أكاديميون ونقاد سعوديون: الدراما لا تصلح لتدوين التاريخ

تقديم التاريخ العربي والإسلامي دراميا يصطدم بعوائق دينية واجتماعية كثيرة

لقطة من مسلسل «القعقاع بن عمرو التميمي»: المسلسل الذي أثار جدلا
TT

حاول العديد من المشتغلين بالإنتاج الدرامي تقديم التاريخ العربي والإسلامي ورموزه ووقائعه وأحداثه بأفكار ووسائل جديدة بعيدا عن التقليدية والنمطية السائدة بشكل يحقق انتشارا وقوة وتأثيرا أكبر، لكن العديد من هذه الفنون والأعمال الدرامية التي حاولت تقديم هذه الأعمال بصورتها التاريخية «الخام»، اصطدمت بإشكالية عويصة تمثلت في العنت المجتمعي والغضب الجماهيري. والشواهد كثيرة، بينها ما حدث في فيلم «الرسالة» الذي أنجز قبل 35 عاما، وقد اتخذت المؤسسات الدينية في أغلب الدول الإسلامية موقفا مناهضا للفيلم بسبب تجسيده أدوار شخصيات لبعض الصحابة، ثم جاء مسلسل «عمر بن الخطاب» الذي يعرض هذه الأيام وتم رفضه بحدة أشد من فيلم «الرسالة» لذات الأسباب التي رفض بها فيلم «الرسالة»، وهذا يطرح سؤالا مفاده: هل تصلح الدراما لكتابة التاريخ؟ وأين تكمن إشكالية الرفض وتجريم الكتابة النقدية لفترات مهمة من التاريخ، وهل ستصلح الدراما ما عجزت عن إصلاحه الكتب والجمعيات والجامعات المعنية بالتاريخ.

«الشرق الأوسط»، سجلت رؤى بعض المهتمين بالشأن التاريخي والأعمال الدرامية وكتابة التاريخ والروايات التاريخية وتحليلها وغربلتها وتمثيلها عبر الدراما التاريخية وأسباب الرفض والعنت المجتمعي عندما يشاهد العربي أو المسلم تاريخه وأبطاله في عمل درامي.

د.العسكر: الدراما التاريخية ليست حيادية

بداية يؤكد الدكتور عبد الله العسكر أستاذ التاريخ والمؤلف والكاتب على أنه ليس في الدراما التاريخية حيادية، وليست فيها دراية واسعة بالتاريخ، وليست فيها موضوعية، وهي كلها من اشتراطات المؤرخ. وبالتالي فهي عمل مثير ومسل ومفيد بدرجة معقولة، ولكن لا يجب أن نأخذها على أنها تمثل الحقيقة التاريخية. الأصح أن ننظر إلى الدراما التاريخية كما ننظر إلى الرواية أو القصة التاريخية في أحسن صورها. الدراما التاريخية هي تسلية تاريخية وتقريب التاريخ إلى الجيل الجديد باستعمال الوسيلة التي يعرفها ويحبها.

وأوضح لـ«الشرق الأوسط»: تُشكل كتابة التاريخ في عمومه، والتاريخ الإسلامي على وجه أخص مهمة صعبة على الصعيد الفردي وعلى الصعيد المجتمعي. وتكمن صعوبة كتابة التاريخ الإسلامي في أمرين: الأول كون معظم الروايات التاريخية الإسلامية يشوبها شيء من المحاباة أو المعاداة. والأمر الثاني أن المؤرخ المعاصر عندما يتناول تلك الروايات ويحاول غربلتها يجد عنتا مجتمعيا، ثم هو عندما يحاول تحليل الرواية ويقول رأيه يصبح رأيه مع مرور الزمن متداخلا مع الرواية وجزء منها. وهذا الصنيع قلما نجده في تواريخ الأمم.

وبرأيه فإن تمثيل التاريخ حوادث وشخصيات لا يقل عن كتابة التاريخ، بل هو يواجه رفضا تختلف درجاته من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولا نستطيع أن نقول إن تمثيل التاريخ أصح من كتابته، ذلك أن التمثيل يحتاج بسبب صنعة الدراما إلى شيء من الخيال والتلوين والإثارة وربما الكذب، الذي يضاف إلى الكذب الأول. ومع هذا فتمثيل التاريخ لا بد منه، ولا يمكن أن نتجاهله، طالما أن المتلقي لا يرغب إلا في هذا النوع من الفن.

