رواية «مظلة»: لندن إدوارد السابع ومستشفيات العصر العقلية

إعلان القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر البريطانية

غلاف الرواية «مظلة»المؤلف: ويل سيلفالناشر: دار بلومزبيري، 2012Umbrella، Will Self، Bloomsbury Publishing PLC، 2012
TT

أعلنت في العاصمة البريطانية يوم الثلاثاء الماضي القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر البريطانية، وضمت القائمة 6 روايات، روايتين منها لكاتبين معروفين هما ويل سيلف وهيلاري مانتل، التي سبق لها الفوز بهذه الجائزة. أما الروايات الأخرى فهي لكتاب غير معروفين نسبيا، اضطروا لطباعة أعمالهم في دور نشر صغيرة، بعدما رفضتهم دور النشر المعروفة. ومع ذلك، وصف رئيس لجنة الحكام، بيتر ستوثارد، هذه القائمة بأنها الأقوى منذ 10 سنوات. ويتوقع قسم من النقاد أن تنحصر المنافسة بين سيلف ومانتل للفوز بهذه الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه إسترليني، لكن ذات القيمة المعنوية الكبيرة. هنا قراءة في رواية سيلف «مظلة»:

إنه الصبي الشقي في عالم الأدب البريطاني، هو أيضا واحد من أشهر الصحافيين والمذيعين البريطانيين وأكثرهم بلاغة. صرح ويل سيلف يوما لجريدة «ذا إندبندنت» بأنه تعاطى الهيروين في طائرة رئيس الوزراء البريطاني السابق جون ميجور أثناء حملته الانتخابية. كان وقتذاك ناقدا تلفزيونيا وكاتب عمود في جريدة «ذا أوبزرفر»، أنكر الاتهامات إلا أن الجريدة فصلته عن العمل بعد أن وشى به أحد زملائه! وفي مقالة عن حملة ميجور الإعلامية نشرها في نفس الجريدة حكى بنبرة دالة على التهكم، أن «مضمون الحملة اتسم بالضآلة التامة حتى إن الأمر انتهى بنا إلى اختلاق الأخبار فيما بيننا». أقلع سيلف عن المخدرات عام 1998 ليواصل صاحبة البصيرة الثاقبة والشجاعة البالغة كتابة دستة من الروايات ساخرة الأسلوب غريبة الحبكة. تتضمن مشاريعه المثيرة للجدل رواية «دوريان»، وفيها يعيد تخيل رواية أوسكار وايلد «صورة دوريان غراي» بأسلوب في منتهى الجرأة، تنفض أحداث الرواية في منطقة سوهو اللندنية سيئة السمعة في ثمانينات القرن العشرين حين تفشى وباء الإيدز. كتب سيلف أيضا سلسلة صبيانية من المقالات تتناول الطعام والمطاعم وتدحض تماما ادعاءات مملة يزعمها عدد من المقالات الأخرى؛ كتب كذلك مقالة عن حلم رآه، وفيه «تجسد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في مطبخه، يتجرع نبيذا أحمر إيطاليا من زجاجة مغطاة بغطاء رائع من القش». تشمل مواضيع مقالاته ورواياته كل شيء وأي شيء، من أسعار البيتزا إلى حيوانات الشمبانزي الشاذة جنسيا!

كتب خريج جامعة أكسفورد ورسام الكاريكاتير السابق روايات لاقت استحسانا نقديا ورواجا بين القراء، ففازت مجموعته القصصية «نظرية الجنون الكمية» 1991 بجائزة جيفري فابر التذكارية ورشحت روايته «كيف يعيش الموتى» 2001 لجائزة ويتبريد عام 2002 وفازت روايته «عقب السيجارة» 2008 بجائزة بولينجر إفريمان وودهاوس لأفضل رواية كوميدية. هو الروائي المناصر لأدوات ما بعد الحداثة اشترك عام 2002 في مشروع «فن الواقع». دارت فعاليات المشروع في شقة مكونة من غرفة نوم واحدة في الطابق العشرين من ناطحة سحاب بمدينة ليفربول، انخرط عندها في كتابة قصة قصيرة ومن حوله جمهور من القراء، يتفرج عليه! وقد تم الحدث برعاية هيئة إسكان ليفربول احتفالا بالموافقة على إسكان المواطنين في ناطحات السحاب في المدينة!

