مهدي مبروك: أهم ما حققته الثورة تحرير المثقف التونسي من عقدة الخوف

أول وزير ثقافة بعد الثورة التونسية لـ «الشرق الأوسط»: نحن بصدد ثورة تشريعية ثقافية

وزير الثقافة التونسي مهدي مبروك («الشرق الأوسط»)
TT

مهدي مبروك هو أول وزير ثقافة تونسي بعد الثورة. وقد اشترك مؤخرا في منتدى الإعلام العربي الذي اختتم أعماله في دبي. ومبروك أساسا أستاذ جامعي في علم الاجتماع، إضافة إلى كونه ناشطا حقوقيا، ومفكرا سياسيا، وهو ليس طارئا على وزارة الثقافة؛ إذ أمضى فيها خمسة عشر عاما موظفا.. «الشرق الأوسط» التقته في دبي وكان الحوار التالي:

* هل يمكن أن تخبرنا، بصفتك أول وزير للثقافة بعد الثورة، عن الدور الذي يمكن أن تلعبه وزارة الثقافة وهل تحتاج إلى ثورة تشريعية؟

- لكي يتم تفعيل الدور الذي يجب أن تلعبه وزارة الثقافة بعد الثورة، لا بد من إعادة النظر في جميع التشريعات التي تخص البنية التحتية. ونحن بصدد إحداث ثورة تشريعية نرجو لها أن تكتمل مع هذه الحكومة، وهذه الثورة لها ثلاثة أبعاد: أولا دعم حرية الإبداع وتنقيح التشريعات المكبلة له. ثانيا: استصدار قوانين تنظم عمل مؤسسات وزارة الثقافة. ثالثا: إصدار قانون يتعلق بصندوق التنمية الثقافية وآخر يكون ما أسميه «صندوق كرامة» يتناول الحيطة الاجتماعية ويساعد المثقفين ويمنع من الانزلاق إلى العوز والفقر. ولو ألقينا نظرة على تشريعات الدولة التونسية نرى أنها تنص على دعم الكتاب والأدباء والإنتاج الثقافي والسينمائي والمسرحي.

* هل يعني ذلك أن دعم الثقافة كان موجودا في نظام الدولة السابق؟

- أجل.. كان دعم الثقافة موجودا في النظام الذي سبق الثورة. ولا أنكر ما قدمته الدولة التونسية السابقة لدعم الثقافة بصفتي كنت موظفا طوال خمسة عشر عاما، ولكن الاختلاف الآن هو في الشفافية التي نتمتع بها، والحرص على الصرف المالي العام. وربما هذا ما يميزنا عن النظام السابق. والتغيير الذي حصل بعد الثورة هو زيادة الميزانية المخصصة للثقافة بنسبة 4 في المائة. يضاف إلى ذلك أن العهد الجديد يمتاز أيضا بالحوكمة والحياد والموضوعية. وهذا جزء من واجب الثورة تجاه الثقافة. لأننا ألغينا ما نطلق عليه «الزبونية» في التعامل مع المثقفين وشراء ذممهم بالمال في معادلة بائسة وهي اشتراط تقديم المثقف دعمه السياسي من أجل الحصول على ولائه. خاصة أن دعم وزارة الثقافة يأتي من المال العام. وهذه مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى.

* ما البرامج الثقافية التي تسعون إلى تحقيقها؟

- حافظنا على ما نسميه «الأجندة التقليدية» للثقافة التونسية مثل معرض تونس للكتاب الدولي، ومهرجاني قرطاج السينمائي والمسرحي. وسنستأنف «أيام قرطاج السينمائية» في 25 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ونسعى لجذب الشباب إلى القراءة وحب الكتاب. ولنا خطط لدعم الإنتاج السينمائي الوثائقي لأن النظام السابق لم يكن يسمح بالتوثيق الذي نعتبره ذاكرة الأمة.

* ما خططكم لدعم دور النشر التونسية؟

- لدينا خطط عديدة بشأن دعم دور النشر، خاصة أن تونس كانت تتوفر على أكثر من 60 دار نشر، لكنها إما اختفت أو تحول بعضها إلى القطاع الخاص. كانت لدينا دور نشر حكومية، ولكن تم تخصيصها، بخلاف مصر، علما بأن للخصخصة إيجابياتها وسلبياتها. على سبيل المثال، كانت «الدار التونسية للنشر» عريقة وفاعلة في الواقع الثقافي التونسي مثل «الدار العربية للكتاب»، وهي شبه حكومية، بالشراكة مع ليبيا، إلا أنها تعرضت للإفلاس. والمعروف أن الدعم المالي كان يذهب للناشرين وليس لدعم الكتاب والأدباء.

