عيد الشعراء كأعياد الشعوب.. فرح من تنور الأحزان

حاكم قرطبة يبكي فراق حذاء لأقدام حافية، وشاعر الرافدين يلاحق اليتيم في عاصمة العباسيين

المتنبي متخيلا و معروف الرصافي و فؤاد الخطيب
TT

شكل العيد عند العرب مناسبة يبثون فيها أفراحهم ويطردون أتراحهم، ويمارسون من خلاله إسقاطاتهم، يحدث ذلك رغم أن الحزن هو سمة العرب، فالشاعر العربي يبدأ قصائده بمطلع مأتمي، يقف على الطلل، ويبكي المحبوبة التي دائما ما تكون هاربة ومهاجرة، بل إن الوصول إليها يحتاج إلى أن يتجاوز أحراسا، وأن يعمل السيف عمائله حتى يصل إلى مخدع الحبيبة.

هنا رصد سريع لما يمثله العيد بالنسبة للشعراء.

يحل عيد الفطر والمشهد العربي هاجسا لكثيرين بل إن الأحداث والتغييرات والثورات انعكست على نفسيات الناس الذين وجدوا في ما قيل عن العيد فرصة للتعبير عن مكنونات النفس والمشاعر انطلاقا من هذه الأحداث.

وأعادت هذه المشاعر الصادقة مواقف، كان أبطالها حكاما وشعراء عبروا من خلالها عن مشاعرهم من خلال العيد أفراحا وأحزانا، فقد ظهر أبو الطيب المتنبي الشاعر العربي الكبير وأمير الحكمة وأعجوبة عصره وأحد مفاخر الأدب العربي إلى الواجهة في عيد الفطر الحالي، وبعث بآلاف الرسائل إلى السكان في الدول العربية بعد رحيله عن الدنيا قبل أكثر من 1070 عاما.

وقبل أكثر من ألف عام أطلق أبو الطيب المتنبي الشاعر العربي الشهير بيته الشهير: «عيد بأية حال عدت يا عيد»، باثا أحزانه ومعاناته بعد أن تبخرت كل آماله في أن يحظى بالحصول على إمارة أو ولاية يتربع على عرشها كما تربع على إمارة الشعر، ليعود المشهد ذاته في عدد من الدول العربية لكنه تم بصورة جماعية، عندما قامت ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، حل العيد وشعوب هذه البلدان قد تحققت مطالبهم بإسقاط حكامهم وتنظيم صفوهم وإجراء انتخاباتهم، في حين يترقب الشعب السوري إسقاط النظام الحاكم وفتح أبواب الحرية التي غابت عنهم طيلة عدة عقود، وظلت مغلقة بقوة الحديد والنار والملاحقة والتصفية لكل من يجرؤ على الاقتراب من هذه الأبواب.

وتداول المهنئون بالعيد رسائل متبادلة بينهم، حملت توقيع المتنبي عن العيد سواء تلك التي بث فيها أحزانه ومعاناته عندما حل العيد وهو لم يحقق مطالبه بالحصول على ولاية أو ضيعة يتربع فيها على عرش الإمارة كما تربع على مملكة الشعر العربي دون منافس، أو تلك الأبيات التي مدح فيها سيف الدولة الحمداني أمير حلب وفي نفس شاعر العربية مطامع، لكن الشاعر لم يحقق مطلبه عند سيف الدولة الذي عاش معه أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء مفضلا الرحيل عن حلب، متصلا بالملوك والحكام عله يجد ضالته عندهم.

وحرص باعثو رسائل المتنبي على أن تكون طبيعة كل رسالة تناسب واقع المرسل إليه فإذا كان من أصحاب المعاناة أو يواجه كآبة أو ضائقة فإن الرسالة تأتي على هيئة صرخة معبرة عن واقع الحال كما أطلقها المتنبي، أما إذا كان المهنئون أو من بعثت لهم التهنئة يعيشون بالفعل فرحة العيد، فإن الرسالة تأتي مفعمة بالفرح والتفاؤل. بل يصل الأمر إلى وصف المرسل إليه الرسالة بأنه هو العيد.

