تحولات الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية

المنظمات المهنية تلعب دوراً مهما في ترقية مهنةٍ وتعزيز القيم المتصلة بها

أزمة الطبقات الوسطى في المشرق العربي إليزابيت لونغنيس ترجمة: رندة بعث الشركة العالمية للكتاب ـ بيروت 2012
TT

إليزابيت لونغنيس مديرة المركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا، ومديرة قسم الدراسات المعاصرة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت. تطرقت في بحثها هذا إلى مسائل التشغيل والتأهيل المهني والشؤون النقابية في المشرق العربي، وبحثت أوضاع مهن شتّى، إشكاليات مهنية تواجه مجتمعات مغايرة ذات استدلالات متجانسة أحياناً ومختلفة غالباً في المشرق العربي، وركزت على حدثين اجتماعيين كبيرين. بداية، الأزمة التي أثرّت في معظم تلك المجموعات المهنية: بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين، الذي أدّى إلى تكثيف القبول في الجامعات وانفتاح الأسواق المعولمة إلى بطالة المجازين وصراعات على المنزلة الطبقية، وتشظٍّ قويٍّ بين نخبةٍ درست في مؤسسات إنتقائية وكتلة بروليتاريّة. ثمّ الدور الرئيس الذي لعبته المنظمات المهنية التي تبع مسارها التطور السابق وعقلنته بعد أن كانت محركات للتنمية «الوطنية» وممثلة لـ «الطبقات الوسطى المعصرنة» أصبحت حوامل للاعتراض والتعبئة السياسية. وهذه برهنةٌ على تبعية الديناميات المهنية للسياقات «المجتمعية» والأحوال «الزمنية».

الفرضيّة التاريخية المترسخة في النتائج السابقة، هي فرضية الاستقلالية المتزايدة للحقل المهني عن السياسي. فالمهن بنى اجتماعية تستند إلى نشاط عمل يترافق مع معرفة متخصصة. وكانت أُولى المهن التي اهتمت بها المؤلفة مهنة «المهندس» ثم مهنة «الطبيب»، وهما مهنتان كانتا في قلب مشروع اجتماعي ـ سياسي تميَّز بفكرة أنّ التنمية العلمية والفنية هي أساس التقدّم الاجتماعي.

في القرن التاسع عشر، أدّى نشر العلوم الأوروبيّة في المشرق العربي إلى اختراع لمهن أصبحت شرعيتها تستند إلى استيراد العلوم الأوروبية. في الحقبة نفسها، أصبحت الإصلاحات القضائية والمؤسساتية، وكذلك الفنون، أصل تطوير صلة جديدة بين المهن الجديدة والمعرفة، في مجال القانون والتعليم، وكذلك أصل تطوير نمط جديد من رجالات الثقافة والصحافيين والكتّاب.

لقد قدّمت هذه المهن الجديدة عدداً من قادة الحركات القومية: إنهم في البداية وبأعداد كبيرة، المحامون، وأتى الأطباء بعد ذلك بقليل. وظهر المهندسون في مقدمة المشهد بعد الاستقلال. لقد وُصف هؤلاء وأولئك بداية بأنهم «نخب معصرنة»، ثم بوصفهم جزءاً من تلك «الطبقات الوسطى الجديدة» الموصوفة بأنها عصرية وحاملة للتغيير وقادرة على إخراج بلادها من التخلف.

تعطي الكاتبة مساحة كافية لدور الدولة الفاعل والمركزي في التنمية والانتقال من نمط مجتمعي إلى آخر، حيث للطبقات الاجتماعية دور ثانوي في هذا الانتقال، ولا تكون الفاعلة الأساسية في تغيير المجتمعات التابعة، فتقترح التمييز بين «الطبقة الحاكمة» التي هي على صلة بأسلوب الانتاج، و»النخبة الحاكمة» الفاعلة في التغيير والمنتج لطبقات اجتماعية جديدة. هي الطبقات الوسطى الجديدة بوصفها الأرضية التي انبثق منها قادة الدول المستقلة حديثاً.

