«الوسيط الأدبي».. مهنة المستقبل

أصحابها متهمون بأنهم «ثعالب» و«جراثيم» تبث السموم

TT

مهنة «الوسيط الأدبي» باتت معروفة في كل من أميركا وبريطانيا وكذلك ألمانيا وإسبانيا، لكنها أقل انتشارا في فرنسا، وغير موجودة بشكل واضح حتى هذه اللحظة في العالم العربي. لكن الخبراء رغم كل ما يقال عنها، يعتبرون أنها مهنة المستقبل التي لا غنى عنها، وهي التي ستواكب انتقال النشر من ورقي إلى إلكتروني لتحفظ حقوق الكتاب في ظل فوضى النشر وغياب التغطية القانونية.

بعد 6 سنوات من حرب قضائية شرسة توصل عملاق الشبكة الإلكترونية «غوغل» إلى إبرام اتفاق صلح مع دور النشر الفرنسية «غاليمار» و«فلاماريون» و«ألبا ميشال» لإطفاء نار الخلاف المشتعلة بينهما بخصوص حقوق النشر والملكية الفكرية. الناشرون الفرنسيون قبلوا أخيرا سحب دعواهم وتمكين «غوغل» من دخول السوق الفرنسية مقابل تعويضات وضمانات جديدة يقدمها محرك البحث الأميركي.

لكن القضية قد لا تنتهي عند هذا الحد، فالاتفاق الذي يجعل من فرنسا البلد الأوروبي الخامس الذي يفتح أسواقه للكتاب الرقمي بعد كل من بريطانيا، ألمانيا، إسبانيا، وإيطاليا، إيذانا ببداية عهد جديد للنشر الرقمي في هذا البلد قد يكون في نفس الوقت بداية النهاية لسنوات السلطة والمجد التي عاشتها دور النشر الورقية.

فساحة النشر العالمية تشهد تغيرات كبيرة مع ظهور الكتاب الرقمي الذي لا يحتاج لطبع ولا لورق ولا لتخزين أو توزيع التقليدي. هذه المعطيات الجديدة جعلت الكتاب يتساءلون هل ما زالوا بحاجة اليوم لدور نشر؟ لا سيما أنه من السهل جدا تعويضهم بوسطاء يعملون بعقود مرنة ولا يكلفونهم كثيرا.

في أميركا.. «أمازون» يغازل وكلاء الأدباء

النشر الرقمي في الولايات المتحدة أصبح واقعا ملموسا، ففي الوقت الذي لا يزال في خطواته الأولى بمعظم الدول الغربية، وصل في الولايات المتحدة لتحقيق نسبة 20 في المائة من سوق الكتاب و2 مليار دولار من الأرباح عام 2011 بحسب دراسة لمعهد «فورست ريشرش».

المعهد نفسه يتوقع أن يصل وزن سوق النشر الرقمية في الولايات المتحدة لـ12 مليار مع مطلع عام 2016.

والمعلوم أن اعتماد الكتاب في الولايات المتحدة على «وسطاء» لتمثيل مصالحهم والدفاع عن حقوقهم أمر شائع جدا، بل إن وجود الوسيط حتمي، حيث إن دور النشر لا تقبل عادة بكاتب إلا إذا كان ممثلا، ويعتقد أن عددا ممن يشتغلون بتوكيل رسمي يصل إلى 465 أما من لا يملكون توكيلا رسميا فيتعداه لـ1500 حتى إن الوسيطة الشهيرة «لين نيسبيت» التي تهتم بعدة أسماء معروفة مثل «بربارة برادفورد تايلور»، «دانيال ستيل» و«سيدني شيلدون»، صرحت على صفحات الـ«نيويورك تايمز» لوصف انتعاش هذه المهنة في بلادها بالتالي: «قد تجد في الولايات المتحدة من وسطاء الأدباء أكثر ما تجد من الأدباء».

هذه التطورات الأخيرة جعلت ساحة النشر الأميركية تسجل يوما بعد يوما احتدام المنافسة بين دور النشر الكبيرة وشركة «أمازون» التي تتربع على سوق نشر وتوزيع الكتب الورقية والإلكترونية في العالم.

