مثقفون مصريون يعلنون الثورة

في مواجهة سلطة التيارات الدينية المتصاعدة

TT

الحكم ببراءة الفنان عادل إمام من تهمة «ازدراء الأديان»، وكذلك المواقف المساندة للفنانة إلهام شاهين، بعد الهجوم القاسي الذي تعرضت له، زاد المثقفين والفنانين المصريين ثقة في أنهم أقوى من أي تيار يحد من حريتهم. «لا خوف على مصر.. الفن سينتصر» يردد الأدباء. أكثر من ذلك، يرى البعض أن التيارات الإسلامية باتت أمام خيارين؛ إما أن تعيد حساباتها في رؤيتها للحرية أو تخسر الساحة. تحقيق يلقي الضوء على ما يدور في الوسط الأدبي.

سلسلة لا تنتهي من المخاوف والشكوك باتت تهدد حرية الإبداع وتضعها على المحك، خاصة بعد صعود التيارات الإسلامية، وهيمنتها على دوائر مهمة لمقاليد السلطة وصناعة القرار، كالرئاسة في مصر، والبرلمان قبل أن يتم حله. زاد من هذه المخاوف تصريحات ووقائع صدرت عن كوادر وقيادات بهذه التيارات تناهض حرية الإبداع، وكان من أبرزها الحكم بحبس الممثل المصري عادل إمام بتهمة ازدراء الأديان عن أدواره في بعض أفلامه قبل تبرئته، والحديث عن أن الآثار الفرعونية هي محض أصنام، الأمر الذي جعل مبدعين ومثقفين ينظمون وقفة احتجاجية حاشدة في ميدان طلعت حرب بوسط العاصمة القاهرة، رفعوا خلالها شعارات منددة بمحاولة التيار الإسلامي السياسي تقويض حرية التعبير.

«الشرق الأوسط» استطلعت في هذا التحقيق آراء مجموعة من المثقفين المصريين عن رؤيتهم لحرية الإبداع، بعد أن دخل الفن في قفص رقابة إسلامية متشددة، تسعى إلى «تديين» المجتمع، ووضع مقاييس وأطر خاصة له.

يشير الناقد الأدبي د. حسام عقل، عضو مؤسس لتيار هوية الثقافي إلى أنه، بعد الثورة، حدث استقطاب وتشرذم بين كل طوائف الشعب المصري، الكل في خندقه؛ إسلاميون، ليبراليون، اشتراكيون، وغيرهم. ثم بدأت حالة من التراشق. ويقول عقل: «في ظل التخوف من هذا المناخ، وانطلاقا من الرغبة في جمع الأطياف تحت مظلة واحدة، تأسس تيار هوية بمشاركة 400 مثقف، للتأكيد على ضرورة إدارة حوار مجتمعي حول الفنون والآداب، تشارك فيه شخصيات إسلامية».

يؤكد عقل أن القضية التي أثيرت حول التماثيل والآثار والجدل حول حرمانيتها، ساهم تيار هوية في تهدئته من خلال الحوار، الذي كان من نتيجته أن الشيخ محمد حسان (أحد رموز الحركة السلفية في مصر) أصدر فتوى مفادها أن التماثيل والآثار تراث حضاري ينبغي الحفاظ عليه. وتم توزيع تلك الفتوى على وسائل الإعلام المختلفة. وقد أدار تيار هوية هذا الحوار بعيدا عن الأضواء الإعلامية.

وعن دور تيار هوية، يقول عقل: «لتيار هوية شقان؛ الأول أدبي ويتضمن ندوات ولقاءات وورش عمل متعلقة بالعمل الإبداعي، ولنا صفحة على (فيس بوك) تعبر عن أنشطتنا، أما الشق الثاني فهو الشق الوطني. فتيار هوية مثلا قدم دستورا كاملا للبرلمان المصري (مجلس الشعب)، كذلك نهتم بموضوع الوحدة الوطنية، قدمنا أمسية عن الأنبا شنودة كشاعر، وناقشنا على هامش الأمسية كتابين للشاعرة مريم فهمي، وهما: (من سرق الثورة؟) و(مصر إلى أين؟)».

