جسد المرأة.. إشكالية ثقافية

نظرية «النعجة والذئب» تطاردها في كل مكان

TT

السجال القديم الجديد حول المرأة ومكانتها الإنسانية في صلب المجتمع، كفرد كامل الأهلية لا يمكن اختزاله في صورة الجسد، يعود من جديد. ففي حين تكافح النساء وسط موجة التغيير التي تجتاح العالم العربي لحجز مقعد لهن في التحولات، يواجهن ممانعة ثقافية ظاهرها ذكوري تعيد المرأة للمربع الأول.

قديما كان الفيلسوف الهندي «أوشو» يفسر معنى «المرأة»، في مشهد يعيد للأذهان الشكاوى التي ارتفعت من سيدات في ميدان التحرير في مصر، وميادين الربيع العربي، من أنهن في ذروة الصراع كن يناضلن لحماية «عفافهن» ضد ثقافة ذكورية متوحشة.

أكاديميات سعوديات تحدثن لـ«الشرق الأوسط» في التحقيق التالي عن إشكالية المرأة في الثقافة العربية، ومدى تغول النظرة لجسدها من قبل ذكور طالما تبجحوا بالدفاع عنها.

في حين أشار أكاديميان مشاركان في التحقيق إلى أن نظرة الرجل للمرأة، من أقدم الإشكاليات المرتبطة بتكوين الجسد الباعث على الفتنة.

يتمظهر الجدل حول المرأة في السعودية مثلا، من حالات منع النساء من المشاركة في الفعاليات العامة، أو ما أثير قديما بشأن تعليم المرأة، وما يثار مؤخرا حول تأنيث بيع الملابس النسائية، أو ما يثار دائما بشأن قيادة المرأة للسيارة، وهو برأي الناقد الدكتور حسن النعمي «ناتج عن نظرة الجسد المثير الذي يجب حجبه».

* ثريا العريض: تجربة اختلاط ناجحة

* الشاعرة والكاتبة السعودية الدكتورة ثريا العريض لا توافق على اعتبار أن المرأة تتعرض للامتهان الجسدي على نحو مطلق في المجتمعات العربية، وترى أن حالات التحرش تبقى حالات فردية لا ترسم ملمحا لثقافة مجتمعية عامة.

لكن العريض تلاحظ أن هذه الحالات (على محدوديتها) مرتبطة بشكل جوهري بمشاركة المرأة في الحياة العامة، وفي نسيج المجتمع وهي بالتالي قضية عامة، لا تخص المرأة فقط.

وأكدت العريض أن النظرة المجتمعية لا تبارك التحرش ولا تسبغ عليه أي شرعية، إلا أنه وعلى المستوى الفردي هناك من لديه نقاط ضعف بالجانب «الجنسي»، حيث هناك من الرجال «من لا يستطيع أن يتمالك نفسه في ظل وجود امرأة بغض النظر عن المكان؛ سواء أكان بمعرض للكتاب أو الأسواق أو خلال مهرجان ثقافي».

واعتبرت النظرة المجتمعية التي ترى المرأة مجرد جسد، جاءت نتيجة أو سببا لإبعادها عن المجتمع بدعوى الخوف من التحرش، تؤازرها نظرة مجتمعية أخرى تدعي «حمايتها». وبالتالي يلتبس في هذه القضية الإيجابي بالسلبي، «وربما كان هذا الالتباس مسؤولا هو الآخر عن تغييب المرأة وحبسها بالبيت، وقصر دورها داخله».

الدكتورة ثريا العريض التي خاضت عبر تجارب طويلة العمل الأدبي والشعري والإداري، وسجلت حضورا في مؤتمرات عالمية بينها دافوس، وشاركت في وفود طافت عددا من بلدان العالم، ترفض في حديثها لـ«الشرق الأوسط» تعميم النظرة بأن المجتمع العربي يقوم بإهانة المرأة، وتقول إن الحالات التي يجري الشكوى منها تأتي «من المرضى النفسيين والمتحرشين»، وتضيف: «ومن جهة أخرى هناك من آمن بالمرأة كقدرة علمية، ولم يختزلها برؤية جنسية»، وتعطي العريض مثالا بما يشهده المجتمع السعودي حاليا حيث يختار ابن الستينات والسبعينات إرسال بناته للتعلم بالخارج، وهي تقول إن تجربتها في العمل المختلط منذ وقت مبكر بالسعودية كانت ناجحة، التي لمست من خلالها أن الرجل لا ينظر إلى المرأة سوى بالطريقة التي ترغب المرأة ذاتها أن تُرى بها.

* أميرة كشغري: اختزال المرأة

* من جانبها، أرجعت الدكتورة أميرة كشغري، أستاذة الأدب الإنجليزي في كلية اللغات والترجمة، بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، مسؤولية تغيير الصورة النمطية عن المرأة في المجتمعات الشرقية والعربية إلى المرأة ذاتها، «فهي التي بمقدورها إعادة تشكيل النظرة الموجهة لها، من خلال تقييمها لذاتها، الذي من خلاله سيتم الاعتراف بفكر المرأة»، مفيدة بأن القيم المجتمعية التي تعلي من القيم الذكورية هي السبب في عدم الاعتراف بفكر المرأة، واختزالها بالجسد.