اللافت في الأمر هو استعانة دور النشر الرقمية بـ«الوسطاء» في هذه الحرب، والاعتماد عليهم أكثر فأكثر لضرب خصومهم من ناشري الكتاب الورقي حتى أصبح لهؤلاء نفوذ كبير في ترجيح الميزان لصالح طرف دون الآخر. «أندرو ويلي» وسيط لكتاب معروفين مثل فيليب روث، مارتان أميس، وسلمان رشدي اختار معسكره، حين تحالف مؤخرا مع العملاق «أمازون» مفاوضا معه مباشرة وحصريا حقوق النشر الرقمي الخاصة ببعض موكليه وساحبا في نفس الوقت البساط من تحت أقدام «روندوم هاوس» التي تملك حقوق النشر الورقي.

السيناريو نفسه قد يتكرر حسب تصريحات جورج بورشارد، وهو فرنسي ينشط بوصفه وسيطا أدبيا في نيويورك منذ أكثر من 40 عاما: «صعب أن نتوقع لدور النشر التقليدية مستقبلا زاهرا في السنوات المقبلة حتى أعرقها كـ«روندوم هاوس» و«سيمون شوستر» و«هاربر كولينس» التي قد تنهار إذا استمرت على هذا الحال.. إصرارها على تجاهل الوضع الجديد بدل البحث عن حلول جديدة هي مواقف انتحارية، فهل تعتقد هذه الشركات أن الكتاب هم فعلا سذج لدرجة تجعلهم يقبلون المكوث معها بينما شركات النشر الرقمي تمنحهم أرباحا أكبر؟.

الوسيط المخضرم جورج بورشارد تحدث للصحافية الفرنسية التي حاورته لحساب مرصد الكتاب الفرنسي (موتيف) عن ظاهرة جديدة لاحظها منذ مدة وهي الزيارات المتكررة (على الأقل مرة في الشهر) التي يقوم بها مندوبو «أمازون» لمكاتب وكلاء الأدباء في محاولة لاستمالتهم للعمل لصالحهم. مندوبو أمازون يسمون أنفسهم بـ«كندل إفنجيليست» أو «مُبشرو كندل» - على اسم الجهاز الذي طورته أمازون لتخزين المضمون الرقمي للكتب - حتى إن الوسيط جورج بورشارد شبههم بأتباع «جيوفا» الذين يحاولون باعتماد الإلحاح الشديد نشر معتقداتهم الدينية، مضيفا أنه يتوقع أن تكون الخطوة المقبلة لأمازون هي إغراء كبار مسؤولي دور النشر وعقولها المدبرة برواتب كبيرة للاستفادة من خبرتهم وخاصة من علاقاتهم مع الكتاب المعروفين.

فرنسا البلد ذو «الوسيطين»

ما تشهده سوق الكتاب الأميركي لا ينطبق حاليا على فرنسا لأن النشر الرقمي لم يتطور بعد بما فيه الكفاية، حيث إن حصته في سوق النشر الفرنسية لا تتعدى نسبة 0.3 في المائة وكان قد حقق أقل من 12 مليون يورو كأرباح لعام 2011 بحسب معهد «جي إف كا» للإحصاء. ولكن أيضا لأن ساحة النشر لم تفتح أبوابها كثيرا لوسطاء الأدباء، حتى إن فرنسا باتت تعرف في أوساط النشر العالمية بـ«بلد الوسيطين» في إشارة لندرة الوسطاء حيث ظل الأمر مقتصرا لمدة طويلة على شخصيتين فقط هما فرانسوا سمويلسون وسوزانا ليا. عددهم اليوم لا يتعدى العشرين وسيطا لتمثيل نحو 250 إلى 300 كاتب وروائي فرنسي بحسب دراسة الناشرة المستقلة جولييت جوس لحساب مرصد الكتاب الفرنسي (موتيف)، على أن معظمهم يهتمون فقط بتمثيل مصالح الكتاب فيما يخص حقوق الترجمة والاقتباس السينمائي.

