عبد الرحمن الهواوي يروي قصة الجدل مع القصيبي بشأن المتنبي

أستاذ فلسفة الحيوان بدأ من الصفر ودخل معمعة الأدب من خلال شاعر العرب الأكبر

د. عبد الرحمن الهواوي
TT

يعد الدكتور عبد الرحمن بن سعود الهواوي الذي يحمل درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم من جامعة ويلز البريطانية شخصية لافتة في المشهد الثقافي السعودي، بالإضافة إلى حضوره في المجال العلمي تأليفا وبحثا. وعلى الرغم من تخصصه العلمي فإنه ميال إلى الأدب بعمومه، وخصوصا الرواية والشعر، وقد دخل منذ أكثر من ثلاثة عقود في معمعة المتنبي ناسجا حوارا افتراضيا مع الشاعر العربي الأكبر، في عمل غير مسبوق، كما أصدر سلسلة عن الشاعر العربي الكبير عنونها «العلوم في ما تغنى به الشاعر»، سائرا بذلك على نهج أبي البقاء العكبري في كتابه «التبيان في شرح الديوان»، أي شرح ديوان أبي الطيب المتنبي. «الشرق الأوسط» التقت الباحث السعودي الدكتور عبد الرحمن بن سعود الهواوي في الرياض وأجرت معه الحوار التالي:

* ما المرحلة الأهم في حياتك التي حددت اتجاهك؟

- انتقلت عائلتي إلى الرياض قبل تخرجي في معهد المعلمين الابتدائي بحائل بعدة شهور، وبقيت عند ابن عم لي، وكذلك زوجته ابنة عمي الآخر، وبعد تخرجي في المعهد انضممت إلى أهلي في الرياض، فعينت مدرسا في إحدى مدارس الرياض الابتدائية، وذلك في سنة 1962.

كانت الفترة من 1962 إلى 1970 فترة مهمة في حياتي وفيها حددت اتجاهي، وكانت فترة غنية في الناحية الثقافية والناحية العلمية، وكذلك الناحية الأسرية.

فمن الناحية الدراسية، فإن اللغة الإنجليزية لا توجد كمادة من المواد الدراسية في المعهد. وكان في ذلك الوقت يوجد نظام تعليمي يسمى نظام الثلاث سنوات، حيث يمكن للراغب في الدراسة جمع الثلاث سنوات في سنة واحدة، وهذا ما فعلته من خلال دراسة ليلية، للحصول على شهادة الكفاءة المتوسطة، وهذا بسبب الإنجليزي، ثم بدأت بعد ذلك أدرس المرحلة الثانوية ليلا فحصلت على الثانوية تخصص علمي سنة 1967، وكانت فترة الامتحان في أيام حرب الأيام الستة.

وفي عام 1970 كنت في السنة النهائية في الجامعة، ولكن لأسباب خاصة بي تأخرت عن الدراسة في هذه السنة وعدت إلى الجامعة في السنة الدراسية التي بعدها، وتخرجت في الجامعة في عام 1972، وحصلت على بكالوريوس بتقدير جيد جدا في تخصص كيمياء وتخصص علم الحيوان وعينت معيدا في قسم الأحياء في كلية التربية التابع لكلية العلوم.

أما من الناحية الثقافية، فقد كانت الفترة من 1962 إلى 1970 غنية في التحصيل الثقافي، وخصوصا في السنتين الأوليين، حين كانت الكتب من مختلف الاتجاهات والميول متوفرة - دون حسيب أو رقيب - وكان الباعة يعرضون الكتب حول الجامع الكبير بالرياض، وخصوصا بعد صلاة الجمعة، لكن هذه الظاهرة تلاشت فيما بعد. وأتذكر أنني كنت مشتركا في مجلة «العالم العربي» اللبنانية التي كان يرأس تحريرها ياسر هواري، ومن كتابها ليلى بعلبكي، والصادق النيهوم وغيرهما، وقد انقطعت عني هذه المجلة بعد حرب الأيام الستة، وكانت مجلة «الحوادث» متوفرة، وكذلك مجلة «العربي» الكويتية ومجلة «دراسات فلسطينية».

