الرفاعي .. من السيرة الذاتية إلى «أرخنة» الإسلام السياسي

حياة وأفكار أحد مؤسسي حزب الدعوة العراقي في كتاب للخيون

TT

صدر مؤخرا عن دار «مدارك» في دبي كتاب «أمالي السيد طالب الرفاعي» للباحث رشيد الخيون. وتضمن الكتاب استهلالا بقلم المؤلف وضح فيه فكرة الأمالي، وآلية تدوينها، وما انطوت عليه من مواضيع حساسة مثل تأسيس «حزب الدعوة»، والصراع على المرجعية، وصلاته مع شاه إيران، إضافة إلى مذكراته الشخصية، كما تضمن الكتاب مقدمة بقلم صاحب الأمالي أكد فيها أنه لم يدع فيها مجالا للعواطف الشخصية أن تتسرب في كل ما تذكره وأملاه على الدكتور رشيد الخيون.

غواية اللون الأحمر

ولد طالب الرفاعي عام 1931 في منطقة الرفاعي بمحافظة الناصرية، ودرس في مدرستها الابتدائية.. وحينما بدأ يتوسع في قراءاته الأدبية والفكرية تعاطف مع الفكر الشيوعي لأنه ينصف الكادحين، ويطالب بالعدالة الاجتماعية، ويدعو إلى تكافؤ الفرص بين الناس، وكاد يكون شيوعيا لولا قراءاته لكتيب صغير يحمل عنوان «الشيوعية عدوة الأديان» للشيخ محمد مهدي الخالصي الذي نفره من هذا الفكر العلماني.

لعب إسماعيل السوز دورا مهما في حياة الرفاعي، فهو الذي حفزه على الانتقال إلى النجف، ورسخ في ذهنه اسم محمد باقر الصدر، كما شجعه على قراءة الكثير من الكتب المهمة، وعرفه على الشيخ محمد علي الخمايسي الذي اعتمر على يده العمامة منذ عام 1951، ولا يزال السيد الرفاعي حتى الآن يبحث عمن يلف له العمامة لأنه لم يتعلم لفها بنفسه.

توقف الرفاعي عند دراسته الحوزوية في النجف، التي تنقسم إلى 3 مراحل؛ وهي: المقدمات، والسطوح، والبحث الخارج. والجدير بالذكر أن الرفاعي سكن في مقبرة خلال السنوات الـ3 الأولى وقرأ في مرحلة المقدمات الكثير من الكتب اللغوية المهمة.

ينفي السيد الرفاعي أي وجود لحزب الدعوة قبل عام 1959، وهذا رأي أحد المؤسسين للحزب، وليس رأي باحث أو ناقل للخبر، لكنه أكد وجود إرهاصات تمثلت في انتماء بعض أبناء الشيعة إلى حزبي «الإخوان» و«حزب التحرير»، وكان الرفاعي شخصيا له علاقة بالإسلاميين تمتد إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي. وقد اتفقوا بعد مؤتمرهم الذي عقد في الأعظمية على أن يكون السيد طالب الرفاعي رئيسا للحزب الإسلامي، لكن الرفاعي اعتذر لقلة تجربته، وخشيته من أن يفترق الشيعة بسببه.

أكد الرفاعي أن محمد باقر الصدر يصلح للقيادة فأخذ محمد مهدي الحكيم بنصيحته، وذهب إلى منزل الصدر بعد 14 يوليو (تموز) 1959، لكن الصدر لم يكن مجتهدا آنذاك فأخذ كتابه «الفقه والأصول» وعرضه على حسين الحلي الذي شهد باجتهاد الصدر وبايعوه في الليلة نفسها. ويؤكد الرفاعي أن 3 أشخاص كانوا وراء فكرة تأسيس الحزب وهم طالب الرفاعي ومحمد باقر الصدر ومحمد مهدي الحكيم، ثم انضم إليهم محمد باقر الحكيم، على الرغم من صغر سنه.

ويذكر الرفاعي أن ولدي المرجع محسن الحكيم قد خرجا من الحزب، كما خرج الصدر نفسه لأنه بنى فكرة تأسيس الدولة الإسلامية على آية «الشورى» ونصها «وأمرهم شورى بينهم»، أي أن هذه الآية ليست حجة في إقامة الدولة.

لم يكن محسن الحكيم ضد الإسلام الذي يدعون إليه، لكنه كان مرجعا للأمة كلها، لا لحزب بعينه. كانت قيادة الحزب جماعية بعد خروج الصدر، وقد تولاها 3 أشخاص وهم: الرفاعي وعبد الهادي الفضلي والدكتور عدنان البكاء. وكان هؤلاء يمسكون بمفاصل التنظيم حتى عام 1962. وبقي الرفاعي ناشطا في الحزب حتى غادر إلى مصر وأصبح وكيلا لمرجعية محسن الحكيم عام 1969، حيث جمد نشاطه الحزبي. ولا يزال الرفاعي ضد فكرة تسلم حزب الدعوة السلطة لأن هذه الأخيرة سوف تعريه وتحرق أوراقه كلها.

وفي ما يتعلق بفتوى الحكيم ضد الشيوعية قال الرفاعي إن بزازا يقلد الحكيم استفتاه في أمر الانتماء إلى الحزب الشيوعي عام 1960 فرد عليه الحكيم: «لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد»، وكان الاستفتاء شخصيا، وليس عاما، لكن جواد شبر الذي كان يريد أن يستخلص فتوى من الحكيم أخذ نسخة من هذه الفتوى ونشرها في الصحف المعادية للشيوعية ببغداد تحت مانشيت كبير «الشيوعية كفر وإلحاد» فأخذت الفتوى بعدا آخر.

