضعية تحمل الكثير من التناقضات. فمن جهة على المسؤولين تأمين المقتنيات، ومن جهة أخرى يتوجب عليهم، الاهتمام بتنظيم المعارض وعرض التحف لتمكين الجميع من التمتع بجمالها قبل كل شيء وليس إبعادها عن الأعين والإقفال عليها».

مسؤولو متحف أوسلو مثلا الذين وضعوا اللوحة الشهيرة لإرفارد مونش «الصرخة» في خزنة زجاجية مضاعفة على بعد أمتار طويلة من الجمهور وتحت حراسة مشددة بعد تعرضها عدة مرات لمحاولات سرقة ضمنوا تأمينها لكنهم في نفس الوقت حرموا الجمهور من متعة التفرج عليها في ظروف جيدة. وعلى الرغم من ذلك فمعظم مسؤولي المتاحف يبذلون قصارى جهدهم لتفادي هذه الحوادث. حيث يتم فحص الأقفال وتركيب قضبان على النوافذ ومخارج المتاحف وكاميرات مراقبة وتدريب الحراس على مواجهة محاولات السرقة، لا سيما أن شركات التأمين أصبحت لا توقع عقودا مع المتاحف التي لا تطبق إجراءات أمنية صارمة.

بعض المتاحف يخصص ميزانيات ضخمة لتعزيز ترسانتها الأمنية. متحف اللوفر مثلا، يصرف ما يعادل 15 مليون يورو سنويا من أجل ضمان أمن مقتنياته الثمينة. وقد اعتمد مؤخرا على تكنولوجيا جديدة تتمثل في تزويد التحف المهمة ببطاقات ذكية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة مهمتها المساعدة على تحديد مكانها في حالة السرقة. إضافة للمساعدات الحكومية التي أقرتها وزارة الثقافة منذ 2008 لجميع المتاحف الوطنية، خصيصا لتأمينها والتي تعادل نسبة 5 في المائة من ميزانية المتاحف. كما أن معظمها يستعين حاليا، بشركات أمن خاصة لتعزيز إجراءاتها الأمنية. «غي توبيانا» مفتش مباحث متقاعد، ومستشار أمني لدى اتحاد متاحف فرنسا، يؤكد أنه ومن معه لا يكتفون بمساعدة المتاحف على تأمين مقتنياتها، داخل فرنسا فحسب بل إنهم يسهرون على سلامتها حتى خارج حدود البلد، حين تُعار لمؤسسة أجنبية أو تشارك في معارض دولية. يضيف غي توبيانا أن الوسائل التقنية ليست كل شيء، بل إن العامل البشري هو الأهم. فالمتحف قد يكون مُجهزا بأحدث الوسائل لكن غياب الحرّاس قد يجعل وجودها عديم الجدوى. كما يأسف لمعارضة القانون الفرنسي لمبدأ تسليح حراس المتاحف، كما هو الحال في الولايات المتحدة أو الصين مثلا. وهو موقف يحمل الكثير من التناقضات، لا سيما أنهم يسهرون على تأمين تحف غالية، قيمة بعضها قد تفوق ما يوجد في أكبر المصارف.

السارقون عصابات منظّمة أم هواة مجانين؟

نظرة العامة لسارق التحف الفنية ليست دائما قاتمة، فهو في خيال الكثيرين قد يكون ذا شخصية لطيفة، كنموذج «أرسين لوبين» اللص الظريف الذي يمتاز بالشهامة ويتحدى الشرطة بذكاء، أو قريبا من شخصية «ماك» (الذي يمثل دوره شين كونري) اللص الهاوي للفن في فيلم «أونتربمنت». لكن الأمثلة التي تقترب من هذه الصورة ليست كثيرة. الصحافة الفرنسية كانت قد كتبت عن الشاب ستيفان بريتويزر المُلقب بـ«أرسين لوبين المتاحف» الذي سرق أكثر من 230 لوحة في غضون سبع سنوات، لأنه كان يعشق الرسم ويتأثر أمام اللوحات لدرجة البكاء. أو إكتور بوجان الطالب البلغاري الذي استحوذ على أكثر من 64 كتابا و150 بطاقة نادرة، لأنه كان هاويا ومجمعا للمخطوطات القديمة.

لكن حقيقة مرتكبي هذه السرقات مختلفة تماما، فأكثر من حب الفن والإعجاب بجمال اللوحات، يبقى الربح المادي هو الدافع الأول وراء هذه السرقات. حيث ينشط معظم هؤلاء ضمن عصابات منظمة، ترتكز حاليا ما بين هونغ كونغ، وموسكو ودبي، بعد أن كانت تنتشر في السابق ما بين أوروبا والولايات المتحدة. بعضهم يعيد بيع التحف المسروقة لمجمعين أثرياء في سرية كبيرة، لكن كثيرا من هذه العصابات تفضل مطالبة المؤسسات المتخفية بفدية مقابل تسليم القطع المسروقة. وهو ما حدث مثلا مع «غاليري بولاغ» بزيوريخ التي دفعت فدية باهظة لكي تسترجع ست لوحات لبيكاسو، كانت قد سُرقت منها عام 1993. وأحيانا تلجأ للأسلوبين: فتبيع التحفة ثم تتصل بالمتاحف لتبيعها معلومات عن مكانها: «التات بريتان» المتحف البريطاني المعروف مثلا اعترف أنه دفع مقابلا ماليا للحصول على معلومات حول مكان لوحتين مسروقتين للرسام تورنار، لكن نادرا جدا ما تعترف المتاحف برضوخها للتهديد لكي لا تشجع أحداث السرقة.

تراقب نشاط هذه العصابات، منظمات دولية كالإنتربول حيث ينشر بانتظام على موقعه الإلكتروني إشعارات البحث عن التحف المسروقة والتي تصل في قاعدة بياناته إلى 35 ألف قطعة. «إف بي آي» والمخابرات الأميركية تتابع عن كثب عمليات المتاجرة بالتحف المسروقة وعندها محققون وخبراء في الفن يعرفون باسم «أرت كريم تيم». أما «أوسي بي» أو الديوان المركزي لمكافحة عمليات تهريب الممتلكات الثقافية، فهي الهيئة الفرنسية التي تهتم بمحاربة مثل هذا النوع من السرقات، على أن القانون الفرنسي أصبح أكثر صرامة في تعامله مع هذا النوع من الجرائم. ومنذ عام 1998 أصبح على سارق التحف الفنية تحمل غرامة كبيرة وأكثر من عشر سنوات سجنا.