وأشارت كشغري إلى أن النظرة السائدة بالمجتمعات العربية عن المرأة هي باعتبارها «شيئا»، ولهذا السبب فأي مكان توجد فيه سيسعى الرجل لاستغلالها أو التحرش بها، سواء أكان في ميدان المظاهرات (كما حدث في بعض ميادين الربيع العربي)، أو حتى داخل مكان عبادة (حالات التحرش في الحج والعمرة مثلا)، وذلك لاختزال المرأة من خلال وجهة نظر الرجل الذي لا يرى فيها سوى جسد أنثوي، وليس فكرا أو إنسانا.

ودعت الدكتورة كشغري النساء إلى ضرورة تكثيف وعيهن الذاتي بقيمتهن الحقيقية كإناث.

وقالت إن شيوع نظرية «النعجة والذئب» في الوعظيات الدينية لسنوات طويلة، التي يقصد بها الفتاة الساذجة والرجل الذكي الماكر الذي لطالما اختزل همه باصطياد غنيمته، وما استتبعه ذلك من سلوكيات أبرزها مطاردة الفتاة على الرغم من توشحها بالسواد التام الذي قد يشمل عينيها، حاجبا أي مفاتن محتملة أو متوقعة، شيوع هذه النظرية أدى إلى تكوين خلفية ثقافية لها.

تستعيد الدكتورة أميرة كشغري إلى الواجهة رؤية الفيلسوف الهندي أوشو المتوفى 1990، فيما يتعلق بمعنى «المرأة»؛ فبعد أن استبعد سمو الرجل عن مشاهدة المرأة في أبعاد غير جسدية قال: «حتى في ذروة الفوضى، عندما يتم إطلاق النار على الناس، وعندما يموت الناس، فإن الإنسان يستمر بالتفكير دائما بإشباع الرغبات الجسدية»، مستشهدا بحادثة تحول إحدى المظاهرات الطلابية إلى شغب، انفصل حينها رجل عن الحشد حاملا على يديه فتاة فاقدة الوعي، كان قد رفض تسليمها إلى رجل الشرطة، قائلا له: اذهب وابحث لنفسك عن واحدة.

شريفة الشملان: كلهن في الهم أنثى

إلا أن الاختزال الجسدي، كما تراه الكاتبة شريفة الشملان، أتى بسبب التعامل مع المرأة من حيث عينيها، ووجنتيها، وفمها، وأسنانها. وهي لا ترى أن العرب وحدهم مسؤولون عن هذه النظرة النمطية للمرأة «فإساءة الغرب للمرأة كان عبر استغلالها بالدعاية من خلال الحرص على بعدها الجسدي»، وبالتالي فهو «لا يختلف عما هو عليه الحال من إساءة للمرأة في المجتمعات العربية والشرقية».

وأضافت الشملان أن «ثقافة جسد المرأة قد اجتاحت منذ القدم التاريخ العربي والعالمي، حيث ظلت بوابة الجسد هي المنفذ الذي ينظر من خلاله إلى المرأة، وعز على المستفيدين إغلاقه»، وهو ما تسبب للمرأة في الهوس نحو الاتجاه إلى عمليات التجميل، بعد أن أغلق المجتمع وألغى أهمية عقلها وفكرها ونشاطها المجتمعي.

عرفت الكاتبة والقاصة السعودية شريفة الشملان، من خلال تجربتها في الكتابة والسرد الأدبي منذ ما يقارب ثلاثين عاما، وهي صاحبة أطروحات تتسم بالنضج والواقعية.. وهي تشدد على أن الدعوة إلى إعادة فهم معنى دور المرأة وعلاقتها بمجتمعها لا يعني خلع ثوب «الأنوثة»، فلا يزال من واجباتها الحرص على الدور الأنثوي الذي يعد أبرزه إنشاء أسرة والقيام بواجباتها كأم وزوجة، مشيرة إلى أن المطلوب احترام المرأة لطبيعتها وعدم غمرها بالسواد، حتى وإن كانت في مجتمعات نسائية بحتة، منوهة بأن «قيام المرأة بعمل المنزل لا يمنع من كونها سيدة مثقفة ومتعلمة وعاملة لها دور فاعل بالمجتمع».

من جانب آخر، أكدت شريفة الشملان على دور الشباب والفتيات المبتعثين إلى الخارج، في إحداث تغيير مهم داخل مجتمعاتهم على مختلف الصعد الاجتماعية والثقافية، وذلك على الرغم من اصطدامهم المتوقع مع الواقع حين عودتهم.

وترى الشملان أن التلهف الشديد صوب جسد المرأة إنما هو محصلة للمنع المفرط من عملية الاختلاط، حتى بلغ الأمر بالفتاة والفتى عدم التعرف على أبناء وبنات العمومة والأخوال، الأمر الذي ساهم بمضاعفة الرغبة باكتشاف ما خلف السواد، على خلاف ما كان عليه الأمر بالبادية في الجزيرة العربية، التي اعتادت فيه المرأة السراح بماشيتها والتنقل، عوضا عن الإخفاء القسري لها جراء تأثير المجتمع الضاغط.