ويرد عقل على ما قيل حول أن تيار هوية تابع للإخوان المسلمين قائلا: «حدث هذا الخلط لمجرد أن اثنين من المؤسسين عضوان في حزب الحرية والعدالة (د.محمود خليل ود.خالد فهمي). والحقيقة كما أشرت أنه تيار يجمع كل الأطياف ولا يستبعد الإسلاميين لأن استبعادهم خطأ كبير، فنحن نحتاج إلى الاصطفاف لمصلحة الإبداع. وقد كنا أول من اعترض على ما قاله عبد المنعم الشحات (أحد رموز التيار السلفي في الإسكندرية ونائب برلماني) عن نجيب محفوظ من أن أدبه يشجع على الرذيلة».

ويوضح د. عماد عبد اللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة أنه حتى الآن لا يوجد تغيير في الرقابة على الإبداع، ولا أظن أن هذا التغيير سيحدث، لأن المشروع الإسلامي في مصر في أفول أو ذوبان، والذوبان هنا بمعنى أنه سيبحث عن صيغة للتصالح. وحول الرقابة على الأدب، يقول عبد اللطيف: «كثير من الأدباء كانوا يمارسون الرقابة الذاتية، ولكنها رقابة بالمعنى السيئ. فقد كانت رقابة سياسية وتملقا للحاكم، أو على الأقل الصمت عن تجاوزات النظام التي بلغت حد القهر».

ولا يخشى عبد اللطيف على حرية الإبداع من أي قوى سياسية، لافتا إلى أن القوى المدنية في مصر ليست ضعيفة، لأنها مدعومة بأغلبية الشعب المصري. وأي تعد على حرية الإبداع ستتم مجابهته بالرفض التام، والمظاهرات.

ومن جهته، يؤكد الناقد الأدبي د.حسين حمودة الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة أن لديه أملا كبيرا في أن يهتم أصحاب الاتجاهات الإسلامية بالأدب والإبداع بوجه عام، ويقول حمودة: «لا بد أن يعلم كل من يتعامل مع عمل أدبي أنه يتعامل وفق قواعد ومعايير خاصة به، فيجب أن يقرأ كعمل أدبي وليس كتابا عاديا. فقد تنطق شخصية ما في رواية ما بعبارة غير أخلاقية، أو يمكن أن تسلك سلوكا غير أخلاقي، ولكن هذا لا يعنى أن هذه الرواية تمجد الخروج على الأخلاق، ومن ثم لا يجب أن نقرأ النصوص الأدبية على طريقة (لا تقربوا الصلاة)، وإنما يجب أن نفهمها في سياقها».

يشير حمودة إلى أن مصادرة أي رواية تجعلها أكثر شهرة. ويقول: «على ضيقي الأفق أن يشجعوا حرية الإبداع. فقد علمنا تاريخ الإبداع الإنساني كله في كل المجتمعات أن الإبداع دائما ما ينتصر».

ويشير د. صلاح الراوي إلى مصطلح «الفشل البنيوي» في وصفه لفكرة بعض الإسلاميين عن الكتابة. يقول الراوي: «الكتابة وفق (مازورة) ضد الطبيعة البشرية، وأنا أعتبر من يكتب وفق (مسطرة) يضعها بشر يعاني مرضا نفسيا، وهو معرض للمرض العقلي! ويغيب عن هؤلاء أن الشعراء في صدر الإسلام لم يكونوا مبدعين وفق (مقياس) محدد، وإلا لقدموا لنا قصائد لا علاقة لها بالفن، وإنما أشبه بالألفيات النحوية. الإبداع يساوي الحرية، والحرية تساوي الإنسان، فلا يمكن أن نبدع داخل حظيرة من القواعد التي يضعها بشر مثلنا».