قرأت القصيمي في لندن

* ومتى توجهت إلى أوروبا؟

- في عام 1973 ابتعثت إلى بريطانيا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه، وكانت دراستي في جامعة ويلز في مدينة سوانسي في قسم علم الحيوان، وفي 15 ديسمبر (كانون الأول) 1977 حصلت على درجة دكتوراه فلسفة في علم الحيوان، وكان موضوع دراستي «علم الخلية في مجموعة حيوانية بحرية»، وسبب عدم حصولي على درجة ماجستير يعود إلى الأستاذ المشرف، فهو إذا رأى تقدمك في بحثك في أول سنة فإنه يزكيك عند الجامعة لمواصلة البحث للحصول على درجة الدكتوراه دون المرور على درجة الماجستير.

* كيف أثرت فيك السنوات الخمس التي قضيتها في بريطانيا؟

- كانت الحركة الطلابية في جامعة سوانسي من أنشط فروع اتحاد الطلبة العام في بريطانيا. وفي الجامعة عدة جمعيات من بينها الجمعية العربية والجمعية الإسلامية. وكان عدد الطلبة السعوديين في هذه الجامعة في تلك الفترة لا يتجاوز 13 طالبا، واحد من عنيزة وواحد من الرس، وواحد من المذنب، وطالب وطالبة من الأحساء، و2 من جيزان، وأنا من حائل والبقية من الحجاز.

حتى يومنا هذا فإنني أعتبر الخمس سنوات التي قضيتها في الدراسة من أمتع سنوات عمري لأنني تعرفت على ثقافات متنوعة، وأجناس بشرية مختلفة، حتى إن زوجتي تلك القروية الأمية تغيرت فكريا وسلوكيا، وكانت تعتمد على نفسها وتقوم بأمور المنزل، وتتسوق من الأسواق وتتحدث الإنجليزية بركاكة، أي أنها تدبر نفسها وترعى أطفالها، فالسنوات الأربع التي قضتها معي هناك لا يزال تأثيرها عليها إلى الآن ونحن في الرياض. وهذا يعطي فكرة عامة عن فائدة الاحتكاك والاختلاط مع شعوب أخرى. وللحقيقة فالشعب البريطاني له أخلاق عالية في احترامه للمرأة، وخصوصا في الأماكن العامة، فالرجل لا يمكن أن يدخل إلى محل تجاري قبل أي امرأة.

وخلال هذه الخمس سنوات لم أترك الجانب الثقافي، فقد كنت أنا وصديق لي سعودي ومن الطلبة نركب القطار، وخصوصا في يومي السبت والأحد ونذهب إلى لندن لنشتري بعض الكتب من مكتبات تبيع كتبا عربية موجودة حول محطة «بيزووتر» اللندنية، وهذا العمل نقوم به على فترات وقد قرأنا في هذه الفترة أغلب كتب عبد الله القصيمي.

* الرحلة مع المتنبي

* كيف بدأت رحلتك مع المتنبي بشكل خاص، ومع الكتاب والتأليف بشكل عام؟

- بعد رجوعي من البعثة في بداية سنة 1978 عينت أستاذا مساعدا في قسم علم الحيوان بكلية العلوم جامعة الرياض التي أصبحت فيما بعد جامعة الملك سعود، وفي إحدى زياراتي المتكررة إلى حائل، لأن والدي قد عادا إلى قرية الروضة ليبدآ في إنشاء وزراعة بستان لهما هناك - هذا دليل على علاقة الإنسان بالمكان - وحدث أن أهدى لي أحد أولاد أخي أربعة كتب هي في حقيقة أمرها شرح لديوان أبي الطيب المتنبي لأبي البقاء العكبري، فصرت أقرأ فيه في كل فرصة، وقد أعجبني وأدهشني ما حوته بعض أبيات هذا الديوان من إشارات علمية ونفسية وسلوكية، وكيف أن هذا الشاعر العملاق توصل إلى هذا قبل ألف ومائة سنة من عصرنا الحاضر، وهذا ما دعاني إلى أن أجمع كل الأبيات الخاصة بموضوع معين، ثم بدأت أبحث عن كل موضوع في المراجع المتوفرة، وأنا أردد في قرارة نفسي كيف أن الأموات منذ زمن بعيد تعلم الأحياء، وقد استعنت أيضا ببعض الزملاء كل في تخصصه.