وجود ضعيف جدا إذا ما تمت مقارنته بـ692 وكيلا الذين يهتمون بمصالح الممثلين والمطربين وعارضي الأزياء المسجلين في فرنسا وأيضا إذا تمت مقارنته بما يوجد من وكلاء في الدول الغربية الأخرى: الولايات المتحدة (465)، بريطانيا (260)، ألمانيا (150) وإسبانيا (40).

اللافت هو أن أعضاء هذه المهنة لا يملكون هيئات تمثلهم وتدافع عن حقوقهم عكس وكلاء الفنانين مثلا، الذي يملكون نقابة خاصة بهم وهيئات مهنية وهم غالبا ما يطالبون بنسبة تتراوح ما بين 15 إلى 20 في المائة. تقول «جولييت جوس» ناشرة مستقلة أنجزت دراسة بعنوان «الوسيط الأدبي في فرنسا وقائع وآفاق» لشرح أن سبب تأخر الفرنسيين في هذا المجال هو دور النشر الفرنسية محافظة على تقليد قديم أشبه «بالزواج الناجح» بينها وبين الكُتاب وهو ما يجعلها تتصدى لتدخل أي طرف ثالث مهما كان. أضف إلى ذالك السمعة السيئة التي ظلت تلاحق وسطاء الأدباء في أوساط النشر. المحامي والكاتب «إيمانويل بييرا» يلخص هذه الفكرة بقوله: «إذا قال لك ناشر إنه يتعامل مع وسطاء الأدباء، فهذا يعنى أنه غير جدير بالثقة».

عدة مقالات في الصحافة تصفهم بـ«رجال الظلام» و«وسطاء الربا» وحتى «الثعالب» أو «الجراثيم» لا سيما أن دخولهم في حياة الكاتب غالبا ما يرتبط بتغيرات جديدة.

موجة من الانتقادات لاحقت الكاتب الفرنسي مارك ليفي بعد أن فاوضت وكيلته سوزانا ليا عام 2000 حقوق اقتباس إحدى رواياته مع ستيفن سبيلبرغ دون علم دار نشره في وقت تعتبر فيه الثقة بين الكاتب ودار نشره «شيء مقدس». أما دخول الوسيط الأميركي أندو ويلي حياة الكاتبة الفرنسية كريستين أنجو فقد ارتبط مباشرة بانفصالها عن دار نشر «فلاماريون» التي كانت تتعامل معها منذ سنوات وانتقالها لدار نشر «لوسُوي». وهو نفس ما حدث مع الكاتب ميشال ويلبك الذي ظفر بعقد مغر جدا بفضل نجاح جهود وسيطه فرنسوا سمويلسون في نقله من دار نشر «فلاماريون» إلى «فايار» عام.

المستقبل للوسطاء

أن يكون دور الوسطاء مهمشا على ساحة النشر الفرنسية لا يعني أن الأمورلا تتطور. فكثير من الناشرين وخاصة الشباب منهم أصبحوا أكثر قابلية للتعامل معهم. التغيير قضية وقت وعقلية جيل. تقول الوسيطة الفرنسية لور بيشي، التي لاحظت أنها حين تتعامل مع ناشرين متخرجين في مدارس كبرى أو معاهد التجارة فإن التواصل يكون سهلا وممتعا. وهي ظاهرة لا تقصي من هم أقدم في المهنة. فرانسيس إسمينار مدير دار نشر «ألبا ميشال» وقع مؤخرا عقدا مع الكاتب موريس جي دانتاك المُمثل بالوسيط ديفيد كرزون رغم ما هو معروف عنه من معارضته الشديدة لنظام الوسطاء.

سوزانا ليا، الوسيطة الأدبية المعروفة تصف هذا التطور بقولها: «ما ألاحظه هو أن الناشرين أصبحوا أكثر انفتاحا من ذي قبل، ردود أفعالهم لم تعد سلبية تجاهنا. طبعا لا يروقهم وجودنا لكن ينتهي بهم المطاف دائما إلى التعامل معنا».

