لامارتين.. من طبقة النبلاء إلى الموت فقرا

سافر الى الشرق وتعرف على لبنان والقدس

لامارتين
TT

الكتاب الاخير للباحث الفرنسي جيرار أونجير المختص بسير العظماء. يقدم لمحة تاريخية مفصلة وسيرة دقيقة متكاملة عن حياة أول الشعراء الرومانطيقيين الفرنسيين: ألفونس دو لامارتين.

ومعلوم أنه سبق فيكتور هيغو بفترة قصيرة إلى تبني الفلسفة الرومانطيقية الآتية من بلاد الشمال الأوروبي الألماني والإنجليزي. ولكن فيكتور هيغو غطى عليه من حيث الشهرة فيما بعد عندما تبنى النظرية الشعرية - الفلسفية نفسها، بل وأصبح زعيمها غير المنازع في فرنسا بفضل غزارة إنتاجه، وقوة عبقريته وضخامة موهبته الشعرية. ولد «ألفونس دو لامارتين» عام 1790، أي قبل فيكتور هيغو بـ12 عاما، ومات عام 1869، أي قبل فيكتور هيغو بـ15 عاما على الأقل.

ولكن على عكس هيغو البورجوازي الأصل، فإن لامارتين كان ينتمي إلى طبقة النبلاء الفرنسيين، وهي أعلى طبقة في ذلك الزمان. ولذلك نشأ وترعرع في قصر «ميلي» تحت إشراف أمه الحنون التي لم تكن تطلب منه أكثر من أن يكون إنسانا حقيقيا وطيبا، كما يقول هو حرفيا. ويا لها من أم رائعة!

وبعد أن أكمل دراساته في أحد المعاهد اليسوعية، أي التابعة للإخوان المسيحيين، راح يسافر في البلدان لكي يروّح عن نفسه، كما يفعل معظم أولاد الأغنياء. وهكذا سافر إلى إيطاليا عام 1811، وبقي فيها حتى عام 1814: أي حتى سقوط النظام الإمبراطوري بقيادة نابليون بونابرت وعودة الملك لويس الثامن عشر إلى الحكم، ثم راح يهتم بالأدب والشعر وينشر أولى مجموعاته الشعرية عام 1820 تحت عنوان: «تأملات شعرية». وكان عمره آنذاك 31 عاما.

والشيء العجيب الغريب أن هذا الديوان الأول الصغير الحجم جدا هو الذي جعل منه بين عشية وضحاها شاعرا مشهورا يشار إليه بالبنان. وبعد 3 سنوات من ذلك التاريخ أصدر لامارتين مجموعة شعرية ثانية، تحت عنوان: «تأملات شعرية جديدة»، ثم نشر بعدئذ عدة كتب، من بينها: «موت سقراط»، و«آخر أنشودة جحيم للطفل هارولد».. إلخ.

وبعد أن سافر إلى الشرق وتعرف على لبنان والقدس في فلسطين، حيث يوجد مهد المسيح ومقدسات المسيحية، عاد إلى أوروبا وأصبح موظفا في السفارة الفرنسية بمدينة فلورنسا الإيطالية. ثم تزوج من فتاة إنجليزية بعد عدة قصص حب فاشلة من بينها تلك القصة الفجائعية التي ألهمته قصيدة «البحيرة» الشهيرة. وهي من أشهر القصائد الرومانطيقية في الشعر الفرنسي. وقد ترجمت إلى العربية أكثر من مرة. ثم يردف المؤلف، قائلا: «وبعدئذ انخرط لامارتين في الحياة السياسية، وأصبح نائبا في البرلمان. وقد سحر زملاءه بخطاباته الشاعرية الفياضة المليئة بالعواطف النبيلة تجاه الشعب الفقير». وكان لامارتين خطيبا مفوها من الدرجة الأولى.

ثم نشر بعد ذلك عدة كتب مهمة نذكر من بينها: «رحلة إلى الشرق» (1835)، «جوسلين» (1836)، «سقوط ملاك» (1838)، «خشوع شعري» (1839).. إلخ. كما نشر كتابا جميلا عن تاريخ الثورة الفرنسية التي كانت لا تزال حديثة العهد. والغريب في الأمر أن لامارتين ذا الأصل النبيل والأرستقراطي أصبح من كبار مؤيدي الثورة الفرنسية التي أطاحت بطبقة النبلاء الأرستقراطيين وامتيازاتهم الضخمة! وقد عارض بشدة الحكم الرجعي للملك لويس فيليب، وكان أحد قادة الثورة الشعبية الشهيرة التي أطاحت به عام 1848. وهي الثورة المدعوة بـ«ربيع الشعوب»، لأنها انتشرت في كل أنحاء أوروبا. وهي التي يشبهون بها ثورات الربيع العربي الحالية المتفجرة ضد الديكتاتورية من أجل الحرية والعدالة والكرامة. ثم أصبح عضوا في الحكومة المؤقتة لفرنسا ووزيرا لخارجيتها، ولكن لفترة قصيرة. وكان من أكبر الداعين إلى إلغاء قانون الرق أو العبودية.