تتأرجح روايته الحديثة «مظلة» في الأغلب بين لندن في عهد الملك إدوارد السابع ومستشفى عقلية كائنة في الضواحي عام 1971، كاشفة الستار عن خبايا تكنولوجيا القرن العشرين، تكنولوجيا تنعكس جلية على زجاج داكن يحجب المؤسسة العقلية عن الأنظار. يطرح سيلف أفكار الشخصيات وسرائرها مثلما تدور في أذهانها، مثلما تخطر على البال، على نحو عشوائي، دون اكتراث للترتيب المنطقي أو البنية النحوية أو الفرق بين المستويات المختلفة من الواقع، كذلك يسرد تيار المشاعر من خلال فقرات طويلة من مناجاة النفس. كان جيمس جويس وفيرجينيا ولف قد سبقاه في تبني هذا الأسلوب، ولعل خير مثال عليه هو رواية ويليام فوكنر «بينما أرقد محتضرة»، إذ كانت الشخصيات تنبس بهذيان لا ضابط له، لا تعبأ بمنهج أو نحو، تهيم في بحر أو صحراء من الكلمات والأحاسيس الباطنية. ومثله يحاكي سيلف المخ البشري وهو يعالج الصور لتنقلب في النهاية جملا. وهكذا نخترق نحن القراء عقول الشخصيات من خلال تيار الوعي، فيصبح الأسلوب إما متعة خالصة أو إخفاقا مثير للشفقة. لا ريب أن تيار الوعي أسلوب عسير التناول، ولكن خليق بسيلف ألا يحصر حبكته في عقل واحد وحيد، إذ تنتقل الرواية بين ثلاثة عقول وشخصين: شخصية كررها من قبل في مجموعته القصصية «نظرية الجنون الكمية» ومجموعته القصصية «منطقة رمادية»، وهي طبيب الأمراض العقلية زاك بوسنر الذي يصور حياته منذ سبعينات القرن العشرين وحتى الوقت الحالي؛ ومريضة تدعى أودري ديرث تعاني التهاب الدماغ أو ما يسمى «مرض النوم»، وهو مرض تفشى في أوروبا عام 1918 وأودى بحياة ثلث المرضى وخلف البقية محبوسين عقودا، لم يسلبهم الوعي إلا أنه حرمهم الاستجابة إلى المثيرات وقضى عليهم بحياة أشبه بالموت الحي.

ينبذ الطبيب المستقل الشارد منزل كونسيبت الطبي في منطقة ويلزدن، كان المنزل الطبي تجربة تأثرت بمنهج الطبيب النفسي البريطاني آر دي لايينج في إدارة المجتمعات العلاجية. يصل زاك إلى مستشفى فريرن، بيمارستان فسيح الأركان شمالي لندن عاقدا العزم أن يتحاشى كل خلاف وكل جدال غير أنه يلاحظ في جولاته الأولى بين العنابر أن الكثير من المرضى مصابون بتقلص جسدي لا إرادي: حركات سريعة مقتضبة تتكرر لا طواعية المرة بعد المرة. يلتقي بأودري ديرث، امرأة بسيطة ولدت عام 1890 في منطقة فولام الفقيرة غرب لندن، محصورة ضمن جدران المستشفى منذ عقود.

كانت أودري تنتمي إلى الطبقة العاملة، تستدعي ذاكرتها مدينة لندن في عهد إدوارد السابع وأحبائها واعتناقها للأفكار الاشتراكية وانهماكها في الحركة النسوية في مستهلها، وخصوصا حين كانت تعمل في متجر لبيع المظلات. اشتغلت أيضا عاملة تصنع الذخائر في ترسانة مدينة ووليدج غير أنها سقطت ضحية لالتهاب الدماغ الذي ساد في نهاية الحرب العالمية الأولى، ومثلها مثل بطل رواية الطبيب والمؤلف البريطاني أوليفر ساكس «الصحوة» ظلت في غيبوبة منذ يومها. ولكن ليونارد بطل «الصحوة» المصاب بالشلل الدماغي، الجثة غير القادرة على التفكير أو الإحساس، كان أول من اختبر عقارا لعلاج مرضه، يستيقظ من موته السريري ويرى والدته العجوز، ولكن يتضح أن مفعول العقار مؤقت ليصير ليونارد أول من تنتكس حالته، وعليه يعود تدريجيا إلى ما كان عليه من ألم وعذاب، وتحل خيبة أمل كبيرة على الطبيب المغامر.

يرسم سيلف حبكة مخالفة في رواية «مظلة»، حين يكتشف زاك أن أودري واحدة من كثيرين منتشرين في كل أنحاء المصحة، ينهمك في دراسة الحالة محاولا إسباغ النور على حيواتهم، بيد أنه ليس بقادر على إدراك توابع هذه الصحوة المحتملة أو توقعها. وتحت إشراف عينه الراصدة ترقد أودري، مريضة عقلية مثلما هو مفترض، على ظهرها فوق تجويف صنعه جسمها طيلة 49 عاما قضتها في المستشفى. يفضي بحث زاك عن ماهية مرضها إلى اكتشاف حقائق صادمة تراجيدية عن أسرتها وماضيها. «بوسع المرء أن ينسى أخا بمثل سهولة نسيان مظلة!»، وردت هذه الجملة في رواية «يوليسيس» 1922 للروائي جيمس جويس. عندما نزل المرض على أودري، كان أخوها ستانلي مفقودا في الجبهة الغربية للحرب، بينما كان أخوها ألبرت يتولى إدارة الترسانة نفسها، رجل على عتبة النجاح في الخدمة المدنية الإمبراطورية. والآن، وبعد مرور 50 عاما، عندما تدب اليقظة في أودري من إغماءتها الباثولوجية، مَن سيظل حيا منهما؟ قد يستشف القارئ ملامح إنسانية معقدة، وقد تتوارد في ذهنه الأسئلة: هل مرض أودري العقلي، القوة المكرهة المتمثلة في هذا الكابوس، صورة مصغرة تعبر عن الثورات التكنولوجية في القرن العشرين؟ وإن كانت أودري مريضة، هل مرضها هو الحداثة ذاتها؟ يعلن سيلف إحباطه من الحداثة المرة بعد المرة، إذ يقول في أحد حواراته الصحافية «إننا نطارد الثقافة السريعة على الرغم من مخاطرها، الكلمة غير المألوفة والفن عسير الاستيعاب مفيدان لنا».