ويمكن للدراما التاريخية، وفق العسكر، أن ترسخ صفات أو تحليلات عن الشخصيات والحوادث التاريخية تدوم العمر كله، بصرف النظر عن صحة أو صدق تلك الصفات والتحليلات. وقد رأينا كيف قُدم الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) في صورة مثالية تختلف عن ما دونه الإخباريون عنه. ومثل هذا يُقال عن مسلسل «القعقاع بن عمرو التميمي» ومسلسل «الحسن والحسين» وأخيرا مسلسل «الفاروق عمر بن الخطاب» (اغتيل 23هـ) ويصاحب هذا النوع من التلوين الدرامي للشخصيات التاريخية اتساع مساحة الخلاف بين المسلمين من داخل المذهب الواحد، ناهيك عن المذاهب المتعددة، لهذا فهو يوسع رقعة الخلاف بين المتلقين.

ويعتقد العسكر أن صنعة الدراما غربية المنشأ والولادة والثقافة، وانتقلت إلينا بكل زخمها المعرفي والثقافي والفني والتقني، وعندما طفقنا نصنع أفلامنا التاريخية وقعنا في حفرة سيئة وهي أننا أشعنا الخلاف بين المسلمين أكثر مما توقعنا. أما المتلقي الغربي فهو لا يتأثر معرفيا عندما يشاهد تاريخه وأبطال تاريخه في السينما أو في التلفاز. صحيح قد تصنع هوليوود نمطية سيئة أو قبيحة عن بعض الشعوب والأديان والثقافات، ولكن يظل الجانب المعرفي الصحيح متاحا لمن يرومه، كما أنها لا تؤجج الصراعات الدينية أو المذهبية داخل بلدها أو خارجه، لأنها لا تقول أصلا بمكانة معينة للدين أو المذهب.

الوابلي: الدراما تكشف هشاشة كتابة التاريخ

وفي السياق نفسه، يشدد الكاتب عبد الرحمن الوابلي، وهو من مارس كتابة النص الدرامي في أعمال فنية أبرزها «طاش ما طاش» على أن المادة الخام لكتابة التاريخ متوفرة، ولكن رغبتنا الانتقائية فيما نتمناه بأنه حدث في التاريخ لا تسمح لنا بإعمال العقل في تمحيص وتدقيق الروايات التاريخية وقراءة ما حدث فعلا في التاريخ، لا ما نتمنى أنه حدث.

وقال: «إن تاريخنا العربي الإسلامي، قد تم تدوينه بواسطة معاصري كل حقبة منه أو ما تلاها، ولكنه لم يحقق التحقيق العلمي الأكاديمي بعد. وقد كشفت لنا الدراما التاريخية العربية هذه الإشكالية؛ فكلما تم تصوير أو تسريب خبر عن بداية تصوير مسلسل تاريخي، سيتناول حقبة تاريخية معينة أو شخصية تاريخية محددة من صدر تاريخنا العربي الإسلامي، تتفجر نقاشات وحوارات حوله. تصل فيه النقاشات لدرجة التشكيك والتسفيه بنوايا القائمين عليه، وتبدأ الشركة المنتجة بحملات علاقات عامة من التطمين المتواصل للناس بأن المسلسل سيظهر الحقبة أو الشخصية كما يرضى عنها الناس، أي بمعنى آخر، ليس كما حدث في التاريخ، ولكن كما يطلبها المشاهدون، والدليل على ذلك أن النص قد تمت مراجعته من مرجعيات مختلفة، كل منها يرضي فئة من الناس. ثم يخرج العمل ولا يرضى عنه أحد؛ فمن أراد إرضاء كل الناس أغضب كل الناس».

وزاد في القول: «الغضب الجماهيري إذن قادم، لا محالة، عند عرض أي مسلسل أو فيلم درامي تاريخي عربي إسلامي. السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه علينا بإلحاح هو: أين تكمن المشكلة، هل هي في فهمنا للتاريخ أم في فهمنا للدراما؟ الجواب هو أن المشكلة تكمن في كلتا الحالتين، فهمنا للتاريخ وفهمنا للدراما؛ ولذلك تحولت المشكلة لدينا إلى مشكلة مضاعفة، عندما نشاهد عملا دراميا تاريخيا. ولكن مشكلة فهمنا للدراما، هي مشكلة مقدور على تصحيحها وتجاوزها مع الوقت والمزيد من التطور والنضج في الإنتاج الدرامي، والتي ستكون كفيلة بتصحيح فهمنا للدراما، أي أن نستمتع بمشاهدة الدراما، كمنتج أدبي فني إبداعي، ولا نحمله أكثر من كونه كذلك. وذلك بفهمنا للدراما، حسب شروط الدرامي، لا حسب شروط الفقيه أو الداعية أو غيرهما».

واعتبر الوابلي أن مشكلة فهمنا لتاريخنا العربي الإسلامي، ستظل قائمة إلى أن تتم كتابة وتحقيق تاريخنا وعرضه كما حدث، لا كما نحب أو نود أن يكون قد حدث، وهذه الإشكالية ستلازمنا في المستقبل القريب والمتوسط. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو: أين تكمن مشكلة فهمنا لتاريخنا العربي الإسلامي؟ يجيب الوابلي: «أرى أن المشكلة تكمن في تدخل الآيديولوجيا، في كتابة تاريخنا، ولم تترك كتابته للمؤرخ المحترف فقط؛ مما أدى إلى نفور المؤرخ من كتابة تاريخنا بالطريقة الاحترافية المطلوبة منه وخوفه ومراعاته للمتطفلين على كتابة التاريخ وتسليط سيوفهم المسلولة على عنقه».