وحملت رسائل المتنبي بالعيد أبياتا شهيرة له أحداها قصيدة يهجو فيها (كافور الإخشيدي) حاكم مصر الذي وضع شاعر العربية عصا ترحاله عنده وامتدحه بقصائد شهيرة، ثم ما لبث أن انقلب عليه وأمطره بقصائد هجائية تداولها الناس وشهرت كافورا، وذلك على مر القرون الماضية بعد أن وجد الشاعر أن «أبا المسك» لم يمنحه فضلا من كأسه التي كان كافور يشرب منها:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ

فَلَيتَ دونَكَ بِيدا دونَهَا بِيدُ

لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا

وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرداءُ قَيْدودُ

وَكَان أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً

أشْبَاه رَوْنَقِه الغِيدُ الأمَاليدُ

لم يترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي

شَيْئا تُتَيّمُه عَين وَلا جِيدُ

يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما

أمْ في كُؤوسِكُمَا هم وَتَسهيدُ؟

أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني

هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ

إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّون صَافِيَةً

وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ

ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ

أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْه مَحْسُودُ

أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِنا ويدا

أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيدُ

وجاءت أغلب الرسائل التي تحمل الآبيات السابقة لأبي الطيب المتنبي موجهة من وإلى أصحاب المعاناة أو المغتربين خارج الوطن، معبرين فيها عن اشتياقهم للعيد داخل بلادهم ومع أهلهم وأحبتهم، لكن بعد المسافة والارتباط العملي أو الدراسي حال دون تحقيق ذلك، أو أولئك الذين يمرون بظروف مرضية أو ضائقة مالية ويرون في العيد تجديدا لأحزانهم ومعاناتهم.

أما الرسالة التي تحمل تهنئة لا تضاهى وجعلها المتنبي صالحة لمخاطبة أي شخص في تلك القصيدة التي حملت بيتا له يهنئ فيها سيف الدولة بالعيد (وكان العيد عيد الأضحى) ويقول:

هنيئا لك العيد الذي أنت عيده

وعيد لمن سمى وضحى وكبرا

وعكست تلك الرسائل عن حس فني راق في اختيار لغة الرسائل بعيدا عن الرسائل التقليدية المعتادة.

* الرصافي والأيتام

* وفي ذات السياق رأى بعض المهتمين بشؤون الأيتام أهمية بعث رسائل إلى الأصدقاء والموسرين يذكرونهم بفئة الأيتام في مناسبة العيد من خلال اختيار آيات وأحاديث وأشعار وعبارات خالدة تحث على الاهتمام بهذه الفئة ولعل أبرزها أبيات للشاعر العراقي المعروف الراحل معروف الرصافي من قصيدة طويلة عن «اليتيم في العيد» جاءت في سياق قصة شعرية مليئة بصور تحكي معاناة ومآسي الأيتام ووجد الشاعر العيد فرصة ليبثها ومنها:

