سامي مكارم.. رحل عن 20 كتابا وكنز من الأبحاث بعضها قيد الإعداد

فنان بالسليقة والوراثة دخل كوكبة كبار الباحثين العالميين في التصوف والفرق الإسلامية

سامي مكارم و إحدى لوحاته
TT

فجأة بلا سابق إنذار غادر سامي مكارم محبيه ومقدريه الكثيرين.

المفكر والأكاديمي، الشاعر والفنان والخطاط، كان نقطة الدائرة في دائرة مَن عرفوه ومعظمهم إن لم يكن كلهم أحبوه، وأعجبوا بغنى روحه، ومدى عطائه.

مارس التدريس الجامعي فكان أستاذا مرموقا ومحبوبا لعقود، وعشية غيابه تسابق طلابه السابقون، ولا سيما أولئك الذين زاملوه لاحقا، على ذكر مناقبه التي كانوا شاهدين عليها في مرحلتي التعلم والتعليم. وتمرس في الأبحاث والتحقيق، فما كل ولا مل ولا توانى حتى آخر يوم من حياته. بل قبل ساعات معدودات من يوم وفاته قدم محاضرة، وكان منهمكا في العمل على 3 أبحاث تراثية فلسفية قيمة.

وتشرب الفن بالوراثة، ولا سيما من أبيه نابغة الخط العربي الشيخ نسيب مكارم، وصقل موهبته الفنية ونمّى ذائقته في مجالات الرسم والخط والتشكيل، وواءمها مع الشعر الذي قرضه وأشغف به، فأنتج لوحات تشكيلية رائعة زينت بعض أرقى صالونات لبنان والعالم. ثم أثمر شعوره العميق بقيم الجمال والتراث والأصالة، فاشترى قصرا قديما يعود إلى القرن الـ17 لمشايخ آل تلحوق في مسقط رأسه بلدة عيتات، فحوله شاهدا حيا على الأصالة التراثية المتمردة على الاندثار.

غيابه إثر مرض مفاجئ وقصير لم يطل أكثر من يومين نبه كثيرين إلى أنه تجاوز حقا حاجز الثمانين. فسامي مكارم، بديناميكيته وابتسامته وروحه المرحة وشبكة علاقاته الاجتماعية الواسعة، ما كان يبدو البتة أنه تجاوز مرحلة الكهولة. وهو أصلا كان لا يزال يمارس التدريس الجامعي كأستاذ غير متفرغ بعد تقاعده رسميا.

نشأته: ولد سامي نسيب مكارم في بلدة عيتات يوم 14 أبريل (نيسان) من عام 1931، في أسرة من الموحدين الدروز أصلها من بلدة رأس المتن، الرابضة فوق جبال صنوبرية مطلة على بيروت، غادرها الفرع الذي ينتمي إليه سامي ليستقر في عيتات، بقضاء عالية.

وكان أبوه الشيخ «أبو سعيد» نسيب مكارم، شيخا فاضلا اشتهر بين ألمع خطاطي المشرق العربي، له في مجال الخط إعجازات فذة وروائع فنية في مختلف أنواع الخط العربي. أما أمه فهي وسيلة سليمان فرج، من بلدة عبيه (أيضا في قضاء عالية) التي تتحدر من أسرة عرف عدد من أعلامها بالتقى والورع، وعرفت عنها إتقانها الفن اليدوي في مجال التطريز الدقيق.

تلقى سامي مكارم علومه الأولى في مدرسه الليسيه الفرنسية في بيروت ومدرسة سوق الغرب، في بلدة سوق الغرب «جارة» عيتات، حيث أنهى دراسته الثانوية. ومن ثم، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت حيث حاز على درجة بكالوريوس في الآداب والفلسفة عام 1954، وأعقبها بدرجة الماجستير في الآداب عام 1957. وعلى الأثر، سافر عام 1958 إلى الولايات المتحدة حيث حاز من جامعة ميشيغان (آن آربر) عام 1963 درجة الدكتوراه في الفلسفة متخصصا بدراسات الشرق الأوسط والفلسفة الإسلامية وبالذات الحركات والمذاهب الباطنية.

لدى عودته إلى لبنان مارس التدريس لمدة سنة في الجامعة اللبنانية، ثم انضم عام 1964 إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت التي ارتبط بها حتى وفاته. وطوال هذه الحقبة الطويلة شغل رئاسة دائرة الأدب العربي ولغات الشرق الأوسط وتدرج في رتبها التعليمية حتى بلغ رتبة أستاذ كامل (بروفسور)، كما تولى منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة بين عامي 1975 و1978، يضاف إلى ذلك العمل كأستاذ غير متفرع في برنامج الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية بين عامي 1977 و1981.