ويرى الوابلي أن هناك إشكالية أعوص تعترض فهمنا وقراءتنا لتاريخنا، وتجمد مفهومنا لتخصص التاريخ عند مفهومه الحسي المادي، والمتمثلة بإسقاط حاضرنا على ماضينا، من أجل توسل الشرعية الدينية، لمشاريعنا الحالية. ولذلك فلا أعتقد بأننا نشعر الآن بأزمة في فهمنا للتاريخ، أو حتى بحاجتنا لفهمنا لتاريخنا، كما حدث، والدليل على ذلك، أننا أخذنا نغلق أقسام التاريخ في جامعتنا، لشعورنا بأن التخصص في التاريخ نوع من مضيعة الوقت، بلا مقابل مادي محسوس. مع كون تخصص التاريخ، يعد بجامعات الولايات المتحدة التخصص رقم عشرة من بين كل التخصصات، في الإقبال عليه. وتوجد أقسام تاريخ، في كل الجامعات والكليات، بما فيها العلمية والتقنية البحتة. ولذلك فلن تصلح الدراما في تاريخنا العربي الإسلامي، ما عجزت عن إصلاحه الجامعات والأكاديميات والجمعيات التاريخية.

بن بخيت: حضور ديني لا دنيوي

ويلاحظ الكاتب عبد الله بن بخيت في تعليق له بخصوص الجدل الذي اندلع الأسابيع الماضية حول مسلسل «عمر بن الخطاب» أن العمل التلفزيوني أو السينمائي يحبس الصورة ويجمدها في شخص الممثل الذي قام بالدور. إذا شاهدت فيلما سينمائيا عن عنترة بن شداد فسوف تتنازل عن صورة عنترة بن شداد التي رسمتها (أنت) في خيالك وتتبنى صورة الممثل الذي قام بدوره. وسوف تتضرر عظمة الفاروق في أعماقنا بتحويله إلى إنسان محشور في صورة رجل واحد.

وقال: «حسب وجهة نظري أن أحد أسباب تراجع الاحترام للمسيح عليه السلام في الغرب توفر صورة موحدة له يجتمع عليها المؤمنون بالمسيحية. تم تحييد الخيال ومدخلات الثقافات المختلفة وفرضت على الناس صورة العظمة التي رآها الفنان الذي رسم الصورة، كأنما هناك حبس للحرية والحد من الخيال وتجلياته. إذا عبرنا عنها بلغة السياسة هذه الأيام يمكن القول (صادر حق الناس في التعبير وفرض عليهم رأيا واحدا). الرؤية الجمالية لا تختلف عن الرأي في هذا الصدد. بقدر ما تمتعنا الدراما فهي تحبسنا وتضيق علينا الخيال». وبرأي بن بخيت فإنه من يهتم بالرواية يعرف أن مجرد تحويلها إلى عمل سينمائي يضر بها. الرواية كتبت لتقرأ، موضحا أن قيمة شخصياتها تتوقف على خيال القارئ لا خيال الكاتب فحسب. في اللحظة التي نحولها إلى عمل سينمائي نوحد القراء على صورة ثابتة للأبطال، فعندما نحولها إلى عمل درامي فنحن في الواقع لا نأخذ منها سوى القصة ونحطم فرادة أبطالها وتجلياتهم اللانهائية في أذهان القراء. هذا ما سوف يحدث للفاروق في أذهاننا بعد مشاهدة المسلسل. واعتبر أنه لا يمكن أن ينجح العمل الدرامي التاريخي إلا إذا تضمن شخصيات درامية. نعني بالشخصية الدرامية هي الشخصية ذات الأبعاد الثلاثة. المزايا والعيوب وحقل الواقع الذي كانت تعيش فيه. على ضوء ذلك لا يستطيع المخرج أو الكاتب أن يبحث أو يخترع عيوبا يرمم بها الشخصيات الدينية في عمله لكي يجعلها مقنعة للمشاهد. فالدور الذي أسهم به الفاروق جعل منه شخصية ذات جلال ومهابة.

واختتم بن بخيت تعليقه بالإشارة إلى أن هناك مسافة لا يمكن ردمها بين شخصية درامية «في التاريخ» يمكن إعادة إنتاجها بأدوات العصر وبين شخصية تتمتع بإجلال ديني يغوص عميقا في الضمير. احتراما للثقافة الجمعية التي ستتلقى هذا العمل يفترض أن يبقى حضور الصحابة والرسل في أذهان الناس حضورا دينيا لا دنيويا.