هيدي هابرا.. الواقعية السحرية بنكهة شرقية

ولدت في مصر وعاشت بلبنان واستقرت في أميركا

«السجاجيد الطائرة» المؤلفة: هيدي هابرا دار نشر «مارش ستريت»، 2012، 203 صفحات.
TT

منذ أن استقبل المشهد الثقافي مصطلح «الواقعية السحرية» من خلال كتاب «ما بعد التعبيرية: الواقعية السحرية» للناقد الفني الألماني فرانز رو، تلقف المفهوم الناقد الفنزويلي أرتورو أوسلار بييتري ليوظفه في نقد السرد الإسباني - الأميركي، ثم سرعان ما شقت الواقعية السحرية طريقها في عالم أميركا اللاتينية إبان خمسينات القرن الماضي وستيناته مع أعمال الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والأرجنتيني خوليو كورتاثار والبيروفي ماريو بارغاس يوسا والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس والتشيلية إيزابيل أيندي. أرسى هؤلاء الكتاب دعائم المفهوم؛ فقد رسخوا الهدف من الواقعية السحرية، ألا وهو القبض على اتحاد الأضداد.. اتحاد قد يتراءى متناقضا في الظاهر؛ إذ تسبر الواقعية السحرية التناقضات القطبية كالحياة والموت، أو الماضي ما قبل الاستعماري في مقابل الحاضر ما بعد الصناعي. غالبا ما يتسم هذا الأسلوب الأدبي بوجهتي نظر متعارضتين؛ تعتمد إحداهما على رؤية عقلانية للواقع، والثانية على قبول الخوارق باعتبارها حقيقة معتادة مجردة من الخيال. وغالبا ما تقترن هذه الخوارق بالصيغ البدائية أو العقلية «السحرية» الهندية. كان أستاذ اللغة الإسبانية راي فيرزاسكوني (أستاذ سابق في جامعة أوريغون الأميركية) قد عرف الواقعية السحرية بأنها «تعبير عن واقع العالم الجديد، عالم يجمع بين العوامل العقلانية المميزة للحضارة الأوروبية السامية، والعوامل غير العقلانية المميزة لأميركا البدائية». وهكذا تختلف الواقعية السحرية عن الفانتازيا الصرفة، فأحداثها تقع في عالم حديث اعتيادي لا يخلو من وصف فعلي للبشر والمجتمع، فهي تنطوي، وفقا للمستعرب الإسباني أنخيل فلوريس، على «الدمج بين الواقعي والفانتازي».

ولكن هذا التيار؛ تيار «القنبلة» كما أطلق عليه النقاد، يعاني في الوقت الحالي أزمة ندرة وجفاف، حسب كلمات الكاتب البيروفي سانتياغو رونكاجليولو. لا شك أن هيدي هابرا، الدارسة للأدب الإسباني والمدرسة له في جامعة ويسترن ميتشغان الأميركية، تأثرت بهذا الإرث اللاتيني بعد أن كرست عددا من الدراسات لسبر أعمال ماريو بارغاس يوسا. فمجموعتها القصصية «السجاجيد الطائرة» الصادرة حديثا عن دار نشر «مارش ستريت» تعيد بث الروح في تيار انتعش عقدا أو عقدين ثم تراجع منذ سبعينات القرن الماضي، ألا وهو تيار الواقعية السحرية. لا يشارك هابرا الكثيرون في هوسها بهذا الأسلوب؛ إذ لا يرفع رايته من كتاب الأدب الحديث إلا قليلون، منهم الألماني جونتر جراس والبريطاني سلمان رشدي والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. ومع ذلك، سوف نجد أن علامات هذا الأسلوب قد بدأت في الأدب الإنجليزي مع رواية الآيرلندي جيمز جويس «يوليسيس» عام 1922، ورواية جون دوس باسوس «تذكرة إلى مانهاتن» عام 1925.