ويقول الروائي والقاص صلاح معاطي: «لا يمكن أن يكون هناك إبداع في ظل وجود رقابة. فإذا افترضنا أن العبادة فيها جانب إبداعي فلا يمكن أن تتم بسلاسة وهناك من يفرض عليك القيام بواجباتها وكيفية أدائها بشكل تسلطي. فما بالك بالإبداع الذي يتحرر فيه العقل والفكر من القيود؟! لقد عانى الإبداع عندنا عشرات السنين من تسلط الأجهزة الرقابية. وفي الغالب تكون أجهزة جامدة لا يمكن أن نصنع إبداعا في وجودها، وصار من يكتب يضع في اعتباره مقصات الرقباء وليس رقيبا واحدا. فهنا الرقيب السياسي الذي يجبرك على عدم الخوض في السياسة أو إدانة الحاكم بأي شيء، ومقص الدين الذي لا يسمح لك بالدخول في مناطق محل جدل وخلاف، ومقص الأخلاق الذي يضيق عليك كلما اقتربت من الجنس مثلا أو القيم. وكل هذه المواضيع التي ذكرتها يجب معالجتها من دون هذه المقصات الرقابية الذاتية، وإلا سيخرج العمل الأدبي قريبا من النصوص الوعظية أو بمثابة ميثاق عمل أو شهادة أن الكاتب حسن السير والسلوك والفكر. لذلك يجب أن تتاح للمبدع كل الوسائل ليتحرر إبداعه من هذه القيود ويكون رقيبه الأول والأخير هو المتلقي الذي سينسجم مع أفكاره أو يعترض عليها. والمتلقي بدوره يحتاج إلى مساحة من الحرية ليتمكن من الحكم على الأشياء بطريقة صحيحة».

ويرى معاطي أنه لو تم تشكيل لجان رقابية يفرزها إسلاميون.. «فقل على الفكر والإبداع السلام. وسيكون هناك نوعان من المثقفين؛ نوع يسير مع التيار تتجه كتاباته إلى المثاليات والطوباويات حتى إذا تناول شخصية ما، وفي الغالب ستكون إسلامية، سيتم التعامل معها على أنها شخصية تقترب من الملائكة وليست من بني البشر. النوع الثاني ضد التيار، وهؤلاء هم المبدعون الحقيقيون، لأن المبدع الحقيقي لا يكتب لهدف ما ولا يخشى مقص رقيب وغضب حسيب. وهؤلاء أيضا ستتم ملاحقتهم واتهامهم بالإلحاد والزندقة. وهذا هو الخطر الحقيقي».

ورغم كل هذا يقول معاطي: «أنا لا أخشى من صعود أحد، ولكن ما أخشاه تلك العقول المتصلبة المقيدة التي تحرم الحلال وتحلل الحرام. وأرى في حالة صعود الإسلاميين، وقد صعدوا بالفعل، خصوصا في البرلمان، أن أمامهم فرصة ذهبية لإثبات أنهم عقول مستنيرة تتقبل الفكر ولا تقيد الإبداع. فإذا فعلوا غير ذلك واهتموا بالصغائر وبالشكل فقط دون المضمون فسوف يفقدون ثقة الناس فيهم إلى الأبد. ومع ذلك أدعو كل كاتب لأن يكون رقيبا على نفسه وإلا فلن يقرأ له أحد. لا ينبغي مثلا التعدي على الذات الإلهية أو تناول الجنس للإثارة فقط. ليس من جانب رقابي وإنما من الناحية الفنية».

يتفق مع معاطي الشاعر شعبان يوسف رئيس تحرير سلسلة «كتابات جديدة» بالهيئة العامة المصرية للكتاب؛ فهو ليس خائفا على الإبداع من صعود الإسلاميين، ويرى أن مقاومة المبدعين للرقابة ستزداد شراسة، ويقول يوسف: «أتخوف على المتلقي أو قارئ النص، الذي يمكن أن يتعامل مع العمل الأدبي على أنه نص ممنوع وليس إبداعا. الأمر الذي يعوق قراءة النص وفهمه في إطاره الحقيقي، فما زال نص مثل (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ أو (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر يتم التعامل معه كنص ممنوع. قد يحب بعض المبدعين أن يتم التعامل مع نصهم على هذا المستوى، لأن هذا جالب للشهرة، ولكن تبقى مشكلة الالتباس الذي يحدث بين القارئ والنص». ويرفض يوسف تماما فكرة الكتابة وفق معايير رقابية تحد من حرية المبدع.