* هل تعتقد أن من حسنات الثورة التونسية أنها لم تحطم الدولة ولا بنيتها التحتية على خلاف بعض بلدان الربيع العربي؟

- هذا صحيح. على خلاف الثورات الأخرى، استمرت الدولة التونسية في عملها حتى إننا لم نشهد انقطاع التيار الكهرباء أبدا، ولم تسجل أي حالات انتقام بين الضحية والجلاد، بل أخذت العدالة طريقها في التطبيق. ولم تكن هناك حالات الانفلات حتى في أوج مراحل الثورة. ويمكن أن نذكر بعض الأحداث الجانبية لكنها غير ذات أهمية في المجرى العام.

* هل ينبغي أن يكون وزير الثقافة منتميا إلى أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة، وما الوضع بالنسبة لكم؟

- كنت أنتمي قبل الانتخابات الأخيرة إلى الحزب الديمقراطي التقدمي، وكنت من مؤسسيه. والمعروف أن هذا الحزب ناضل ضد النظام السابق طوال عقدين من الزمان. بعد الثورة وقبل الانتخابات بثلاثة أشهر، قدمت استقالتي لأسباب خاصة اعتقادا مني بأن هذا الحزب كان يتمتع بخط عروبي إسلامي متنور، إلا أنه في الأشهر الأخيرة انحاز إلى الآيديولوجية المالية وأصبح تحت تأثير اللوبيات المالية. لكنني كنت عضوا في هيئة تحقيق أهداف الثورة بصفتي شخصية جامعية مستقلة، وهي هيئة تشريعية واستشارية صاغت القانون الانتخابي الذي نتمتع به الآن.

* هل الوزارة مرتبطة بالدولة التونسية وسياستها بشكل وثيق.. أقصد هل تتسلم أوامر معينة من رئيس الحكومة بصدد رسم السياسة الثقافية؟

- من الطبيعي أن تنتمي الوزارة إلى الحكومة، لكنها تتمتع باستقلالية معينة. وأنا عضو في الحكومة، ولكن ذلك لا يعني أننا نتسلم الأوامر من الحكومة. ولحد الآن ومنذ تسلمي مقاليد الوزارة منذ نحو خمسة أشهر بوصفي أول وزير للثقافة بعد الثورة، لم أتسلم أي أوامر معينة لرسم سياستنا الثقافية. وكان شرطي الأساسي في قبول الوزارة هو عدم الوقوع تحت تأثير التجاذبات السياسية والحزبية. وأسعى بكل جهودي من أجل أن أنأى بالوزارة عن أي تأثير مباشر ومن أية جهة كانت. لذا تتمتع وزارة الثقافة باستقلالية كبرى، ولم يسبق أن وجهت لي أية تعليمات من رئيس الحكومة بهذا الشأن كما أسلفت. ورغم ذلك، فإنه لا يمكن للثقافة أن تكون بمعزل عن التأثيرات السياسية، لكن الأهم في كل ذلك جهودنا في تحييد المجالات الثقافية عن أن تكون ساحة للرسائل السياسية المباشرة. وهذا ليس بالأمر السهل، لكنني أسعى لأن تلتزم وزارة الثقافة بالتعددية والحيادية، كما أتمنى على المثقفين أن يلتزموا أيضا بالحياد السياسي وهذا ما يقتضيه ميثاق الشرف.

* ما علاقتكم بالمثقفين التونسيين؟

- عقدنا جلسات مطولة مع عدد من المثقفين والمفكرين والرسامين والكتاب والسينمائيين لتدارس القضايا الثقافية؛ أبرزهم هشام جعيط وعياد لطفي وغيرهما كثيرون. هذه العلاقة في نظري يجب أن تقوم على أساس احترام كل مبدع وإنتاجه. كما نسعى إلى استرجاع دور الثقافة العربية ووجهها الناصع بعد أن وقعت تونس تحت تيار الفرانكفونية الذي سعى إلى حالة الاستلاب والاغتراب في ثقافتنا. ولا أتحدث هنا عن الثقافة الفرنسية التي تعتبر رافدا مهمّا في ثقافتنا في ما يخص اللغة والانفتاح على الآخر، ولكن ما يكرسه البعض في الرؤية بعيون فرنسية بطريقة اغترابية. أي إننا نرفض الفرانكفونية بالمعنى الاجتثاثي الذي يروجه البعض. ورغم أن النخب الفرنسية في تونس حاذقة في صياغة الأدب والفن، لكن طريقتها الاستلابية والاغترابية لا تصب في صالح الثقافة العربية الأصيلة، علما بأنه لا يوجد لدينا مشكلة مع اللغة الفرنسية؛ بل مشكلتنا مع التيار الانسلاخي.

