حمالة الأوجه.. الهمزة

رشا الأمير تكتب عن الحرف الذي حير العرب

الكتاب: «كتاب الهمزة» المؤلف: رشا الأمير الناشر: «دار الجديد» - بيروت 2012
TT

عين صغيرة تفتح يمينا، وتزحف لعوبا فوق الألف أو تحتها لتكسبها نكهة النصب أو الخفض أو الضم، فوق كرسي الياء تجلس آمرة، وفوق الواو تضم ما احتضنت الواو من كؤوس ورؤوس وفؤوس وواوات تحمل تيجانا لتبدع من الضم مخرجا للنطق لا يغرق في وهدة الواو ويشرئب عن كسل الجموع، وتبقى طليقة لا هي حركة مع أنها تحرك المشاعر والخواطر، ولا هي الحرف التاسع والعشرون في بستان اللغة.

بعين صغيرة عاصفة، استطاعت رشا الأمير أن تشاكس بيوت القمر فتبدل وتحذف وتؤنس وتمتع من عانى ويعاني من جهامة دروس القواعد في لغة، لا غرابة أن نقف ونبكي على ما آلت إليه أو قد تؤول.

ما قولك أن نجلس بعد أن وقفنا طويلا على رسم درس، للخروج من بطون كتب النحو والإملاء؟

- كما تريدين، إلى رحبة عالمنا المعاصر بتقنياته البصرية الفذة.

على السطر تزحف كعادتها عين على اليمين دوما ويسارا تفلت مداعبة ما بعدها، حرف قلب بامتياز تقلب عن واو أو ياء كما أنها كثيرة الاستتار في الشعر.

الشعراء يقلبونها أو يخفونها، حرف مطواع ولخفتها ومرحها «يطيرها» الكتبة، عن معرفة أحيانا وعن جهل أحيانا.

من أنت؟

أنا الهمزة..

يتحذلق الصغير والكبير بي وآخذ إيقاع ما قبلي وأتواضع عما بعدي مع أني أعرف مكاني ومقامي. أنا حين أحيد عن الألف تصبح صرخة في.. الفوق أو التحت أو ما يقابلها. وحين أحرن عن الواو تصبح هوة لا يعرف الصوت غورها، وحين أعزف عن عرش الياء وأترك كرسيه يلتف على نفسه وينحدر لداخله ويأوي لذاته ويذوب حزنا وكآبة.

أنا الهمزة لست في تعداد بني جنسي، لكنني أولهم، أتفرغ لنفسي لأنفلش على الآخرين في مدى صوتي وليس لأحدهم أن يوهمني أنه قبلي أو صداي، أنا صوتي داخلي أعطي الآخرين مدى وصدى وحديقة الإيقاع والإبداع من دون منة وسؤال، أتلهف للحلق كي يطلقني فلا أكون وصلا ولا تابعا ولا محذوفا وألف أف من السما والعمى والضيا والتوابع والهوازع التي تحذفني من دون سبب سوى ضيق البحور رغم اتساعها للزبد الفائض عن الحصر.

تقول يا بدر إنني أنثى.. ذكورية عربيتك تفضح أنوثتي، دلعي الفاقع من وجعي يجعلني أنثى. التاء القصيرة المعقوصة في ذيلي تدعوك لتصنيفي موؤودة ومحدودة ومقصودة. فتجمعني جمعا مؤنثا سالما كما الأمهات والأخوات، أنسيت يا بدر الأبوات، ونسيت الأخريات فبعضهن من ذكر مثلك يملكن عينا واحدة تتجه لناحية واحدة ولا ترى سواها لأن علي عاصي يملك عينين لا همزتين، ودانيال قطار ترى بأصابعها وكفها وهيهات أن ترى بعينيها إلا بعدما يخرج بؤبؤ رشا في يوم الدين؟!

