سوق الفن الفرنسية تنتظر الضربة القاضية

بعد انحدار المداخيل وتراجعها إلى المرتبة الرابعة

TT

وكأنما لا يكفي سوق الفن الفرنسية خسارتها الفادحة والمتواصلة منذ عام 2007 بسبب القوانين الصارمة، فإن قانونا جديدا يتوقع إقراره قريبا سيفرض المزيد من الضرائب والقيود على المقتنين، وهم دينامو الحركة الفنية ومحركها. وعلى الأرجح، فإن الوضع الجديد سيدفع بأصحاب المقتنيات الفنية إلى الهرب خارج البلاد. ما الذي أوصل عاصمة النور والديجور باريس إلى هذا الدرك؟ ولماذا تفقد بريقها التاريخي؟ هنا تحقيق عن أفول باريس كأشهر سوق للفن؟

بعد سنوات المجد ومرتبة الريادة التي كانت تحتلها باريس في حقبة الستينات باعتبارها قبلة المُجمعين وهواة الفن الجميل وأنشط الأسواق الفنية، ها هي اليوم تفقد رونقها وبريقها بعد أن خسرت ريادتها وتراجعت منذ 2007 للمرتبة الرابعة بعد نيويورك ولندن وبكين. أما حصتها اليوم في سوق الفن، بحسب دراسة لمؤسسة «آرت برايس» المختصة بتقييم التحف الفنية، فقد تقلصت إلى نسبة 4.5 في المائة فقط بعد أن كانت عام 2010 تسعة في المائة مقابل 14 في المائة للصين و30 في المائة لبريطانيا، و32 لأميركا.

العوامل التي جعلت السوق الفرنسية تنحدر وأرباحها تتآكل سنة تلو الأخرى، متعلقة في معظمها بالقوانين التي تحكم نشاط هذا القطاع والإجراءات الإدارية المعقدة التي تعرقل نشاط المقتنين وتجار التحف الفنية. وهي قد تصبح أكثر صعوبة إذا دخلت مشاريع الحكومة اليسارية الجديدة القاضية بفرض ضرائب إضافية على عمليات شراء وبيع التحف - حيز التنفيذ، حتى إن البعض يتحدثون عن الضربة القاضية التي قد تشل نهائيا نشاط سوق الفن الفرنسية.

ضرائب جديدة على المقتنين

المقتنون الذين يضخون الحياة في سوق الفن بجمعهم لأعمال الفنانين وتمويل المشاريع والمظاهرات الثقافية المختلفة، قد يهجرون في المستقبل القريب مزادات ومعارض وغاليرهات فرنسا. هذا على الأقل ما صرح به الكثير منهم لحظة تلقيهم خبر مشروع القانون الجديد الذي ينوي نواب من اليسار تقديمه لفرض ضرائب جديدة على المقتنين الذين يمتلكون تحفا فنية باهظة الثمن.

معروف أن فرنسا من الدول القليلة التي ظلّت تفرض على تجار التحف ضريبة استيراد تصل لنسبة خمسة في المائة حين يفوق سعر القطعة الخمسة آلاف يورو، إضافة لضريبة الورثة التي تقضي باستفادة ورثة الفنان وذويه بنسبة على بيع التحف، تصل إلى أربعة في المائة على امتداد سبعين عاما. يقول إيمانويل دو شونياك، مدير مساعد في دار «كريستيز»: «إذا دخلت التعديلات الضريبية حيز التنفيذ، فهذا يعني أن كثيرا من الهواة سيمتنعون عن بيع التحف الفنية وسيحجمون بالأخص عن شرائها في فرنسا لأن ذلك سيكلفهم مصاريف جديدة، إضافة لاحتمال ارتفاع خطر تهريب التحف للخارج لتفادي دفع ضرائب باهظة. إنها كارثة كبيرة، فسوق الفن الفرنسية بغنى عن مثل هذه الإجراءات، لا سيما أنها في انحدار مستمر منذ سنوات».