يحتل محمد باقر الصدر منزلة مهمة في قلب الرفاعي فهو الذي رغبه في العمل السياسي، لكنه ليس له باع طويل في السياسة، فقد كان يبحث عن استشهاد، والسياسي ليس مشروع موت، وإنما هو مشروع حياة، ولو بقي الصدر حيا لسعى كثيرون لقتله لأنه لا يتاجر بالدين والوطن. ويعتقد الرفاعي أن الصدر كان عليه أن يخرج من العراق كما فعل الخميني حينما خرج من إيران والتفت حوله الجماهير، وكان بإمكان الصدر أن يحشد الجماهير حوله ويسقط النظام. وبمقتل الصدر لم تبق قيادة في العمل الإسلامي.

تشذيب الطقوس العاشورائية

لا يؤمن السيد الرفاعي بالغلو في الطقوس العاشورائية، بل يتحسس من بعض مظاهرها مثل اللطم، والتطبير بالقامات، والتسوط بالجنازير لأنها تعكس حالة مؤسية من التخلف، بينما يفترض أن تكون هذه الذكرى رمزا للحرية وترسيخا للمعاني الإنسانية. حاول الصدر تغيير هذه الطقوس وإيجاد بديل لها فكانت فكرة المواكب الجامعية التي تليها مواكب العلماء. لكن السيستاني لم يصدر فتوى ضد التطبير خشية أن يخالفه بعض المراجع وتهتز صورته أمام مقلديه.

يكشف بعض فصول هذا الكتاب الجانب النفسي لشخصية الرفاعي الذي لا يجد حرجا في القول إنه يتكبر على هذه الشخصية أو تلك. فحينما ذهب مرتضى العسكري إلى الحج عام 1963 وكلفه أن يكون إماما للحسينية رفض؛ لأن كتاب التكليف كان معنونا إلى «ولدنا السيد الرفاعي»، بينما كان الرفاعي يطمح في أن يخاطب بعنوان «حجة الإسلام» أو ما يفوقها من التسميات.

تتسم شخصية الرفاعي بالجرأة والشجاعة والاستفزاز، فلم يتورع عن القول إنه يحب الاستماع إلى أغنية «إلى عرفات الله» لأم كلثوم، كما سنعرف في الفصل السادس عشر والأخير من هذا الكتاب بأنه صلى جنازة شاه إيران. ولعل أهم ما في الفصل الثاني عشر هو كلمته الصريحة في محب الدين الخطيب الذي وصفه على لسان شيعته (بأنه «عدو الدين» لأنه أخرجهم بجرة قلم من إسلامهم وعقيدتهم). وحينما أمر شعراوي جمعة بتسفيره اتصل به جمال عبد الناصر وقال له: «الشيخ الرفاعي ده بتاعي»! وهكذا استمر الرفاعي إماما للشيعة بمصر لمدة 16 عاما.

شريعتمداري ومقاومة الاستبداد

من المعروف أن شريعتمداري يعتبر المرجع الأول في التقليد بعد البروجردي وهو صاحب رسالة فقهية معروفة. وكان غير راض عن الأخطاء التي ارتكبت في جمهورية إيران الإسلامية، حيث قُمع المخالفون في الرأي، وسجن المناوئون، أو وضعوا تحت الإقامة الجبرية كما هو الحال مع المرجع المجتهد شريعتمداري الذي كان يؤمن بالإصلاح من الداخل، ولا يميل إلى الحروب وإراقة الدماء. لم يعترف شريعتمداري قلبيا بمرجعية الخميني، كما طلب منه أن لا يستبد برأيه، وأن يكون واحدا من المرجعيات الـ4 وهم: «شريعتمداري، والخميني، ومحمد رضا الكلبكياني، وأغايي شهاب الدين مرعشي». وفي ما يخص هذه النقطة، يؤكد الرفاعي أن الحكومة الإيرانية ضيقت الخناق على شريعتمداري، واتهمته بتدبير محاولة انقلابية مع قطب زادة، وهجموا على مؤسسته «دار التبليغ»، وخلعوا عمامته، وطلبوا منه الاعتذار العلني، وظل حبيس الدار إلى أن وافته المنية ودفن دون أن يصلي عليه وكيله.

أشرنا في متن هذه المراجعة النقدية إلى أن السيد الرفاعي قد صلى جنازة الشاه وهو مجرد من تاجه وصولجانه فكفره بعض المتزمتين الإيرانيين وألبوا الناس عليه، لكنه كان واثقا بأنه لم يرتكب إثما، فالشاه، من قبل ومن بعد، رجل مسلم، ولا حرج من أداء صلاة الجنازة عليه. وعلى الرغم من تأليب كاظم الحائري ومحمود الشاهرودي فإن خامنئي قال: «لم يقم السيد الرفاعي إلا بواجبه»، فوجه له دعوة رسمية لزيارة إيران، وحينما زار الإمام الرضا عام 2005 تغير موقف الناس كثيرا إلى درجة أن محرر إحدى الصحف الإيرانية أسره قائلا: «لو أن الإيرانيين في قم يعرفون أنك صليت على الشاه لمزقوا ثيابك لكي يتبركوا بها»، فقد تحولت الصلاة على الشاه من نقمة إلى نعمة وبركة، فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.