كيف انتصر غاليليو على الظلاميين المسيحيين ومحاكم التفتيش؟

قصة الصدام المروع الذي حصل بين العالم الشهير والكنيسة المسيحية

غاليليو
TT

هذا الكتاب من تأليف البروفسور جان إيف بوريو أستاذ اللغة والآداب اللاتينية في جامعة نانت بفرنسا.. وهو يقدم لنا هنا لمحة تاريخية عامة عن محاكمة غاليليو عام 1633 وما جرى بعدئذ من أحداث حتى يومنا هذا. إنه يسرد لنا قصة ذلك الصدام المروع الذي حصل بين العالم الشهير والكنيسة المسيحية التي أوشكت أن تقتله لولا أنه تراجع في آخر لحظة.

والحال هو أن قصة هذا العالم الكبير ما انفكت تشغل الناس على مدار العصور؛ ولذلك فيمكن القول إنه حوكم مرات عدة لا مرة واحدة، حتى تمت تبرئته مؤخرا على يد البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992.

ولكن هل كان عالم بحجم غاليليو بحاجة إلى تبرئة الكنيسة التي أهانته وحاكمته قبل أربعة قرون تقريبا؟ ألا يحق له هو أن يحاكمها؟ على هذا السؤال يجيب الكتاب كله بصفحاته الكثيرة.

نلاحظ أن المؤلف يستعرض مشكلة غاليليو على النحو التالي: في عام 1633 وعلى أثر محاكمة طويلة وصاخبة أعلن الفاتيكان إدانة غاليليو بتهمة الهرطقة؛ لأنه قال إن الأرض تتحرك وليست ثابتة على عكس ما نتوهم نحن الجالسين عليها، والأخطر من ذلك أنه قال إن الكتاب المقدس لا يشكل مرجعية علمية وإنما روحية فقط. وقد صدرت هذه الإدانة عن محاكم التفتيش في الفاتيكان، وهي مشكَّلة من كبار الكرادلة ورجال الدين المسيحيين المنتمين إلى المذهب الكاثوليكي.

وزاد هؤلاء قائلين: إن الكتاب المقدس (أي التوراة والإنجيل) يقول إن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وإن الأرض ثابتة لا تتحرك، فكيف يحق إذن لهذا المدعو غاليليو أن يناقض كلام الله؟ ويحه ماذا فعل؟! ألم يخرج على الدين المسيحي إذا فعل ذلك؟ ألم يصبح زنديقا ومهرطقا ينبغي إنزال أشد العقاب به؟

ثم يردف المؤلف قائلا: «بالطبع فإن غاليليو تراجع عن موقفه في نهاية المطاف». وهكذا نجا بجلده من الحرق أو القتل ولم يحصل له ما حصل لذلك العالم الآخر جيوردانو برينو الذي قطعوا لسانه وألقوه طعمة للنيران عام 1600 بالضبط؛ لأنه قال بنفس نظرية كوبرنيكوس التي يعتنقها غاليليو...

بعدئذ يتحدث المؤلف بالتفصيل عن حيثيات إدانة غاليليو عام 1633 في الفصل الأول من الكتاب، وأما الفصل الثاني فمخصص لكيفية انتشار خبر إدانة غاليليو في كل الأوساط العلمية الأوروبية بين عامي 1633 - 1651.

ففي ذلك الوقت لم يكن الخبر ينتشر بالسرعة التي ينتشر بها اليوم. كان يلزم عدة أشهر أو حتى عدة سنوات لكي يسمع الناس بخبر كهذا. بالطبع فإن العلماء المختصين سمعوا به بسرعة، ولكن عموم البشر لم يسمعوا به إلا بعد زمن طويل. عندما نقول بسرعة فذلك يعني خلال أسابيع على الأقل.

ثم يتحدث المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب عن ردود فعل بعض الفلاسفة والعلماء الكبار إزاء إدانة غاليليو. نذكر من بينهم على وجه الخصوص رد فعل الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت، فمعلوم أنه خاف جدا بعد أن سمع بالنبأ وسحب كتابه الشهير من المطبعة فورا، وهو الكتاب الذي يؤيد فيه نظرية كوبرنيكوس أيضا مثل غاليليو.