أما يويو مايغت صاحبة غاليري «مايغت إدتور» وحفيدة المجمع الكبير إيمي مايغت، فقد عبرت فور تلقيها للخبر عن استغرابها: «هل سنعاقب لأننا فضلنا البقاء في فرنسا؟ الجميع كان ينصحنا بالسفر، لكننا لم نكن نأبه لهم، لا نعلم حتى اليوم تفاصيل هذا القانون الجديد ولا حتى كم سندفع وكيف سيتم احتساب قيمة الضريبة، وفقا لسعر شرائها أم بيعها؟»، وتضيف مايغت بالقول: «كل ما أعلمه هو أنني إذا أردت الاحتفاظ بلوحات جدي فعلي دفع ضرائب جديدة».

أما فريدريك ميتران وزير الثقافة السابق، فيقول: «سوق الفن الفرنسية ستنهار إذا تم التصويت على هذا المشروع. المتاحف ستفقد تسعين في المائة من مانحيها لأن أغلبهم هم من المجمعين الذين يعيرونها أو يهبونها قطعا من مجموعاتهم الخاصة. والأخطر هو جو الهلع والخوف الذي سيصيب المجمعين ويجعلهم يفرون من فرنسا إلى الخارج نهائيا».

الغاليريات تخسر أيضا..

الخاسر الآخر في هذه القصة هم أصحاب «الغاليريات» ودور البيع التي تعمل بتنسيق مع المجمعين باعتبارهم أهم زبائنها. علما أن سوق الفن الفرنسية تضم نحو 9000 غاليري و400 دار للبيع، كلها من الحجم المتوسط، لأن القانون الفرنسي يضم مادة في القانون الخاص بالتراث الثقافي تقضي بمنع أي شركة تنشط في مجال تجارة الفن من امتلاك أكثر من خمسة في المائة من الأسهم لتفادي خطر احتكار السوق. باستثناء دار «دروو» العريقة التي تمر هي الأخرى بأزمة حادة بعد فضيحة سرقات ارتكبها عاملون بالمزاد الفرنسي الشهير والتي هزت الثقة بسوق الفن الفرنسية. دور البيع هذه هي أصلا في وضعية صعبة بحسب تقرير نشرته اللجنة المهنية لأرباب الغاليريات الفنية (سي بي جي أ) في موقعها على الشبكة. التقرير يكشف أن معظمها يئن تحت وطأة الديون ويشتكي من ثقل الضرائب. وقد سجلت بين عام 2009 و2011 خسارة في أرباحها وصلت إلى نسبة 16 في المائة. وهي نسبة متوسطة بما أن خسائر بعضها قد وصلت لـ35 في المائة، مما اضطر بعضها إلى إيقاف نشاطه نهائيا، مثل غاليري «لوسيل كورتي» التي كانت تقع في شارع الماري في باريس وغاليري «غي بيترس» بشارع ماتنيون، وفضل صاحبها نقل نشاطه إلى الصين.

الطيب، الرديء والشرير..

يميز الباحث جان مارك كوسكيفيك، المختص باقتصاد الفن، بين ثلاثة أصناف من المقتنين، فيقول: «في عالم هواة التحف الفنية، قد تجد:

- (الطيب) الذي يمتاز بذوق فني رفيع، يشتري القطع عن دراية تامة بقيمتها، ولكن بشرط أن يعجب بأعمال فنان معين وهو لن يفرط في مجموعاته إلا ليهبها لمتحف أو مؤسسة خيرية.

- (الرديء) الذي لا يفهم في الفن شيئا، لكنه يشتري بشراهة دون تمييز بين قيمة الأعمال لكي يتباهي بتحفه ويعرضها في صالون بيته أو في مكتبه ويقال إنه ينتمي إلى وسط مثقف.

- و(الشرير) الذي لا يهتم بالفن والفنانين إلا من الناحية المادية فقط. وهو لا يقتني تحفة إلا بعد دراسة دقيقة، لأن ما يريده فقط هو إعادة بيعها بسرعة لتحقيق الأرباح. المشكلة أن لا أحد يقدر على التفريق بين هذه الأصناف الثلاثة إلا بعد فوات الأوان، لأن معايير سوق الفن الجديدة تفرض على الجميع السرعة في إتمام صفقات البيع والشراء».