ومن جهته، يتخوف الروائي عبد الوهاب الأسواني من صعود الإسلاميين، الأمر الذي يرى أنه يؤثر على حرية الإبداع. يقول الأسواني: «هؤلاء يشغلوننا بأشياء لا صلة لها بالقضايا الأصلية، وسوف يفسرون ويؤولون القصة والرواية والمسرح والفن التشكيلي بأشياء ربما لا يقصدها المبدع. الأمر الذي يضيق على المبدع»، يضيف الأسواني: «من المفترض أن الفنان أكثر اطلاعا من غيره، وقد رزقه الله الموهبة. فكيف يحكم عليه من هو أقل منه علما؟! وكذلك هناك أساليب في الكتابة. فمثلا الكتابة بضمير الغائب أحد الأساليب، والكاتب يعرض الأمور من وجهة نظر شخصيات الرواية، وفهمها للأمور ونظرتها للكون من حولها، فالكاتب لا يعرف غير ما تعرفه الشخصيات».

يؤكد الأسواني أن للفن أدواته، لذلك حينما يتم رفع دعوى قضائية ضد المبدعين، فإن القاضي المحترم يحيل القضية لناقد أدبي باعتباره من أهل الاختصاص. وهو ما حدث مع كثير من الأعمال الإبداعية، لعل أشهرها قضية «ألف ليلة وليلة»، التي حكم فيها القاضي بالبراءة على عمل تراثي!

وفي السياق نفسه، يتوجس الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة من سيطرة التيارات الإسلامية المتعصبة على الساحة الثقافية، معتبرا أنهم منغلقون، ولا يمكن التحاور معهم، لأنهم يرفضون الحوار. يقول أبو سنة: «قرأت تصريحات لبعض هؤلاء تثير الفزع ومحاولات رفع دعاوى قضائية ضد مبدعين وأدباء، وهذا من شأنه تدمير الحركة الثقافية ويدفعها للتراجع والصمت والسلبية بل العبثية، ولكنني مؤمن بأن الوسطية المصرية والحالة الحضارية وشخصية مصر سوف تتغلب على التيارات المتشددة وستقوم نهضة أساسها العلم والفكر وإعادة قراءة التاريخ».

يضيف أبو سنة: «حرية الإبداع تعنى حرية اختيار الشكل الفني والرأي، وصوت الضمير هو تلك الحرية التي أقدسها، لأني أرى أن مصائب الوطن العربي نابعة من غياب الحرية، وأنا أرى أن مهما جلبت علينا الحرية من مشكلات، فهي أفضل مائة مرة من القهر والظلم».

ويقول الكاتب المسرحي أبو العلا السلاموني: «يتعلق الإبداع بالحرية والمسؤولية، وهذا يرجع لضمير الكاتب باعتباره ضمير المجتمع. فالإبداع الحقيقي يتناول قضايا وينتقد أوضاعا لأنه معني بالإصلاح والتطوير».

يضيف السلاموني: «من يتحدثون عن المرجعية الإسلامية لا يفرقون بين الإسلام كدين، وهو أصل لا خلاف عليه، والفقه وهو في جزء كبير منه اجتهادات بشر، وبالتالي فهم ينظرون إلى المجتهدين القدماء ويغلقون باب الاجتهاد في وجه المجتهدين الجدد. تقدمت الحضارة الإسلامية حينما نظرت إلى الأمام وهو ما يأمرنا به الإسلام».

يشيد السلاموني بالقاضي المستنير (على حد تعبيره) الذي حكم ببراءة الممثل المصري عادل إمام، وبعبارة بليغة قالها في حيثيات الحكم بالبراءة أنه «لا عقاب على خيال». ويقول السلاموني: «لا أخاف على الإبداع لأنه طبيعة بشرية، فهو قادر على مقاومة القهر والظلم والانتصار. أنا مع كل تيار تقدمي مهما كان توجهه».