ولكن صعود نابليون الثالث إلى سدة الحكم عام 1852 عن طريق انقلاب عسكري وضع حدا لحياته السياسية. فبعد أن أصبح اليمين الرجعي الكاثوليكي في السلطة لم يعد له من محل.

وهكذا انطوى على نفسه وراح يكرس جل وقته للأدب والكتابة. لقد يئس من الحياة. وهل هناك أجمل من الأدب كعزاء عن الحزن واليأس؟ ولكنه لم يواجه السلطة الديكتاتورية مباشرة كما فعل فيكتور هيغو، لأن ذلك كان سيؤدي به إلى القتل أو السجن أو النفي، ولذلك فضل الصمت والمعارضة السرية غير الناشطة. وقد عاش السنوات الأخيرة من حياته بشكل تعيس وحزين، فقد كان مضطرا للعمل ليلا ونهارا لكي يستطيع أن يعيش ويأكل الخبز. وهذا يعني أنه لم يستغل منصبه عندما كان وزيرا ومسؤولا كبيرا.

وقد اشتكى في إحدى الرسائل إلى فيكتور هيغو بأنه يخشى أن يصادروا بيته ومكتبه والأثاث، لأنه لا يستطيع أن يدفع الفواتير. ثم اضطر تحت ضغط الحاجة الماسة إلى قبول هبة من الدولة عام 1867، وقد عاب عليه المثقفون «اليساريون» ذلك، واتهموه بالتواطؤ مع الديكتاتور المستبد نابليون الثالث، ولكن هل كان أمامه خيار آخر؟ وهل يريدون له أن يموت في الشارع كالشحاذ، وهو أحد أشهر شخصيات فرنسا في ذلك الوقت؟ وهنا نجد أن المثقفين الفرنسيين لا يقلون مزايدة من حيث الشعارات الديماغوجية عن المثقفين العرب. كل واحد منهم يتهم الآخر بأنه عميل للسلطة!

مهما يكن من أمر، فإنه مات مغموما ومهموما بعد ذلك بسنتين فقط. ورفضت عائلته تنظيم جنازة وطنية له، خوفا من أن يستغلها النظام الرجعي لصالحه. هذا هو باختصار شديد ملخص حياة لامارتين، والآن ماذا عن أعماله ومنجزاته الشعرية والفكرية؟

يمكن القول إن مجموعته الشعرية الأولى «التأملات شعرية» دشنت الشعر الرومانطيقي في فرنسا، وأغلقت المرحلة الكلاسيكية. فقد بدت وكأنها صادرة عن الأعماق، أعماق القلب الحساس. وقد وصل الأمر بأحد النقاد الكبار إلى حد القول إن «التأملات الشعرية» للامارتين هي بمثابة الزلزال أو الثورة الفرنسية للشعر الفرنسي! إنها حدث تدشيني في تاريخ الشعر.. وقد اعترف رامبو بذلك، ولكن مع بعض التحفظ على الشكل الشعري العمودي التقليدي الذي كان شاعر الرومانطيقية الفرنسية مسجونا داخل قفصه مثل كل أبناء جيله. يقول في رسالة الرائي الشهيرة: «لامارتين أحيانا راء، ولكنه مخنوق من قبل الشكل القديم الشائخ للشعر».. (لاحظ كيف لخصه بعبارة واحدة قاطعة مانعة! رسالة الرائي أصلا أكبر من أي قصيدة شعر، ولا يقدر عليها إلا المجانين الكبار عفوا: الرؤيويين الكبار..).

وهنا نجد تأثر لامارتين واضحا بجانب جاك روسو. ولكن من هو الأديب الفرنسي الذي لم يتأثر بروسو؟ ومعلوم أن غوته كان قد قال هذه العبارة الشهيرة: فولتير أغلق العصر السابق، وروسو دشن العصر اللاحق. فولتير ينتمي إلى الماضي وروسو ينتمي إلى المستقبل.