غير أن التدريس الأكاديمي، كان جانبا من شخصية سامي مكارم وسيرة حياته. إذ استطاع أن يجمع إلى نشاطه الأكاديمي عملا دؤوبا في مضمار البحث العلمي والفلسفي، وطالما وصفه عارفوه ومتابعو منجزاته في مضمار الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي بأنه رجل عاش تصوفه في حياته العملية.

إذ وصفه البروفسور رمزي بعلبكي، الرئيس السابق لدائرة اللغة والآداب العربية في الجامعة الأميركية في بيروت بقوله: «لم يكن البروفسور مكارم مرجعية أكاديمية في التصوف فحسب، بل كان ممارسا له من خلال علاقته مع زملائه وطلابه.. كان يعامل زملاءه ومريديه بدفء نادر، وكان دوما مستعدا لمد يد العون وتقديم النصيحة».

وكذلك وصفه البروفسور بلال الأورفلي، رئيس الدائرة العربية بالوكالة في الجامعة حاليا، وكان من تلامذته السابقين، حيث قال: «أرشدني البروفسور مكارم إلى الطريق الروحي والتصوف، عبر صفوفه وشخصيته القدوة. كان سامي مكارم يتحلى بسلام داخلي وكان يمتلك القدرة على نقل هذا السلام إلى من هم حوله».

مؤلفاته ونشاطاته: وبالفعل ألف سامي مكارم عددا من الكتب الفلسفية والعلمية والفنية بلغت العشرين، إلى جانب الكثير من المقالات البحثية التخصصية، بينها «مسلك التوحيد» و«الحلاج فيما وراء المعنى والخط واللون»، وكان آخرها «العرفان في مسلك التوحيد». كذلك نشر ثلاثة دواوين شعرية هي: «مرآة على جبل قاف (1996)» و«ضوء في مدينة الضباب (1999)» و«قصائد حب على شاطئ مرآة (2004)». كما ترك، كفنان تشكيلي متميز، مئات الأعمال الفنية التشكيلية.

ومن شعره، قوله:

ألا يا طيور الأيكِ رفقا بطائرٍ‏ يطير إلى سربٍ ويرنو إلى سربِ‏

تبرحه الأشواقُ في سورة الجوى‏ وتنهبه الأشواق نهبا على نهبِ‏

يُغني ولا طير يعادله غِنا‏.. ويبكي على بُعدٍ ويبكي على قُرب‏

يروح إلى غصنٍ فيقتله الهوى‏ ويغدو إلى غصنٍ.. فيقضي من الحب‏

وعلى صعيد آخر، كان مكارم أحد مؤسسي رابطة العمل الاجتماعي (رابطة الجامعيين الدروز) في عقد الخمسينات من القرن الماضي، كما كان كبير باحثي مؤسسة التراث الدرزي، وأحد أبرز شخصيات عدد من المؤسسات الدرزية. غير أنه آمن بعمق بالحوار بين الحضارات والأديان والمذاهب الإسلامية ونشط أيضا في هذا المجال، فجاءت مشاركته في تأسيس المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم وعضويته في هيئتها التنفيذية، وعمله لصالح جمعيات ومبرات، منها جمعية التعاضد المكارمي وجمعية واحد العطاء الخيرية.

وبالتالي، تقديرا لجهوده ومنجزاته حاز عددا من أوسمة وشهادات التقدير بينها: مفتاح مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية ولقب «مواطن شرف» فيها لإنجازاته العلمية والفكرية، و«وسام المؤرخ العربي» من اتحاد المؤرخين العرب، و«درع الحركة الثقافية في انطلياس» (لبنان)، و«درع رابطة العمل الاجتماعي» في بيروت (لبنان)، و«درع وزارة الثقافة اللبنانية» (لبنان)، جائزة نادي ليونز قدموس (لبنان).

تزوج مكارم مرتين، فكانت زوجته الأولى جوليا بوغانم ومنها أنجب ابنيه نسيب وسمير، وابنتيه سحر ورند. وزوجته الثانية ليلى مكارم. أما شقيقه الوحيد فكان الشيخ سعيد مكارم، الذي رحل قبله.