رأي يؤيده الأميركيون أنفسهم حيث كتبت الناشرة أوليفيا سنايج على موقع مجلة «بوبلو شينغ برسباكتيفز» مقالا بعنوان: «فرانش ليتيراري أجونت، أكويت ريفولوشن» جاء فيه ما يلي: «إن كان دخول وسطاء الأدباء ساحة النشر صعبا في فرنسا، إلا أن ما نلحظه اليوم هو أن الذهنيات قد تغيرت، حيث أصبحنا نسمع أكثر وأكثر عن شخصيات تعمل بنشاط في هذا المجال ونلمس نتائج هذا العمل على أرض الواقع».

لكن التغيير الحقيقي ظهر مع النشر الرقمي، حيث إن الوضعية الجديدة خلقت فراغا قانونيا سيكون عاملا مهما في تشجيع نشاط الوسطاء وهو ما يشرحه الوسيط الأدبي بيار أستيي صاحب مكتب «أستيي وشركاه»: «دخول الوسطاء ساحة النشر سيكون أكثر قوة مع تعميم الكتاب الرقمي ببساطة لأنه نشاط يعاني من فراغ قانوني. فالقانون ما زال عاجزا، إلى اليوم عن إعطاء إجابات واضحة، وما يحدث هو أن كل طرف متمسك بمطالبه: الكتاب مصرون على فصل الحقوق الرقمية عن حقوق النشر الورقي لا سيما أن النشر الرقمي له ميزاته وخصائصه، وبالتالي حسابات وتعويضات مختلفة، والناشرون يعتبرون النشر من اختصاصهم سواء كان ورقيا أم رقميا وهم أصحاب القرار في هذا الموضوع، هنا يضيف الوسيط الفرنسي: «تبدأ مهمتنا التي ستعتمد على الحوار والتفاوض والشرح. وهذا هو عمل الوسيط. علينا التدخل بين الطرفين حتى نصل لحل يرضي جميع الأطراف. وهو التحدي الذي ينتظرنا في الأيام المقبلة». أما فرانسوا سمويلسون الذي يهتم بكتاب كميشال ويلبك، وطاهر بن جلون فهو يستغرب على صفحات أسبوعية «لوبوان» كيف أن الناشرين يطبقون نفس نسب حقوق النشر الورقي على النشر الرقمي، خاصة أنه لا يوجد لا طبع ولا تخزين ولا توزيع.

أما «أنا جاغوتا» مندوبة عدة دور نشر أميركية في باريس ووكيلة الكاتب دافيد كاموو فتقول: « كثير من الناشرين استغلوا سذاجة الكتاب لحملهم على توقيع عقود لا يفهمون بنودها - تضيف الوسيطة - معظمهم تنازلوا عن حقوقهم الرقمية وهم لا يعلمون كيف سيستغلها الناشر وكم سيجني من ورائها من أرباح».

سيناريو المستقبل قد يكون في رؤية الوسيط الأميركي ناتان براسفورد بين 3 خيارات: «فإما أن يتعامل كتاب المستقبل مع ناشر يهتم بكل شيء لكنه يشاطرهم ثمرة إبداعهم، أو أن يهتموا هم بكل شيء وهو ما قد يمثل مضيعة وقت كبيرة، أو أن يختاروا التعامل مع وسيط يفاوض بالنيابة عنهم مع الموزعين الرقميين ويهتم ببيع الحقوق حين يستلزم الأمر مع الاحتفاظ بأرباحهم وحريتهم››.

مراقبون لتطورات المشهد يتوقعون أن تكون المنافسة شرسة بين دور النشر التقليدية وعمالقة الشبكة كـ«غوغل»، و«آبل» و«أمازون» الذين يدخلون مجال النشر الرقمي بخطى ثابتة قوية. وفي المقابل فإن آفاقا جديدة قد تطل على وسطاء الأدباء، الذين يمنحون الكتاب ميزات متعددة مثل المرونة في التعامل والتكاليف القليلة، وسواء تعلق الأمر بفرنسا أو بالولايات المتحدة، فإن مستقبل الكتاب في العالم يعدنا بتحديات كبيرة.