هابرا تلميذة نجيبة لهؤلاء الأساتذة، فهي لا تكتفي بمزج الواقعي بالفانتازي، وإنما تمزجهما بلمسة من الاحتفاء الشعري الغنائي. تقول هابرا، «لأن السجاجيد الطائرة تستعصي على الإدراك، تنطلق في اتجاهات عديدة وتوحي بالسحر. تضم هذه المجموعة قصصا واقعية غير أن هناك تطورا ينزع إلى الواقعية السحرية ثم إلى الفانتازيا». تعاين هابرا في هذه القصص ما قد يبدو كأنه أرض مألوفة تنبع من تاريخها الشخصي بصفتها شرق أوسطية تعرضت لتأثير عدد من الثقافات، فهي شاعرة وناقدة ليست بالغريبة عن الشرق أو الغرب. لا يصح أن نلصق بها صفة «الأميركية» وفقا لمستقرها، ولا «العربية» وفقا لولادتها ونشأتها في القاهرة، وأصولها اللبنانية وحياتها في بيروت حتى اشتعال الحرب الأهلية عام 1976، ولا «الإسبانية» حسب دراستها الأدب الإسباني. تكتب الشعر بالفرنسية والإسبانية والإنجليزية، تتحدث العربية والفرنسية بطلاقة، عاشت في اليونان وبلجيكا قبل أن يستقر بها المقام في ولاية ميتشغان الأميركية عام 1981 حيث نالت خمس شهادات من جامعة ويسترن ميتشغان بما فيها دكتوراه في الأدب الإسباني عام 2007، وهناك تكتب الأدب باللغة الإنجليزية في أغلب الأوقات.

تجد هابرا من خلال إحدى وعشرين قصة قصيرة الواقعية السحرية وسيلة لتقديم الواقع والاستجابة له، وفي الوقت نفسه مدخلا لتأمل ألغازه وإزاحة النقاب عنها. تصور في واحدة من القصص زوجين يحاولان إنجاب طفل ويقضيان عقدا من الزمن في تزيين غرفة أطفال تزيينا «مهووسا» من أجل طفل لم يولد بعد. ترسم أيضا شخصية تصاب بمرض غامض يتعذر على التفسير ومحاولاتها للشفاء منه. وفي مثال آخر، تتحول شخصية من الشخصيات تحولا جسديا فعليا. تبني هابرا حكاياتها على هيئة طبقات من الواقعية وتنسج أحداثا مشرقة في رؤى متعددة الألوان، فهي «تستدعي الزمان والمكان شأن ذكريات حزينة من أحد الأحلام»، مثلما يقول عنها الروائي الأميركي آرنولد جونستون مؤلف رواية «صوت السحر: رواية من حياة روبرت بيرنز».. ففي قصتها «تين أخضر وكرز» تشاركنا قصة شابة أصبحت أمَّا، إلا أنها تتوق إلى العودة إلى عهد أبسط في حياتها:

تقدم «السجاجيد الطائرة» رؤية لا تتناص بالضرورة مع غيرها، إنها - كمثيلاتها - نصوص تتدبر شخصيات تتعاطى مع فقدان الهوية وويلات الغربة، بيد أن الاستثنائي هنا هو أنها تصرف القارئ إلى عالم تتشكل هويته عن طريق الهجرة الممزقة وتقنيات الواقعية السحرية، فهابرا تعيد خلق لمحات من عهد منصرم حين عاشت في مصر ولبنان، عهد ينبثق من سلسلة عناصر سحرية تتحول ملونة بالفانتازيا عالمية النبرة كلما تنفض القصص. تستوحي هابرا بعض القصص من أماكن وأناس عرفتهم في طفولتها. طالما سُئلت عن طفولتها، وهي الآن تستخدم هذا الكتاب في «مشاركة الآخرين ثقافة مفعمة بالحيوية نشأتُ فيها». كانت هابرا قد صرحت بأن قصصها تتخذ منحى الواقعية السحرية حين ينقلب الخيال بؤرتها الفعلية، فيما يصف الشاعر الأميركي الليبي خالد المطاوع (صاحب ديوان «توكفيل» (2010) مجموعتها بأنها «تغوص عميقا في ما مضى وفي ما يتعذر استرداده.. مغموسة في ذكريات الطفولة.. تزداد حدة نبرتها مع فعل الذكرى الخيالية. تجمع قصصها بين المأساة والبهجة.. الفكاهة والعمق. فمع هابرا نلتقي بشهرزاد معاصرة، لا تحاول الإفلات بحياتها، وإنما تعقد العزم على إسباغ السحر والرزانة والحساسية على حيواتنا. يزخر هذا الكتاب بالأعاجيب.. مكتوب بصورة جميلة»؛ وهو ما يتضح من هذه الفقرة التالية؛ فقرة استهلت بها هابرا قصتها «طيران»:

«كل ما جرى جرى حين ابتلعتْ العصفور.. أم كان طائرا مغردا؟ تذكرت بالكاد. على أية حال، كانت الظلمة قد حلت ليلتها وتبدى الطائر لعينيها في منتهى الصغر. دخل ثغرها وهي تتناول الحساء بجوار المدفأة ثم توارى في بطنها، غاب عن الأنظار بسرعة خاطفة. خامرها في البداية الارتياب في حدوث أي شيء، وفكرت في إنكاره له حين تبوح إليه به. ولكن شروق الشمس وغروبها مرارا وتكررا سوف يطوق في تناغم حرث الأرض ونسج القماش إلى أن تراه من جديد. دار ببالها متأملة أنها عاشت معه سنوات عديدة، تتكئ على وسادة بعينين مسلطتين على جمر يطقطق.. أحبته وهي تضمر آمالا وأحلاما محطمة. ومن دون أطفال ترعاهم أو يرافقونها، قاوم حبها تيار الحياة».

تبوح هابرا بأن مجموعتها القصصية تمثل ذروة عمل تواصل عشرين عاما.. «إنه كتاب يعكس ذاتي». وقد أفضت في أحد أحاديثها الصحافية بأن هذه القصص استقرت في عقلها طويلا مثلها مثل «لفة فيلم في حاجة إلى التحميض». لم تنقطع هابرا عن كتابة الشعر والنقد الأدبي أثناء كتابة هذه المجموعة، وهكذا «شعرتُ وكأنني شجرة تبزغ أغصانها في اتجاهات متنوعة». تعكس بعض القصص هوسا بقوى العرافة، على حين تصور قصص أخرى معاناة امرأة وهي تقاوم زوجا مهيمنا.. مربية عجوز يتوقف بقاؤها على قيد الحياة على قدرتها على ابتكار قصص جديدة تحمل الأطفال على النوم.. امرأة تعود بعد انصرام عقود إلى منزل وُلدت فيه لتواجه ماضيها مواجهة غير متوقعة. تقدم لمسات الواقعية السحرية في هذا الكتاب عالما لا يتكل على الواقع الموضوعي أو قوانين طبيعية مادية، غير أن النص الأدبي لا ينفصل تماما عن الواقع.

لا ريب أن «السجاجيد الطائرة» تكشف عن أسلوب ما في الحياة يحاول أن يعيد أسر أصوات ومشاهد ومواقف ماضية بالاستعانة بقوة الذاكرة والخيال.. قوة لا تنفك تشكل مشاعر القارئ وتصوغ توقعاته.. تتطور شخصياتها منذ عام 1936 وصولا إلى نهاية سبعينات القرن العشرين، وبعدها تصير أقل رسوخا على مستوى الزمان والمكان، فيما تشتد كثافة الصبغة السريالية الخليقة بالأحلام. كان القاص الأميركي ستيوارت دايبك، مؤلف المجموعة القصصية «ساحل شيكاغو» (1990)، قد قال عنها «إنها مجموعة من القصص الفاتنة والأعاجيب ترويها هيدي بنبرات جذابة كل الجاذبية.. عابقة بالخيال، مكتوبة بدقة لا ينقصها الحس الشعري. تنتمي المجموعة إلى ذلك التقليد النادر من الكتب الذي يتلون سحره بالإغراء شيئا فشيئا مع كل قصة جديدة». وهكذا تبعث الحكايات إلى الحياة مساحات مفقودة غابت بعض أجزائها عن الذاكرة، تتقدم من الملموس المادي إلى الكوني بلمسة مخضبة بالواقعية السحرية. وفي أغلب القصص، يستدعي الحكي واستشراف المستقبل ماضيا أسطوريا مفقودا وحيا في الآن نفسه، كما تتخلل الصفحات دلائل على الحب والفقدان والعوالم المتوازية.. آيات الاشتياق إلى الأصل والحاجة إلى إعادة ابتكار الذات عبر الفن.