أما سيبستيان لوفول الصحافي المختص بأسواق الفن في صحيفة «لوفيغارو»، فيكتب: «كل عام تعود إشكالية فرض ضرائب جديدة على عمليات اقتناء التحف للواجهة ويتم طرحها على نواب البرلمان، والسبب في هذا التحامل الشديد اللبس الكائن بين نشاط المقتني ونشاط التاجر والصورة المشوشة التي تسيء للمجمعين النزهاء. والواقع أن الفارق كبير بين الاثنين ولا مجال للمقارنة. فالأول (المجمع) هو هاو ذو حس فني مرهف، يشتري لأنه عاشق للفن، ومعجب بإبداع الفنانين، بينما الثاني مجرد رجل أعمال يجري وراء الربح المادي، وينوي الاستفادة من ظاهرة انفجار أسعار الأعمال الفنية والاستثمار في تجارة التحف كأي قطاع اقتصادي مربح».

المعروف أن ثلثي المجمعين الذين ينشطون في سوق الفن الفرنسية هم من رجال الأعمال ممثلين أحيانا بالبنوك والمصارف الكبيرة التي تقتني التحف كما تقتني حصصا من الأسهم. أما البقية، فهم يتوزعون بين مؤسسات الدولة التي تشتري لحساب المتاحف، والمعارض والبنايات الرسمية، إضافة لهواة ومهتمين بالفنون من مختلف الطبقات الاجتماعية والمهنية ممن يشترون لإغناء مجموعاتهم الشخصية.

مجمعون خدموا الفن والفنانين..

الاعتقاد السائد بأن الاهتمام باقتناء التحف هو بدافع البحث عن استثمار مضمون - ليس صحيحا دائما. صحيفة «لوفيغارو» نشرت في عدد 13 يوليو (تموز) الماضي حوارا خاصا مع إيفون لومبير وهو مجمع فرنسي وهب بلدة أفينيون مجموعته الخاصة المكونة من 450 لوحة فنية نادرة بقيمة مائة مليون يورو دون أي مقابل مادي، مشترطا عليها فقط أن تعرضها في متحف بوسط البلدة. حين سئل المجمع ما إذا كان نادما على هبته الكبيرة أجاب دون تردد: «لم أكن يوما أجمع اللوحات الفنية لأعيد بيعها، وكنت أعلم منذ البداية أني لن أتخلي عنها إلا لكي أمكن أشخاصا غيري من تقدير قيمة الفن الجميل».

نظرة سريعة على تاريخ المقتنين الكبار تكشف عن فضلهم في تنشيط الحياة الفنية والثقافية ومساندة الفنانين أحيانا على حساب مصالحهم الخاصة. بيغي غوغنهايم (1898 - 1979)، المقتنية الأميركية المشهورة كانت راعية لكثير من الفنانين واستطاعت تجميع أكثر من 5000 لوحة وألفي قطعة فنية مختلفة من الأروع في العالم، منها لوحات لبيكاسو وماغريت وشاغال وبراك على امتداد ستين عاما. ومعروف أن بيغي غوغنهايم كانت مقربة من عدة مبدعين كمارسال دوشان، وأندريه بروتون وصامويل بيكيت. وكانت لا تقتني عملا فنيا إلا إذا أعجبت به فعلا حتى وإن كان لفنان مغمور، حتى إنها لم تتردد في شراء أعمال بعض من كانوا يعانون الفاقة فقط لمساعدتهم ماديا. كما ساهمت في إنقاذ حياة فنانين كان النازيون يلاحقونهم في فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية.

بيغي غوغنهايم كانت تشجع أيضا الفنانين الشباب، وهي أول من فتح في لندن «غوغنهايم يونغ» وهو معرض خاص بفنانين شباب. حبها للفن جعلها تهب كل مجموعتها لمؤسسة «غوغنهايم» الخيرية التي تمثل عدة متاحف في العالم منها غوغنهايم بيلباو وأمستردام والبندقية.

التفاني في خدمة الفن نفسه نجده عند أكبر مجمعين فرنسيين، وهما: فرانسوا بينو وبرنار أرنو اللذان يحتلان مكانة مشرفة في قائمة العشرة مجمعين الأكثر أهمية في العالم. وبينما اختار فرانسوا بينو إدارة مجموعته الخاصة بالفن التشكيلي في مؤسسة خاصة بالبندقية «بلاسو غراسي»، يستعد مواطنه برنار أرنو الذي يمتلك أكبر مجموعة للفن التشكيلي في العالم لتدشين معرضه الخاص بضاحية بولون في باريس مع مطلع العام الجديد.