أتباع طريقة جلال الدين الرومي يقاومون الانقراض في لبنان

مهرجان «على ضوء القمر» يعيدهم إلى الواجهة

TT

الحفل الذي أقامه مركز «الصفدي الثقافي» في طرابلس، لافتتاح مهرجان «على ضوء القمر» السنوي الرمضاني، وأحياه أتباع الطريقة المولوية، وسط بهجة الحاضرين وفضولهم، لفت النظر إلى ظاهرة ثقافية دينية مهددة بالانقراض في لبنان.

طرابلس، العاصمة اللبنانية الثانية، التي كانت مركزا لواحدة من التكايا الأساسية للطريقة المولوية، وأتباع جلال الدين الرومي في المنطقة، تخسر دراويشها حتى بات عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. فرقة «طرابلس التراثية للإنشاد والفتلة المولوية» التي أحيت الحفل بأناشيدها ودراويشها هي آخر ما تبقى من هذه التكية بتراثها العثماني الذي عاش نابضا في هذه المدينة. الفرقة حضرت لافتتاح المهرجان بكامل عددها، 10 منشدين و4 عازفين على آلات إيقاعية و5 من الدراويش الشبان و2 في السادسة من العمر. وعلى وقع الأناشيد التي تمجد الخالق، وتنادي المصطفى كان الدراويش يؤدون فتلاتهم التي ما إن تنتهي إلا وتعود لتبدأ من جديد. كان لافتا مشاركة الطفلين الصغيرين وقدرتهما على تأدية فتلات طويلة تضاهي ما يؤديه الكبار.

لم تكتف الفرقة بما أدته في الصالة المغلقة فدعي الحاضرون إلى باحة خارجية نظم فيها معرض للمنتجات اليدوية والحرفية، ومن ثم شاهد الحاضرون طقوسا لما يسمى «النوبة». وهي تجوال ومسار لمنشدين يقدمون أدعيتهم وابتهالاتهم على وقع صوت الطبول وبإضاءة المشاعل وهم يجوبون الساحة. أدى الدراويش فتلاتهم أيضا في الهواء الطلق، بحضور الدادا محمد الحموي الذي يقود الفرقة بينما يقود أخوه جميل الإنشاد.

يقول محمد الحموي، إن «لقب دادا يكتسبه الصوفي بالترقي في المرتبة، وإن المريدين الذين يدخلون اليوم لتعلم الطريقة في طرابلس قلة قليلة، وهم آخر من تبقى في لبنان من أتباع طريقة مولانا جلال الدين الرومي». تشكو الفرقة من إهمال شديد، وصدود من قبل مسؤولين مشغولين بمناكفاتهم عن كل ما هو ثقافي وحضاري للمدينة. يقول الدادا محمد «كانت بلدية طرابلس قد خصصت لنا في السابق ميزانية سنوية ثابتة، وقمنا باتصالات مع الجانب التركي، لتطوير الفرقة، وتدريب الدراويش ليصبحوا أكثر حرفية. تجاوب الأتراك معنا وتبادلنا زيارات معهم، لكن الدعم سرعان ما انتهى مع وصول رئيس بلدية جديد في طرابلس لا يعتقد أن النشاط الصوفي في المدينة من أولوياته».

اعتنت رئاسة الوزراء التركية بأمر الصوفية في طرابلس الذي يعود تاريخها إلى زمن الوجود العثماني، ورصدت ميزانية وأرسلت فريقا تركيا من المهندسين والعاملين لترميم التكية المولوية التي أهملت ونسيت، وبالفعل تم الترميم، لكن الأمور لم تصل تماما إلى خواتيمها. الفرقة التي يفترض أن تعيد نشاطها داخل التكية التي كانت خلية لتطوير الحياة الصوفية، مع موسيقاها وأناشيدها وتراثها، لا تزال تتمركز في مكانها القديم داخل السوق. ويخبرنا دادا محمد بأن اجتماعا لأتباع المولوية يتم كل مساء أربعاء في المدرسة الكريمية تقام خلاله حلقات الذكر، ويقرأ القرآن، وتنظم النوبة، وينشد المنشدون، ويفتل مشايخ الصوفية. هذا الموعد الأسبوعي هو آخر ما تبقى لأتباع جلال الدين الرومي في لبنان كله. الفرقة مطلوبة لتؤدي عرضها في كل المناطق، ويحدث أن تسافر إلى خارج البلاد.

«مشايخ الطريقة الكبار كلهم ماتوا»، هكذا يروي الدادا محمد وعائلة المولوي المعروفة في طرابلس بأنها كانت على رأس هذه الطريقة في المدينة، ومن هنا اكتسبت اسمها لم تتبع نهج أجدادها وتركت الأمر. ويبدو أن عائلة الحلبي هي التي تأخذ على عاتقها هذه الأيام الحفاظ على ما تبقى. ويروي الدادا أن نحو خمسة أشخاص جدد يتم تدريبهم. أما عن الطفلين الصغيرين فأحدهما هو ابن أخيه الذي بدأ بتعلم الفتلة وهو لا يزال في الرابعة. ويقول «ابني الذي لا يزال في الثانية من العمر يفتل معنا حين يرانا نؤدي، وهذا أمر تتناقله الأجيال، وتتعلمه بالتدرج». في المدرسة الكريمية في طرابلس، ثمة تدريس للعلم الشرعي وتعليم للطرق الصوفية، وتواصل بين المريدين. ثمة دعم من مركز «الصفدي الثقافي»، لكنه دعم محدود وغير رسمي، ما تحتاجه الفرقة كما يقول مسؤولوها، هو عناية متواصلة تسمح لها بالنمو كأحد مكونات المدينة الثقافية والحضارية التي يتوجب حمايتها.

«على ضوء القمر»، المهرجان الذي يحرص منذ عدة سنوات على استضافة الفرقة، هو المهرجان الرمضاني الفني الوحيد في طرابلس هذه السنة، ينعقد في ظروف صعبة أمنيا وسياسيا، لكنه كما يقول منظموه، يواجه ويتحدى بعد أن انسحب الآخرون وقرروا انتظار ظروف أفضل. هذه الظروف التي يبدو أنها تشل كل حركة، وتمنح فرصة للمتقاعسين ليغالوا في تقاعسهم. لكن المولويين وأتباع مولانا لا يجدون بدا من الاستمرار ولو بإمكانيات شحيحة. «نحن آخر من تبقى من أتباع هذه الطريقة في كل لبنان»، هكذا يقول الدادا. ويضيف «علينا أن نحفظ هذا الإرث، مهما كانت الصعوبات جمة».