الحق أن سيلف لا يكتب الأدب كي يتماهى معه القراء أو «أن أخلق صورة عن العالم يمكنهم تمييزها عن غيرها. إنني أكتب لأبث الدهشة في قلوبهم.. ما يثيرني هو أن أبعثر افتراضات القارئ الجوهرية. أود أن أجعلهم يشعرون أن بعض الزوايا التي اعتادوا إبصار العالم من خلالها غير مستقرة». لقد حرر ذاك المرضى مفتوحي العيون من غيبوبتهم في السبعينات غير أنه يجابه حتى الوقت الحالي هوسا لا يفارقه: هل فعل الصواب بإطلاقهم مرة ثانية إلى المجتمع؟ هذا السؤال وغيره يجول في عقله عام 2010 حين تقاعد عن العمل وقرر أن يسافر عبر شمال لندن بحثا عن حقيقة صيف مضطرب أيقظ فيه المرضى باستخدام عقار حديث قوي المفعول. وهكذا يحيك سيلف قماشة كثيفة من الصور والرسوم يجري فيها تيار الشعور الواعي حينا وغير الواعي حينا، يقبل سيلف تحدي الحداثة ويبين كيف بمقدورها حسر النقاب عن حقائق جديدة عن عالمنا تزعزع المعتقدات السائدة وكيف تنظر بعين الترقب والخشية إلى عملية تطور هذا العالم. مرة أخرى يبوح بإحباطه من الحداثة في أحد مقالاته في جريدة «الغارديان» 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2011:

«لقد تطورت السيمفونية والرواية معا منذ قرنين. واصلت الموسيقى تقدمها بعد الحداثة، ولكن ماذا جرى للرواية؟.. بحلول منتصف القرن العشرين هجر أغلب الملحنين الجادين السيمفونية مفضلين أنواعا من الموسيقى لا تتطلب البحث عن وحدة متناسقة لم يعودوا يعتقدون بوجودها. ليت بمقدورنا قول الشيء نفسه فيما يتعلق بالرواية! لا شك أن الغرب تمتع بمرحلة مستقرة من الأدب الحداثي، ولكن بينما أخلص جيمس جويس وفيرجينيا وولف وآخرون الوفاء لموت الآلهة القديمة بصياغة نثر يتناول ظاهرة وعي الفرد في عالم مترع بالفوضى، لم يسد هذا الاتجاه».

إن «مظلة» رؤية كئيبة ترسم لوحة للندن في القرن العشرين وتسبر مفهوم الصحة العقلية. ينشب سيلف أظافره في جلد هذا الموضوع المترع بالغموض والحيرة لينتج فقرات لا تعرف التحفظ عن السياسة والتمييز الجنسي. يقدم عالم الطب رموزا لانشغال سيلف بطبيعة اللغة: كيف تتخفى المفاهيم خلف أكوام من العبارات متعددة المقاطع وصياغة كلمات جديدة لا يسهل على الجميع فهمها، تتخفى بدلا من أن تصير واضحة دقيقة، كيف تصبح اللغة هي المرض والتشخيص. وفي نثر لا يتقيد بالفصول يعود سيلف إلى مصدر الآفة وأصلها: الجنون الصناعي في الحرب العالمية الأولى، ينسج نسخة مشوهة من القرن العشرين ثم يحل خيوطها «ليشرح الحداثة بسكاكين ما بعد حداثية، يحلل الحلم والماكينة، الحرب باعتبارها الكذبة القديمة والتحرر الجديد، يتدبر شعائر مقدسة، نجسة أو مبتذلة»، هكذا تصف جريدة «الغارديان» الرواية حين اختارتها واحدة من أفضل روايات عام 2012 حتى الآن. لن تخلو الرواية من بصمة سيلف المميزة: فقرات منمقة متشابكة تصدر أحيانا عن راو واحد وحيد يغص بالسخرية. إنها رواية بارعة اللغة حساسة العاطفة معقدة في أحكامها الأخلاقية. لا تسلم من الراديكالية في التصور، أسلوبها عنيد لا يعرف التهاون. ولا يسعنا أن ندعي أنها لا تتطرف في الحدس والتخمين المستقبلي في محاولتها استيعاب ماهية العالم الحديث ودوافعه.