لا أسعى لتذكيري فأنوثتي طاغية في اللعب على الحروف، وتذكيري بذكوريتي ضاحكة. فأنا حمالة أوجه، أغيب وأغيّب، أعذب وأتعذب، قواعدي لا تروض، تفقه بين يدي النحاة فصالوا وجالوا وهمزوا خيولهم في ميداني وظلوا على عتبات بدء أجمل ما فيه استئنافه، فأفقي شاسع يجافي النهايات.

تقول رشا: «الحروف والحركات لا تطيق الوحدة بل تتآلف وتتحاب فتصير كلمات. والكلمات أسماك لا تحيا إلا في ماء جمل نؤلفها ونصب أعيننا ما ستثيره من معنى. والحروف في لغتنا تقترن بالحركات، علما بأن الضمة واو صغيرة والفتحة ألف صغيرة والكسرة ياء صغيرة والسكون الجليل قائد الجوقة. فالألف لا تتصدر الكلام إلا معي ولا تلفظ من دوني، تجلسني مرات على قمة رأسها، ومرات أكون لأخمص قدميها خلخالا. القمة مقرونة بفتحة أو ضمة، وأخمص الخلخال بكسرة. ليست الحياة كلها فتحات وفتوحات وضمات، الكسرات والكسور والخلاخل رائجة أيضا. الحركات موسيقى اللغة فاحذر دوما السيدة الياء من مسك ختامها، من مخالبها. فهي تفرض سلطتها علي فآتي بعدها. الياء قاهرة إنها خاتمة الحروف وكسرتها قاهرة باسمها. الضمة وواوها مشاكستان أيضا وتأتيان في مقاييس القوة اللغوية بعد الياء وكسرتها. أما الفتحة، هذه الألف الصغيرة، فلها المرتبة الثالثة. وهناك المدة وهي كناية عن همزة مفتوحة كرسيها ألف وألف مد ساكنة، دمجتا فكانت المدة الأنيقة (آ)».

ظنت رشا الأمير الناشرة والروائية أنها قادرة على أن تضع كتابا في الهمزة أرادته عونا قواعديا وإملائيا للكاتبين والكاتبات بلغة «اقرأ»، علهم يكفون عن سوء معاملتها. فلا حجة والكتاب في المتناول، من إلغائها أو إجلاسها حيث لا تريد لها اللغة.

لكن رشا جالست الفقيه العلامة اللغوي عبد الله العلايلي وتتلمذت على الأستاذ محمود عساف فتحملها وهمزتها أشهرا مديدة، وواكبها يوما بيوم لتخرج من بطون كتب النحو والإملاء بهذه القاعدة الأثرية إلى رحبة عالمنا المعاصر بتقنياته الفذة. وتواطأت مع دانيال قطار لتكتب صفحات «كتاب الهمزة» رسما، ومع الخطاط علي عاصي ليغمس ريشته في رحيق المعنى ويحلق. ظنت رشا بساطة الصعوبة القادمة على ارتكابها، وإذا بالهمزة ككل بسيط يملك في لهوه تعقيدات وهوائل. فما أبسط أن نشم رائحة البنفسج ونسميه، وما أعقد أن نفقه أسباب تميزه ولماذا له هذه الخاصية. فإذا كنت تلمس الرائحة فاقتحم «كتاب الهمزة» لرشا الأمير، وإذا كان باستطاعتك أن تشم الكلمة فباب الهمزة مفتوح بعد أن وهبت رشا مفتاح بستان الهمزات لندخل ونقطف منهن ما نشاء بحسب ما توافقنا. أهلا وسهلا بالجميع في رحاب الهمزة.

سواء أكانت الوردة تشبع النظر أم حاسة الشم أم الذوق أم إحدى هذه الحواس فقط أم أكثر من ذلك، فوجودها يزيد بستان الحياة شغفا ويفتح آفاقا رحبة ويجعل المعرفة كامنة في سؤال بسيط. والهمزة التي تتربع على قمة الألف الحرف الهاوي الذي لا نطق له من دونها، أفردت لها رشا الأمير آفاقا فحولت حروف «العلة» إلى عقاقير بسيطة قابلة للتناول والشفاء من عقدة حركة يقف دون تعقيدات كتابتها الكثير من كتاب لغة «اقرأ».