في تشابه الفاشية وعدواها

من هتلر إلى صدام حسين

غلاف الرواية
TT

آلاف العوائل من الفلاحين شُحنوا من المناطق الفقيرة للإقليم الإيطالي بينيتو عام 1928 باتجاه منطقة لاتينا الخالية من السكان والموبوءة بالملاريا، للعمل على حفر قناة موسوليني. الهدف النهائي للقناة هو تجفيف منطقة الأهوار تلك الممتدة بين جنوب روما وشمال نابولي، وتوطين العائلات الفقيرة تلك هناك. إحدى العائلات الفقيرة هذه، أو «الغيسبانديير» (كلمة مرادفة للصوص) كما أطلق عليهم سكان المناطق المتاخمة للأهوار، هي عائلة بيروزي: العم بيريكله، واحد من 13 أخا وأختا، و«أسد القبيلة»، العمة الفخورة أميدا، والصهر المغرور أديلجي، الجدان الريفيان الأصيلان وأحفادهما، موحدون جميعا بالكفاح ضد الفقر والبعوض وضنك الحياة. وهي الصدفة لا غير، التي قادت الجد للارتباط بالاشتراكيين في شبابه، بسبب اعتقاله عام 1904 مع الاشتراكي آنذاك روسوني الذي سيصبح رقم 2 بعد الاشتراكي أولا ثم الفاشي لاحقا الدوتشه بينيتو موسوليني، لأن الجد سيظل يتندر بتلك الواقعة، لبى نداء روسوني وهبّ لمساعدته لتخليصه من الشرطة، على الرغم من أنه كان مر صدفة بعربته المحملة بالنبيذ بالقرية الصغيرة كابارو لكن رؤيته للشاب والطالب هذا أدموندو روسوني الذي يعرفه من قرية فورمينيانا التي بيوتها لا تتعدى عدد أصابع اليد، لكنها قرية حمويه (والد ووالدة زوجته)، وهو يلقي خطابا ثوريا في الحشد الذي تجمع في ساحة المدينة جعلته يتوقف هناك حتى لحظة هجوم الشرطة. ومثلما قادت الصدفة الجد إلى تقاسم الزنزانة مع روسوني، فهي الحاجة لقضاء الوقت، كما يسميها الراوي، التي قادت العم بيريكله للانتماء لحركة «شعب إيطاليا» الفاشية التي قادها روسوني لاحقا في ميلانو، لأنه قبل كل شيء جندي فقير في ميلانو، «إلى أين كان عليه أن يذهب؟»، فبالتالي كان على الجنود أن يعيشوا مع بعض، دائما، «ومرة يذهبون للسينما، مرة أخرى للمبغى»، وعلى الرغم من الحسم الذي يحصلون عليه عند البغايا، كان الراتب ينتهي سريعا، إذن إلى أين يولون وجوههم؟ «ذهبوا إلى الفاشية» (ص 68). صحيح أن الأمر لا يخلو من الكوميديا السوداء، البورليسك، والكوميديا الإيطالية على دراية بذلك، إلا أن قدر عائلة بيروسي، كما يرويها أحد الأحفاد، تحركت دائما في المنطقة الفاصلة تلك بين الكوميديا والتراجيديا، مثلها مثل كل تلك العائلات الشبيهة التي تُسلم نفسها للقدر، كأن غريزة البقاء على الحياة وبأقل خسارة ممكنة هي التي تقودها، دون أن تدري أن النهاية التي تنتهي إليها مشابهة لنهايات التراجيديا الإغريقية، ذلك ما نعرفه من قصص عائلات في إيطاليا وفي أماكن أخرى من العالم، على الرغم من أن العائلة هذه وبكل ما عاشته أو سعت إليه، حاولت الإبقاء على كفة الميزان متوازنة، على الأقل، وهذا ما ظنته، أنها لن تسعى لامتلاك السلطة. السباحة مع التيار نعم، لكن السلطة؟ لا، «هكذا هو الأمر منذ بداية العالم، السلطة في النهاية هي غير نظيفة» (ص 100)، كما تقول الجدة، وتنسى أن التعاون أو الدفاع عن السلطة هو الأمر ذاته، غير نظيف، لأن الناس وهي تتقلب تفكر بنفسها وحسب، لا يهمها ما يحدث خارج أنانيتها، كما حدث في إيطاليا (وفي أماكن أخرى لا يختلف الأمر)، عندما كانت الأغلبية فاشية حتى 25 يوليو (تموز) 1943 يوم نهاية الفاشية، وفي اليوم الثاني تحولوا إلى مضادين للفاشية، أو كما في عام 1989 و1994 أولا الأغلبية إما شيوعيون أو ديمقراطيون مسيحيون، لكن بعدها كلهم برلسكونيون، أو أنصار لرابطة الشمال، «الرياح تنقلب يا صديقي، وإذا انقلبت يعني أنها العاصفة» (ص 98)، هكذا هي عائلة بيروسي، أولا كانوا اشتراكيين، لكنهم ما إن يروا صعود الدوتشه حتى يتحولوا إلى أتباع مخلصين له، لأن العائلة المستغلة من الإقطاعي غراف زورسي فيلا، كانت على يقين أن الفاشية وحدها التي تفتح أمامها أفاقا جديدة. كيف لا؟ فبعد أن أصبحت عليهم ديون للإقطاعي، بلا أرض تقريبا، وعدتهم الفاشية بتحويلهم إلى ملاكين صغار، بتمليكهم قطعة أرض من الأرض الموعودة، الجنة الموعودة لآلاف العوائل المستوطنة التي ستنشأ على الأراضي المجففة في مناطق الأهوار.