* يقول بعض الفنانين إنهم يعيشون ظروفا صعبة ومزرية بسبب البطالة المفروضة عليهم في غياب المهرجانات والعروض والحفلات؟

- هناك جانب من الصحة في هذا القول، ولكنه يحتاج إلى التدقيق أيضا لأن الدعم لم يتوقف مطلقا لجميع أشكال الفنون، فلجنة الاقتناءات في الفنون التشكيلية تواصل عملها، ولجان الدعم السينمائي أيضا تواصل عملها، وفي مجال المسرح حدث نوع من البطء الناجم عن عراقيل إدارية تعود بالأساس إلى خلافات حول تصورات اللجان ومهامها وهي محل جدل المهنيين وأهل القطاع. وعلينا أن نفكر في صيغ يتولى فيها المجتمع والمؤسسات تشغيل الفنانين. هناك فوضى في الساحة المسرحية ناجمة عن تضخم عدد شركات الإنتاج المسرحي الذي بلغ 200 شركة وكلها تنتظر من الدولة أن تشغلها، وبعضها لا يحترم القانون، وهناك قضايا ودعاوى بين بعض المسرحيين أنفسهم، وليست الوزارة طرفا في هذه الفوضى، بل إنها حريصة على إيجاد تسوية بينهم.

* ما وضعية مهرجانات الأغنية في تونس؟

- منذ تولينا الوزارة، أولينا عناية كبيرة للأغنية في المهرجانات، لعل أهمها مهرجان قرطاج ومهرجان الأغنية الصوفية بالقيروان، علما بأن هذا الأخير يندرج في فلسفة غير فلسفة مهرجان الأغنية العادي، فالقيروان تستحق مهرجانا خصوصيا يبرز الطابع الرمزي لهذه المدينة، ويندرج أيضا في إطار إعادة النظر في خارطة المهرجان. على سبيل المثال، كانت الفرقة الوطنية للفنون الشعبية أهم من كان يعرف بالسياحة الثقافية، ولكن للأسف الشديد تراجع أداؤها وتم حلها. وأعتقد أن الفرقة الوطنية للفنون الشعبية والفنون الأخرى باستطاعتها أن تخدم الساحة الثقافية حينما تقدم على قواعد فنية علمية. ونحن ضد تشويه التراث الشعبي إذا استخدم بطريقة معينة في السياحة، وهذا لا يليق بالثقافة، لذلك نحن بصدد العمل مع وزارة السياحة من أجل النهوض بالتنشيط الثقافي في مؤسساتها.

* نحن نعلم أن الثقة بين الجمهور والثقافة في النظام السابق لم تكن على ما يرام، هل هذه المشكلة مستمرة حتى الآن في نظرك؟

- هناك أزمة ثقة بين المواطن وجميع أجهزة الدولة من مؤسسات تربوية وإعلامية وثقافية وأمنية وقضائية.. فالأزمة شاملة، ولكن نكران المبادرات من أجل إعادة هذه الثقة فيه إجحاف كبير، وقد عقدنا ندوة مع مندوبي دور الثقافة، ولدينا 250 دار ثقافة لا بد من تفعيلها، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والثقافة لأن الحزب الحاكم في النظام السابق احتكرها وشوه صورتها.

* ما حدود الرقابة على القطاع الثقافي في العهد الجديد؟

- أعتقد أن آلية الرقابة على الإبداع هي ضمير المبدع وحسه الفني والجمالي، ولم نمارس أي شكل من أشكال الرقابة إلى حد الآن.