وبالتالي، فالرومانطيقية خرجت من معطف روسو وحساسيته الإنسانية والعاطفية التي لا تضاهى. ومعروف مدى حب روسو للطبيعة وتغنيه بجمالها. وهنا نلاحظ وجه شبه كبيرا مع لامارتين. فهذا الأخير تغنى بالطبيعة وفصولها كما لم يفعل أي شيء آخر. ويكفي أن نفتح دواوينه لكي نرى كيف يتحدث عن الربيع أو الصيف أو الخريف في قصائد شجية ورائعة، والخريف هو أحد مواضيعه المفضلة.

ثم يردف المؤلف قائلا: «ولكن الطبيعة لم تكن مستهدفة بذاتها أو لذاتها في شعر لامارتين. وإنما كان يستخدمها الشاعر كمرآة لروحه. إنه يعكس عليها لواعجه وآلامه. فإذا كان حزينا فإنه يتعزى عن حزنه بالتحدث عن فصل الخريف وسقوط أوراق الشجر.

وإذا كان فرحا، فإنه يتحدث عن فصل الربيع وتفتح الأزهار وبهجة الحقول.. وعندما كانت تؤرقه قصة حب، فإنه كان يختلي بنفسه في حضن الطبيعة، أو على شاطئ بحيرة. ومعلوم أن الفتاة التي أحبها في مطلع شبابه كان يلتقي بها هناك في أحضان الطبيعة.

كان الشاعر كلما أصيب بمصيبة أو أطبقت على روحه الآفاق المظلمة، يلجأ إلى الطبيعة، أمنا الحنون.. وهناك كان يرى أوراق الشجر وهي تتساقط في الخريف وكأن عمره هو الذي يتساقط معها قطعة قطعة، وورقة ورقة. يُضاف إلى ذلك أن لامارتين ينتمي إلى ذلك الجيل الفرنسي الذي عاش أكبر زلزلة وأكبر تمزق في التاريخ: الثورة الفرنسية. وبالتالي فقد كان ذلك الجيل مهزوزا، مزعزعا، لأنه شهد موت عالم بأسره ونهوض عالم جديد على أنقاضه، ولكن المشكلة هي أن القديم لم يكن قد مات فعلا بعد، والجديد لم يكن قد وُلد فعلا بعد. وبالتالي فهو جيل مترجرج، قلق، مليء بالآلام والنزيف الداخلي الحاد. ومن هذه الناحية فهو يشبه كثيرا الجيل العربي الحالي: أي جيلنا نحن بالذات.

وقد عبّر عن ذلك كل أدباء القرن الكبار من شاتوبريان، إلى فيكتور هيغو، إلى ألفريد دوموسيه، إلى جورج صاند، إلى آخرين كثيرين.

كلهم كانوا مصابين «بمرض العصر»، مرض عظيم يتجاوزهم جميعا ولا حيلة لهم فيه. وبالتالي فقد حاولوا التعبير عنه بأشكال شتى لكي يستطيعوا التخلص منه أو الترويح عن أنفسهم على الأقل. ضمن هذه الظروف التاريخية والسياسية ازدهرت الحركة الرومانطيقية في فرنسا وبقية أنحاء أوروبا، وبالتالي فقد كانت تعبر عن مزاج تاريخي وحساسية معينة. لقد كانوا جيل الاحتراق والعبور مثلنا نحن في هذا الربيع العربي الثائر.. الفرق الوحيد هو أنه تفصل بين ثوراتهم التحررية وثوراتنا مسافة قرن ونصف القرن. وهي مسافة التفاوت التاريخي الذي يفصل بين العرب والغرب. كل ما عاشوه قبل مائة وخمسين سنة نعيشه نحن الآن، ولكن مع فارق المستجدات بالطبع. وهذا أكبر دليل على مدى تأخر المجتمعات العربية بالقياس إلى المجتمعات الأوروبية. بل وحتى الحداثة الشعرية التي ظهرت بعد لامارتين مباشرة على يد بودلير ورامبو لم تظهر عندنا إلا بعد قرن أو أكثر من ذلك التاريخ.

لقد كانت الرومانطيقية تعبر عن مجتمع مصدوم في أعماقه ومجروح في روحه بسبب كل الانقلابات والهزات التي تعرض لها. لقد عبر لامارتين عن كل ذلك من خلال شعر غنائي مؤثر، وصل أحيانا إلى حدود الفلسفة أو تخومها. فالشعراء الفرنسيون آنذاك ما كانوا شعراء فقط، وإنما كانوا أيضا سياسيين ومفكرين وفلاسفة وكل شيء. وهذا ما ينطبق على فيكتور هيغو أيضا، الذي كتب الرواية والشعر والمسرحية والمؤلفات الفلسفية والسياسية. كان الشاعر آنذاك مسؤولا عن العصر، عن مرض العصر، عن حل مشكلة المجتمع والعصر.