ومعلوم أن كوبرنيكوس كان قد قال منذ قرن بأن الأرض تابعة للمجموعة الشمسية، وأن الشمس هي مركز الكون لا الأرض، وأن الأرض هي التي تدور حولها على عكس ما توهمنا المظاهر الخادعة عندما نرى الشمس تشرق من الشرق وتغرب في الغرب، ونراها وكأنها تتحرك بالفعل، ولكنها في الواقع ثابتة، ولا نحس بأن الأرض تتحرك أبدا.. على العكس نشعر بأنها ثابتة تحت أقدامنا وصلبة. والسبب هو أننا نعيش عليها ولا نراها من بعد كما يحصل لنا مع الكواكب الأخرى. وبالتالي فالحواس خادعة وينبغي أن نشتبه بها إذا ما أردنا أن نشكل صورة علمية عن ظواهر الكون. ثم يضيف المؤلف قائلا: «لقد اتهم بعضهم ديكارت بالجبن لأنه سارع بسحب كتابه من المطبعة؛ خوفا من أن يحل به العقاب نفسه الذي حل بغاليليو، ولكن هل التهور شجاعة؟ من كان يستطيع أن يواجه آنذاك سيف الكنيسة الكاثوليكية؟».

كانت تسيطر على الأرواح والعقول وتستطيع أن تسفك دم أي شخص إذا ما أرادت. كانت هيبتها مقدسة، معصومة، لا تناقش ولا تمس.

يضاف إلى ذلك أن ديكارت كان يريد أن يواصل بحوثه حتى النهاية لإفادة شعبه والبشرية. وبالتالي فلو تسرع وقتلوه قبل الأوان لكان قد توقف عن التأليف ولكانت البشرية قد حرمت من ثمار عبقريته الفذة.

فهل هذا ما نريده يا ترى؟ أما كنا خسرنا معظم كتب ديكارت: أقصد الكتب العظيمة التي ألفها بعد عام 1633؟ ولهذا السبب فإن الكثيرين يدافعون عن موقف ديكارت الحذر هذا ولا يتهمونه بالجبن على الإطلاق. على العكس فإنهم يشكرونه لأنه حافظ على نفسه من أجلنا: أي من أجل أن يقدم لنا مؤلفاته الفلسفية الرائعة التي لا تزال تدهشنا حتى اليوم. ومن أهمها: «تأملات ميتافيزيقية»، بالإضافة إلى مقال في المنهج بالطبع.

ولكن البعض الآخر يقول إن ديكارت بالغ في الخوف بعد سماعه بخبر إدانة غاليليو من قبل الكنيسة المسيحية؛. فقد أرسل الرسائل إلى أصدقائه في باريس لكي يقولوا بأنه ليس من جماعة غاليليو ولا كوبرنيكوس. وبالتالي فقد بالغ في الحذر وأخذ الاحتياطات الكثيرة. مهما يكن من أمر فإن محاكمة غاليليو الشهيرة أرعبت معاصريه. وأصبح بقية العلماء يعدون على العشرة قبل أن يكتبوا حرفا واحدا في الموضوع. ويرى بعض المؤرخين أن تشدد الكنيسة الكاثوليكية تجاه العلماء عائد إلى أسباب تاريخية أيضا، بل بالدرجة الأولى.

وبالتالي فينبغي أن نموضع الأمور ضمن سياقها الصحيح لكي نفهمها على حقيقتها؛ فلا ينبغي أن ننسى أن المحاكمة جرت في أوج حرب الثلاثين عاما، وهي الحرب المذهبية التي اجتاحت أوروبا ودمرتها، وكانت قد جرت بين أتباع المذهب البروتستانتي وأتباع المذهب الكاثوليكي. وعندما كانت المحاكمة جارية كانت الجيوش البروتستانتية لملك السويد تجتاح ألمانيا وتهدد الكثير من المواقع الكاثوليكية في أوروبا. ضمن هذه الشروط ما كانت الكنيسة الكاثوليكية بقادرة على إظهار التسامح مع الفلاسفة والعلماء، وبالتالي فقد اضطرت إلى إظهار التشدد والحزم حفاظا على العقيدة المهددة من قبل الأعداء.

ومعلوم أن العدو الأساسي للفاتيكان أو للمذهب الكاثوليكي كان الإنسان البروتستانتي: أي أتباع مارتن لوثر زعيم الإصلاح الديني ومؤسس البروتستانتية. وبالتالي فالتسامح كان مستحيلا في مثل هذه الظروف. وهكذا دفع غاليليو ثمن شيء يتجاوزه كليا: أي ثمن الأحداث التاريخية العصيبة التي كانت تعصف بأوروبا آنذاك.