بعد بضعة عقود، بدا نمو تلك الطبقات نتاجاً لتغيير روّجت له السياسات التي طبَّقتها تلك الدول عينها. فأصبحت الدولة حقاً الفاعل الرئيس الذي يخلق الطبقات الاجتماعية، ويشكلها عبر السياسات التنموية التي يطبقها.

تستند الكاتبة على دراسة وضعها محمود عبد الفضيل لجامعة الأمم المتحدة عام 1988 عن العالم العربي في الموضوع نفسه حيث أكّد على الدور الأساسي للدولة في تحولات البنية الطبقية عبر سياسة التصنيع والتعليم والعصرنة. مضيفاً، صحيح أنه ينبغي أن نرى بداية في هذه الطبقة الوسطى الجديدة «القاعدة السياسية الأصلية» للأنظمة العربية وليس بوسع تلك الأنظمة أن تفهم نفسها إلاَّ بعلاقتها وتفاعلها مع المجتمع الذي انبثقت منه، لكنه يحذِّر من الإشكاليات والانزلاقات التي تفضي إلى أن تربط بهذه الأنظمة مجموعات تشكلت لاحقاً، أي « قسمٌ من الطبقة الوسطى في المناطق المحيطية» أو ذلك القسم المنبثق من تطور فئة العاملين بأجر والناجم عن سياسات طبَّقتها تلك الأنظمة الجديدة. وتوسع تلك الطبقات الوسطى هو الذي يفسِّر استقرار عدد من الأنظمة. تخلص المؤلفة إلى القول في هذا المجال بأن الطبقات الوسطى تشكل القاعدة الاجتماعية للدولة بقدر ما تشكِّل نتاج فعل تلك الدولة. تقوم به دولة انبثقت من الطبقات الوسطى أو من نخبة برجوازية صغيرة هي بالتعريف معصرنة.

تتساءل الكاتبة بعد تحليلها عن إمكانية تجاوز فكرة دولة صانعة مجردة، وهل بالإمكان الاهتمام على نحو متماسك بالديناميات الاجتماعية والتفكير في الدولة وعلاقتها بالمجتمع من وجهة نظر سوسيولوجية؟.

تجيب الباحثة مباشرة دون الدخول في سجال حول طبيعة الحدود بين الدولة والمجتمع، فتنظر إلى الدولة في بُعدها السوسيولوجي المحض بوصفها تتجسَّد في أشخاص ماديين، وتستند إلى فعل رجال ونساء أقل يحتلون، مؤقتاً، مختلف مواقع القرار أو المسؤولية، التي وصلوا إليها عبر تعبئة مختلف أشكال المعارف والموارد، من ماديّة أو اجتماعية أو رمزية. إن معرفة مَن هم الأفراد الذين يحتلّون مختلف المواقع في جهاز الدولة ودوائره تفرض التساؤل حول الآليات التي أوصلتهم إلى هذا الموقع أو ذاك، وحول نمط الشرعية والمعارف التي يستندون إليها: عسكريون أو أبناء أسر، محامين أو مهندسين، ما هي الخصائص السوسيولوجية الراهنة التي تسمح بتعيين الممسكين بمقاليد السلطة؟ وفي مستوى ثانٍ، ما هي أنماط الفاعلين التي ينبغي أن يستند إليها أولئك القادة، وإلى أي نمط من الكفاءة الإجتماعية أو المهنية ؟ هل هم «النخب» في الحالة الأولى؟ «الطبقة الوسطى» في الحالة الثانية؟.

وتضيف الباحثة، يصعب التعامل مع مفهوم «النخبة» الذي غالباً ما يستخدمه في هذه السجالات وعلى حد سواء الباحثون والفاعلون الاجتماعيون أنفسهم.