عائلة بيروسي التي هي نموذج لعائلات على نمطها، فاشيتهم خالية من الآيديولوجيا، لها علاقة بالمصالح وحسب، إنهم يرتبون حياتهم مع النظام الفاشي، على قاعدة «حرية وديمقراطية بهذا القدر من اللطف لم نكن عشناهما قبل ذلك»، ليس من الغريب إذن أنه لا عائلة بيروسي، التي هي أصلا عائلة ريفية بسيطة، ولا العائلات الأخرى التي رأت في الفاشية مستقبلا جديدا، خاصة الفلاحين الذين حصلوا على الأراضي، أو التجار الذين رأوا في الفاشية إعادة للنظام (خاصة تجار ميلانو، حيث وطئت الفاشية أقدامها أولا).. «أخيرا، هناك الفاشية هذه التي تجلب شيئا من النظام، لم يعد الأمر يُطاق مع كل فوضوية الحمر هذه، دائما إضرابات، دائما فوضى» (ص 68)، ليس من الغريب إذن أن هؤلاء لم يجدوا في جرائم الفاشية ما يثير التساؤل ذات يوم، «موسوليني على حق دائما»، تلك كانت هي الجملة السائدة، سواء عندما جفف موسوليني مناطق الأهوار تلك، كأنه أراد تجريب سلطته وقوته في بداية صعوده السياسي مع الطبيعة، على الرغم من أن تجفيف الأهوار ليس براءة اختراع خاصة به، مملكة إيطاليا حاولت دائما القيام بذلك، سهول كثيرة في جنوب ووسط إيطاليا ظلت مهجورة قرونا كثيرة بسبب هروب السكان للجبال، حماية لنفسها من غزوات البرابرة والساراسانيين (أجداد تيو ساراسين.. هلو تيو!!) ومن ثم بسبب الملاريا، لكن موسوليني الوحيد الذي سار في المشروع حتى نهايته؛ إحياء الأراضي البور وإنشاء قرى نموذجية عليها، أو عندما يلغي الديمقراطية ويعتقل البرلمانيين من معارضيه ويطاردهم، وإن استدعى الحال قتلهم، كما عند قتله ماتيوتي، أو في محاولته «خلق الإنسان الجديد، فلاح وجندي، في الخير والشر» (ص 154)، لذلك أحبّ موسوليني الريف وكره المدينة، أو في قيادة حملات عسكرية لاحتلال بلدان أخرى، على الرغم من أنه لا أحد يعرف لماذا فعل ذلك، ففي النهاية لم يحصل من تلك البلدان على غنيمة ما، لا في إثيوبيا التي لم يجدوا فيها «غراما واحدا من الحديد أو الفحم، ولا مادة خام أولية واحدة، ناهيك عن النفط»، النفط كان في ليبيا في كميات كبيرة، لكنهم «لم يستطيعوا العثور عليه» (ص 284). أيضا لم تكن هناك أراض لتوزيعها على الفلاحين الإيطاليين. لا ذهب، لا رصاص، لا حديد، بكلمة واحدة: لاشيء! حملة استعمارية لاحتلال إثيوبيا وليبيا ولاحقا ألبانيا واليونان عبثية. موسوليني قال: «نحن نجلب لهم المدنية»، جنود من أصول فلاحية جعلهم الفقر والفاقة يتطوعون بالآلاف للقتال هناك، ولا أحد تساءل ماذا نبحث هناك؟ «الدوتشه على حق»، حتى عندما بدأ يسير على خطى هتلر ويصفي اليهود، لم يعترض أحد. الوحيد الذي اعترض هو القائد الفاشي إيتالو بالبو مع زميله دي بونو، الذي خاطب الودتشه قائلا: «لكن ماذا فعل اليهود لكم؟ في إيطاليا هو أكثر فاشية من جميعنا» (ص 323)، وهو لم ينطق بجملته تلك من العدم، حتى لو أجابه موسوليني: «أنت لا تفهم في السياسة»، فهو وبصفته منظرا للحزب الفاشي ورقم 3 كان يعرف ما يقول، أمثلة كثيرة في ذهنه، من أين يبدأ: كاميلو براني الهنغاري الأصل لكن المولود في ميلانو، مهندس زراعي من الدرجة الأولى، لكنه أيضا عسكري جيد، شارك في كل حروب إيطاليا الاستعمارية، بصفته ضابطا في ليبيا وفي الفيوم، وكأحد أصحاب القمصان السود في الزحف الفاشي على روما، عمل في مشاريع موسوليني باستصلاح الأراضي في الريف، في ماكارسه وفي ساردينيا وأخيرا في قناة موسوليني.. «باختصار، إما كان الرجل في الحرب، أو كان منشغلا بتجفيف الأهوار»، «وطني أصلي، وبين حرب وأخرى ستندلع بعد حين عمل في الأراضي والري» (270)؛ أو المهندسان والمعماريان الذين أشرفوا على بناء «أبريليا» أول قرية - مدينة جديدة على قناة موسوليني - ووقفوا إلى جانب موسوليني في يوم الافتتاح (25 أبريل «نيسان» 1937)، كانوا يهودا، و100 في المائة فاشيون، مثل براني الذي على الرغم من جرحه عام 1936 غادر المستشفى ليعود إلى أسمرة ويقود فرقة «لوتوريا»، ويشرف على مجزرة كبيرة ضد السكان هناك؛ الأسماء تلك هي جزء عن مئات اليهود الذين لم ينقذهم إخلاصهم للفاشية، وانتهوا إلى معسكرات الاعتقال أو إلى الموت. أما السكان، فكان أقصى ما يقولونه كما قالوا عن «الوطني» براني: «هل رأيت براني؟ إنه لا يبدو يهوديا مثل بقية اليهود» (ص 270)، وفي حالة اليهود الآخرين، يعلقون: «وماذا يعنينا في الأمر، ففي النهاية نحن لسنا يهودا».