(نفتح هنا قوسا صغيرا لكي نسجل ما يلي: الشيء نفسه يمكن أن يقال عن الوضع الصعب للمثقفين العرب حاليا؛ فنظرا للمخاطر الخارجية التي تتهدد العرب منذ هجمة الاستعمار على المنطقة فإن هامش الحرية الفكرية أصبح محدودا جدا، وبخاصة فيما يتعلق بنقد الفكر الديني التقليدي المهيمن على الساحة. لا أحد يتجرأ على نقده في العمق خشية أن يتهم بأنه عميل للغرب أو معاد للدين؛ ولذلك فإن كثيرا من علماء العرب والمسلمين يهاجرون إلى الخارج لكي يستطيعوا التفكير بحرية في الشؤون التراثية. نضرب على ذلك مثلا العالم الباكستاني فالزر رحمان الذي هاجر إلى أميركا وجامعة شيكاغو بعد أن هدده الأصوليون. وقل الأمر ذاته عن المثقف الإيراني عبد الكريم سورش، وآخرين كثيرين.. وانظر أيضا نصر حامد أبو زيد الذي اضطروه للهجرة إلى هولندا.. لا يمكن أن تقول أي شيء جديد عن الدين ما عدا الخطاب الامتثالي الموروث أبا عن جد منذ مئات السنين. ينبغي أن تكرره كالببغاوات وإلا نالك العقاب الصارم واتهمت بالخروج على العقيدة. وهو خطاب اجتماعي جبار يشمل الناس كلهم من المحيط إلى الخليج.. والآن أصبحت الفضائيات تبثه على مدار الساعة. إنها تبث «الجهل المقدس» إذا ما استخدمنا المصطلح الشهير للباحث الفرنسي أوليفييه روا. في مثل هذا الجو تصبح الدراسة العلمية والتاريخية الحديثة للدين ممنوعة تماما. وبالتالي كيف يمكن أن نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه منذ عصر الانحطاط؟ هنا بالضبط يكمن الاستعصاء الحضاري العربي الإسلامي. أقصد بذلك استحالة دخول العرب والمسلمين إلى عصر الحضارة والحداثة الفكرية).

لكن لنعد إلى الكتاب.. يقول المؤلف مردفا: «وبعدئذ تطورت الأمور في أوروبا على مدار العصور وخفت إدانة غاليليو، أو قل لم تعد قوية كما كان عليه الحال في السابق. فبسبب تطور العقليات راح الناس يكتشفون تدريجيا أنه كان على حق والكنيسة على باطل».

وجرت عندئذ معارك فكرية عدة بين التيار العلماني أو الليبرالي من جهة، والتيار الأصولي المتزمت من جهة أخرى. وهذا ما يدرسه المؤلف بالتفصيل من خلال الفصل الرابع من كتابه القيم. ونلاحظ أنه يقسم العصور التالية إلى فترات أو شرائح زمنية محددة بدقة؛ فالاستقطاب بين التيارين السابقين حصل بين عامي 1633 - 1661، ولكن يمكن القول إنه اخترق كل تاريخ الحداثة الأوروبية: أي منذ عهد غاليليو وديكارت وحتى يومنا هذا.

وهناك فترة التسوية أو المصالحة بين الطرفين على يد الفيلسوف الألماني لايبنتز. وقد حصلت بين عامي 1654 - 1704. ثم يتحدث المؤلف بعدئذ عن الفترة التي صنعت فيها أسطورة غاليليو على يد باسكال وفولتير وديدرو والموسوعيين (1657 - 1777)، ثم ازدادت هذه الأسطورة اتساعا وقوة في القرن التاسع عشر عندما انتصرت الحركة العلمية والصناعية الصاعدة على الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان.

وعندئذ انتقم غاليليو من الظلاميين المسيحيين بعد ثلاثة قرون على موته أعظم انتقام، وأصبح معظم الأوروبيين علمانيين يكرهون التزمت الكاثوليكي ومحاكم التفتيش؛ ولهذا السبب اضطر البابا يوحنا بولس الثاني عام 1979 وعام 1992 إلى الاعتذار عن الفتوى اللاهوتية السابقة التي أدانت غاليليو بدون حق. وأعاد له هيبته الدينية واحترامه، ولكن هل كان ينبغي أن ينتظروا أربعة قرون تقريبا لكي يعترفوا بالخطأ؟!