تاريخياً، يرتبط هذا المفهوم بعقيدة سياسية معادية للديمقراطية، وعلى نحو أشد معادية للإشتراكية، تبرّر مصادرة السلطة على يد نخب تشرعن سيطرتها بصفاتها الطبيعية. يصعب تجنّب الشحنة الإيديولوجية الموجودة في المصطلح حتى إذا كانت التطورات اللاحقة قد جهدت لجعله موضوعياً. وربما كان مفهوم «النخبة الحاكمة» هو الذي شهد المتابعة من علماء السياسة فارتبط بتشكّل الدولة وبأساليب جديدة في اختيار العاملين في الحقل السياسي، فزاد ذلك من سهولة اللجوء إليه من أجل التحولات الاجتماعية والسياسية في بلدان العالم الثالث.

باللغة العربية، تقابل كلمة ( elite ) الفرنسية كلمتان: الخاصة والنخبة، وهما تحيلان إلى نمطين من الفئات المتمايزة وإلى لحظتين تاريخيتين مختلفتين: تعرّف «الخاصّة» في مجتمعات ما قبل الحداثة بقربها من دولة سيطرتها على المجتمع ضعيفة، في حين أن «النخبة» تشمل مختلف الفئات المهنية من أصحاب شهادات درسوا في المدارس الحديثة ويعملون في خدمة دولة مركزية. من هنا ينبع الميل إلى تجنب المفهوم والإكتفاء بتفكيكٍ لمقولات المعنى الشائع واللغة، لأننا كذلك يستحيل أن نجد أي نموذج مقياسي للتأكد إن كانت هذه الفئة أو تلك تتوافق حقاً مع ذلك «النموذج». وبكل الأحوال نحن نهتم هنا بالنخبة لا بالخاصة.

تلتقط الباحثة صلة «النخب» بتطور الطبقات الوسطى وتعدّ «المهن الحديثة» «التي خلقها النظام التعليمي والإداري الذي أتت به القوة الإستعمارية»، كالهندسة والطب والمحاماة والتعليم، أفضل تمثيل لتلك النخب. لكن استحواذ الخطاب الشائع على المصطلح تفرض الحذر: حينذاك، تنتقدَ أنظمة الحكم الاستبدادية على أنها لا تستمع إلى مطالب ومقترحات تلك النخب المتعلمة والمهنية، على الرغم من أنها أكثر كفاءة لتحديد الإصلاحات والإجراءات التي يحتاجها البلد. من القرن التاسع عشر وحتّى منتصف خمسينات القرن العشرين، اجتاح الحقل السياسي تدريجياً خرّيجو المدارس الحديثة والجامعات، من محامين وأطباء وصحافيين، على الرغم من أن عددهم كان قليلاً، بدا للجميع وكأنهم وكأنهم نخب البلاد الثقافية والاجتماعية والسياسية في آنٍ معاً. ولئن كانوا غالباً وريثي أسر من الأعيان، بدا أنّ رأسمالهم الدراسي والمهني مؤشراً أفضل بكثير على هويتهم وعلى موقعهم الاجتماعي منه على طبقة وسطى يصعب تعيين حدودها. لكن خرّيجي الجامعات اليوم يعدّون بمئات الآلاف، ويعدّ المهندسون والأطباء بعشرات الآلاف ولم يعد هنالك كثيرٌ من الأمور المشتركة بينهم وبين «النخب» المهنية في خمسينات القرن العشرين.

تتابع الباحثة بأنّه كان عددٌ كبيرٌ من المثقفين العرب يميلون إلى اختزال المجتمعات الشرق أوسطية إلى بنيتها الطبقية والحركات التي تهزّها إلى بُعد اقتصادي محض. وتعيب عليهم عماءهم المادوي وإهمالهم للعامل الثقافي، مع اعترافها بالقوة التعبوية الكامنة في «فكرة الطبقة». وترى أن تعميم مفهوم «الطبقة» وترويج «الطبقة العاملة» في ذلك الوقت حشد الجماهير لكنه أخفى الحقيقة وتنوّع الانتماءات الاجتماعية. ألا يمكن أن نرى في هذه التحليلات في مجال الطبقة، والتي نشرها مثقفون و «طبقاتٌ وسطى» تعلمت «على الطريقة الغربية» تعبيراً عن توقهم إلى أشكال جديدة من تضامن أفراد منفصلين، أو يطمحون إلى الانفصال، عن أشكال التضامن التقليدية.