خرجت بعيد النحر صبحا فلاح لـي

مسارح للأضداد فيهن مرتع

خرجت وقرص الشمس قد ذَرّ شارقا

ترى النور سيّالا بـه يتدفّع

بحيث تسير الناس كلٌ لِوِجهـةٍ

فهذا علـى رِسل وذلـك مُسرع

وبعض له أنف أش-ُّ من الغنى

وبعض له أنف من الفقر أجدع

وفي الحيّ مزمار لمُشجي نَعِيره

غدا الطبـل في درادابـه يتقعقع

فجئت وجوفَ الطبل يرغو وحولـه

شبـاب وولـدان عليه تجمعوا

لقد وقفوا والطبـل يهتزّ صوته

فتهتزّ بالأبـدان سوق وأكرُع

ترى مَيْعة الأطراب والطبـل هـادر

تفيض وفي أعصابهم تتميَّع

فقد كانت الأفراح تفتح بابهـا

لمن كان حول الطبل والطبـل يقرع

وقفت أجيل الطرف فيهم فراعني

هناك صبـيّ بينهم مترعرع

صبيّ صبيح الوجه أسمر شاحب

نحيف المباني أدعج العين أنزع

يَزيِن حجاجَيْه اتساع جبينه

وفي عينه بـرق الفَطانة يلمع

عليه دريس يَعضِر اليُتم رُدْنه

فيقطرُ فقر من حواشيه مُدقع

يُلـيح بـوجه للكآبـة فوقه

غُبار به هبـت من اليتم زَعزَع

على كثر قرع الطبـل تلقاه واجما

كأن لم يكن للطبـل ثَمةَ مَقرع

كأن هدير الطبـل يقرع سمعه

فلم يلـفِ رجعا للجواب فيرجع

يردّ ابتسام الواقفين بحسرة

تكاد لـهـا أحشاؤه تتقطع

ويرسل من عينيه نظرة مُجهـشٍ

وما هو بالباكي ولا العين تدمع

لـه رجفة تنتابـه وهـو واقف

على جانب والجوّ بالبـرد يلسع

يرى حوله الكاسين من حيث لم يجد

على البـرد من بـرد بـه يتلفّع

* شاعر الثورة العربية وتحية العيد

* وقبل أكثر من قرن وثلث القرن، ولد شاعر الثورة العربية فؤاد الخطيب، وعاش متنقلا في طول العالم العربي وعرضه، حيث كان تموج به أحداث سياسية في ظل الحكم العثماني، وقد أدى نشاط الشاعر السياسي الذي أطلق عليه الشاعر العربي الكبير إلى الحكم عليه بالإعدام، بعد أن بث قصائد يدعو فيها إلى ضرورة حصول العرب على حريتهم، وأن تتحدد شخصيتهم وألا يكونوا تبعا للأتراك، وتزامن ذلك مع قيام الملك عبد العزيز بتحقيق أول وحدة عربية، علما بأن الخطيب عمل رئيسا لتحرير جريدة القبلة التي كانت تصدر من الحجاز أمام 1916م، مستشارا للملك، ووزيرا مفوضا في أفغانستان التي بقي فيها سفيرا للسعودية حتى وفاته قبل 56 عاما.

وقبل سبعة عقود من اليوم، نظم شاعر النهضة العربية قصيدة يمدح ويهنئ مؤسس السعودية وبطل وحدتها الملك عبد العزيز وحلول جلوسه الميمون على العرش، وسماها «تحية العيد» وجاء فيها:

تحية تملأ الدنيا وتمجيد

ونغمة هي في الأفواه تغريد

فاليوم يجلس فوق العرش صاحبه

وللجزيرة تهليل وتحميد

تزاحمت حوله الأيام من حسد

وكل يوم تمنى أنه العيد

والسعد فرد، ولكن فيه مجتمع

فهو السعود ومن والاه مسعود

* المعتمد بن عباد: للعيد عذاب

* وغير بعيد عن ذلك، فإن بعض الرسائل التي يتم تداولها أيام العيد تحمل أبياتا للمعتمد بن عباد حاكم قرطبة قالها يوم العيد وهو في سجن «أغامات» في المغرب بعد أن اكتوى بنار نزاعات حكام الطوائف والصراع بين حكامها ليلقي زعيم الموحدين يوسف بن تاشفين القبض على ابن عباد ويودعه السجن، وفي أحد أعياد الفطر أوحى إليه (سجانه) بأن اليوم يوم عيد، وعليه أن يفطر وبشروه بزيارة بناته له اللاتي حضرن إلى أبيهم في زنزانته حافيات الأقدام وبلباس ممزق بعد أن كن ذات يوم يخضن في خليط من الكافور والزعفران والمسك على هيئة طين اقترحه والدهن الملك محققا رغبتهن في أن يخضن في الطين بعد مشاهدتهن بعض الجواري في القصر يخضن في طين طبيعي ويحملن القرب إلى داخل القصر، وقد نظفن أقدامهن من الطين.

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

وكان عيدك باللذات معمورا

وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ

فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً

في لبسهن رأيت الفقر مسطورا

معاشهن بعيد العزّ ممتهنٌ

يغزلن للناس لا يملكن قمطيرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة

عيونهن فعاد القلب موتورا

قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً

أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافيةً

تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا

قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت

كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره

وقبل كان بماء الورد مغمورا

لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ

وليس إلا مع الأنفاس ممطورا

أفطرت في العيد لا عادت إساءته

ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا

وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ

فعاد فطرك للأكباد تفطيرا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا

لما أمرت وكان الفعلُ مبرورا

وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ

فردّك الدهر منهيا ومأمورا

من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به

أو بات يهنأ باللذات مسرورا

ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت

فإنما بات في الأحلام مغرورا