تلك هي الخلاصة. ماذا يقول المثل الإيطالي؟ «من قرر الاستسلام سلفا، ستجعله الآلة أعمى لا محال». هكذا هم الإيطاليون الذي سبحوا مع التيار، وهكذا كان الألمان، بل وهكذا كان العراقيون.

على فكرة: العراقيون. من يقرأ الرواية ووُلد في العراق، لن يجد التطابق هذا في تفكير هؤلاء الذين استسلموا مقدما، وجعلتهم الآلة يصابون بالعمى وحسب، بل سيجد أيضا التشابه في شخصية القائدين «التاريخيين»، سواء في سلوكهما أو في الألقاب التي حصلوا عليها من الناس، «الدوتشه على حق دائما»، و«صدام على حق دائما»، حتى عندما كان يخطئ في النحو، في اليوم الثاني يظهر أساتذة اللغة العربية، ويبينون كم هو صحيح ما قاله، وكم أخطأ القرآن في الإعراب! أو كيف أنها تمطر، لكن ما إن يظهر الدوتشه (أو ما إن يظهر صدام) حتى تشرق الشمس فجأة! أما الأمان، فلن يحصل عليه أحد مهما كان، الدوتشه مثلا، «اليوم يرفع أحدا في يديه، في اليوم الثاني يجد المرء نفسه في الوحل» (ص 18)، لا يهم سواء إذا كان رقم 2 كما الحال مع روسوني، أو رقم 3 كما فعل مع إيتالو بالبو، أو حتى إذا كان زوج ابنته، وإذا نجح أحد بالهروب منه، ولجأ إلى أميركا، كما فعل روسوني، فإن جيانو صهره قُتل رميا بالرصاص بأمر منه، مثلما انتهى الحال بصهر صدام زوج ابنته المحببة حلا ومعه جميع أخوته، أما تجفيف الأهوار، فيبدو أن موسوليني صنع منه مدرسة. صدام هو الآخر جفف الأهوار وأطلق على قناله «النهر الثالث» أو «قنال صدام». نهاية الاثنين أيضا متشابهة إلى حد ما. الدوتشه اعتقلوه بزي فلاح ثم شنقوه، صدام اعتقلوه في الحقل الذي رعى أغنامه فيه وهو طفل مختبئا في حفرة مثل فأر، قبل أن يشنقوه.