كان أولئك المثقفون عينهم، حائزو المعارف الحديثة، هم من كان ينتَظر منهم أن ينوّروا الشعب، وأن يقدموا الإجابات على مشكلات المجتمع والتخلف التنموي والاستغلال. هل كانوا طليعة انبثقت من هذا الشعب، أم نخبة تضع نفسها تحت تصرّف الشعب؟ لكن أليست الطليعة نخبة؟ ألسنا هنا أمام تصوّر نخبوي للمجتمع وللتغيير الاجتماعي؟. لكن الخلط الشعبي بين الانتماء إلى النخبة وبعض المهن قد يكون السبب في التفاوت المتزايد بين التصورات والواقع المعاش، حين يعقب الترويج عبر التعليم لأجيال كاملة من الأطفال ذوي الأصل المتواضع هبوط بالجملة في موقع هؤلاء المجازين الشباب.

تُفرد الباحثة فصلاً للتحولات الاجتماعية للمهندسين والأطباء في سوريا فتقول: يكشف التحوّل الذي تشهده المجموعات المهنية مثل المهندسين أو الأطباء، وهو الأزمة التي أخذت تمسّهم على نحو خاص منذ سبعينات وثمانينات القرن العشرين، الشعور بالإحباط الناجم عن التوقعات والإمكانيات، بين تمثّل الذات الموعودة، وواقع إعادة التشكيل، وانحدار المنزلة المهنية.

وتتساءل هل هؤلاء أمام طبقة وسطى جديدة، أم أمام مهنة مؤهلة؟ فإذا تفحّصحنا المجموعات القائدة في قمة الدولة عبر الانتماءات المهنية، نجد أن الأطباء الذين كان انخراطهم السياسي مبكراً، موضع استماع وتوسط وفقأ لطبيعة مهنتهم المتصلة بالسكان مباشرة. في حين أن سلطة المهندسين سلطة على الأشياء أكثر منها على البشر، وتقع في مجال البيروقراطية التقنية. لقد ترافقت زيادة عدد المهندسين، التي كانت متصاعدة مع زيادة نفوذهم، ومنذ العام 1971 كان رئيس الوزراء مهندساً. وفي فترة لاحقة نسب حزب البعث نفسه للاشتراكية وطوّر تخيلات وأساليب تعبير تعلي شأن «الطبقة العاملة» ودورها في الثورة، ومنح العاملون بأجر عدداً من المزايا، وشكّل «المنظمات الشعبية» وسيطر عليها، وأضعف منظمات المهن الحرة والعلمية حتّى فقدت دورها وغابت عن الفعالية والوجود فتراجع دور الطبيب والمهندس.

تختم الكاتبة بحثها بعد عرض إحصائيات ودراسات ومقارنات ومقابلات بالقول: لئن كانت مجتمعات المشرق العربي هي مثل غيرها أسيرة «العولمة» لا سيما بأبعادها الاقتصادية والمهنية معاً، فيجب تعزيز الهويات المهنية المترافق مع فكرة الكفاءة والفعالية. وهنا تلعب المنظمات المهنية دوراً في ترقية مهنةٍ وتعزيز القيم المتصلة بها. ولئن كان العمل يحتلّ في المجتمعات الديمقراطية مكانة مركزية في الحياة الاجتماعية ومنظومات القيم، فليس مؤكداً أن تكون هذه هي الحال في الأماكن الأخرى. ربما غفلنا عن البحث في ذلك فلنتركه للسياسيين.