* يقول البعض إن حرية الإبداع، خاصة في مجال السينما والمسرح والرسم لا يمكن أن تكون حرة في واقع الأحزاب الدينية التي تحكم، ما رأيك؟

- نحن نسعى إلى ضمان حرية الإبداع الفني دون أي قيود في ظل حكومة تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية، بما يعني عدم المساس بحرية الإبداع؛ إذ نحرص على إبقاء الثقافة محايدة خارج الصراع المحتدم بين الإسلاميين والعلمانيين في البلاد. لا بد من الاعتراف بأن هناك مخاوف حقيقية للعلمانيين من التشدد الديني، خاصة في مجال الإبداع الفني، ونحن نتفهمها، ولكن بعضها حقيقي والبعض الآخر مبالغ فيه. لن نصمت على أي تجاوز ضد حرية الإبداع بمختلف أشكالها، ولن نفرض أية رقابة إدارية على الأفلام والمسرحيات، وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تساند جهود الوزارة في هذا الاتجاه. والحوادث التي تقع هنا أو هناك معزولة وليس لها أثر سلبي على حركة الإبداع.

* ما نسبة الدعم المالي التي تقدمها الدولة التونسية للثقافة؟

- تبلغ الميزانية المخصصة للثقافة نسبة 0.86 في المائة، وهي للأسف الشديد لا تصل إلى النسبة المخصصة من قبل اليونيسكو للثقافة والتي تبلغ 1 في المائة من الميزانية العامة. ونحن نسعى إلى زيادة النسبة المخصصة للثقافة من الميزانية العامة للدولة التونسية مع علمنا بالاستحقاقات المالية وما تسببه البطالة من تأثيرات مالية سلبية، لكننا متفائلون بأن السياحة تستعيد عافيتها وكذلك قطاعات تجارية أخرى. وهذا الأمر طبيعي في فترة التحولات التي يشهدها البلد. وكما قلت في السابق، حاولنا زيادة ميزانية الثقافة بنسبة 4 في المائة. ولدينا 24 ممثلية في محافظات الدولة، ومواردنا البشرية جيدة. ونسعى إلى تنشيط المهرجانات المهمة وقمنا بدعوة بعض المغنين الجادين أمثال: كاظم الساهر ومرسيل خليفة ونصير شمة لإحياء حفلات فنية وغنائية. أعلم أن ما يقدم للثقافة قليل، والإبداع يستحق أن ندعمه أكثر، ومع ذلك علينا أن لا نكون مجحفين في حق الوزارة، فهناك ميزانيات مخصصة للثقافة منها: ميزانية في حدود 7 مليارات دينار للسينما، و6 مليارات دينار للمسرح، و5 مليارات دينار للكتاب، ومليار للفنون التشكيلية، ونصف مليار للأغنية، وتقدم على شكل دعم ومنح وتسيير واقتناء ومشاركة في تنظيم المهرجانات، ولكن هذا المبلغ سيبدو هزيلا إذا ما علمنا بأن المجالس الجهوية تخلت عن الدعم الثقافي. لذا علينا البحث عن مصادر تمويل أخرى من مؤسسات المجتمع المدني وإلا ستظل الأزمة قائمة.

* هل في نيتكم الانفتاح على المثقفين العرب؟

- بالتأكيد. نحن مصرون على استعادة الوجه الحضاري لتونس ودورها الثقافي. كما نسعى لمد الجسور مع عدد من البلدان العربية الشقيقة كما فعلنا مؤخرا مع الجزائر ومصر والبحرين.

* ما رؤيتك لمستقبل الثقافة في تونس؟

- إنني متفائل بمستقبل الثقافة في تونس لأن سبب تراجع وتخلف الإنتاج الأدبي والثقافي كان يعود إلى سياسة القمع التي اتبعها النظام السابق والتي أفرزت السطحية والخوف، ولكن الآن لم يعد لذلك وجود، فقد حصلنا على الحرية، وعلى المثقفين أن يمارسوا حقوقهم بكل جرأة وثقة بالنفس في إبداع كل ما كانوا يحلمون به. وسوف ندعمهم بالكامل، ونرفض كل أشكال القمع والمنع التي تمارس بحق المبدعين أو المؤسسات الثقافية، فالقانون فوق الجميع.. وهذا ما يجعل الثقافة تتقدم إلى الأمام وتنسج علاقاتها العميقة مع الجمهور.

* لو سألناك أخيرا عن قراءاتك الأدبية؟

- أحب قراءة الرواية العربية، وكنت أقرأ أيام الجامعة روايات مثل رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب الصالح، و«الثلج يأتي من النافذة» لحنا مينة، و«الحياة جميلة يا صاحبي» لناظم حكمت، ورواية «النبطي» ليوسف زيدان. كما أقرأ لجمال الغيطاني، وإدوار الخراط. والآن مستمر على النهج ذاته في قراءة الروايات والأعمال الأدبية والفنية الأخرى إضافة إلى الأبحاث والمقالات.