* لكنك مارست الكتابة في الصحف.. فمتى بدأت الكتابة عن المتنبي؟

- نعم، بدأت أكتب في بعض الصحف والمجلات في عام 1990. وكان أغلب هذه المقالات في البداية ذات صبغة علمية (..) واستمررت في كتاباتي العلمية في الصحف، وخصوصا في جريدة «الجزيرة»، ثم بدأت في إدخال المتنبي في هذه المعمعة الثقافية فصدرت لي كتب طبعت في مطابع الحرس الوطني تحت سلسلة «العلوم في ما تغنى به الشاعر»، إضافة إلى أنني لا أزال أكتب مقالات لها طابع اجتماعي وسياسي عن الوضع العربي العام، وقد توقفت عن الكتابة لمدة سنتين لظروف خاصة ثم عدت إليها.

بعد تقاعدي عن العمل سنة 2003 كنت لا أزال أكتب، إضافة إلى أنني قمت بتصحيح وتنقيح بعض الكتب عن المتنبي ونشرت في بيروت عن طريق «بيسان للنشر والتوزيع والإعلام».

* النزاع مع غازي القصيبي

* يتداول البعض موقفا حصل لك مع الشاعر والوزير والدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي بسبب المتنبي، هلا حدثتنا عن ذلك؟

- أنا معجب بشاعر العرب الأبرز والأكبر أبي الطيب المتنبي أحمد بن الحسن الجعفي، وهذا الإعجاب له من عندي عمر أكثر من ثلاثين سنة، وقد نشرت عنه مقالات كثيرة في جريدة «الجزيرة»، وهي موجودة في الشبكة العنكبوتية كل سنة بسنتها حتى توقفت عن الكتابة، إضافة لذلك فقد أصدرت في الرياض وبيروت عدة كتب عنه، كما أنني أحتفظ ببعض المقالات والحوارات وغيرها عنه، التي لم تنشر.

لقد سبب لي أبو الطيب المتنبي مشكلا بسيطا مع الراحل الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي. والقصيبي، كما هو معروف، من أشهر مبدعي المملكة في عالم الشعر والرواية والمقالة، فقد أرسلت للدكتور غازي عندما كان يعمل سفيرا في لندن وذلك في عام 1414ه بعض المقالات والحوارات، ومن ضمنها «حوار مع المتنبي» وهو عبارة عن حوار أجريته مع المتنبي أسأله فيجيبني ببيت من شعره، وكان عدد صفحات هذا الحوار أكثر من ثلاثين صفحة.

وفي محرم عام 1418ه نشرت «المجلة العربية» في عددها 240 ص:36 - 40 حوارا كان أجراه سالم الدوسري، والذي كان يعمل في صحيفة «الوطن» الكويتية مع الدكتور غازي القصيبي ومنشور في الطبعة الأوروبية للصحيفة، أي أن «المجلة العربية» أعادت نشر هذا الحوار كما حدث في الصحيفة الكويتية، وكان هذا الحوار يعتمد على التالي: الدوسري يسأل والدكتور غازي يجيب ببيت للمتنبي، وهذا مشابه بالضبط لما فعلته في حواري مع المتنبي والذي سبق أن أرسلته للقصيبي.

المهم في الأمر أنه حدث بيني وبين القصيبي منازعات عن أحقية هذا الحوار، وكان الراحل على مستوى رفيع من الأخلاق، حيث تقبل هذا النزاع بصدر رحب، وكل منا يريد وصل ليلى، ولم يظهر هذا النزاع في وسائل الأعلام، ولكن هناك بعض الشخصيات المرموقة التي عرفت بذلك، وبما أنني الآن في نحو السبعين من عمري ذكرت ذلك في هذا الحوار.

* خلال هذه الرحلة الطويلة ما الحصيلة التي خرجت بها؟

- من خلال هذه الرحلة الطويلة وصلت إلى نتيجة وهي أن العقل هو العقل في كل الناس مهما كانت أرومتهم، ويمكن للعقل الإنساني أن يبدع إذا أتيحت له الفرصة من مختلف الوجوه. وإضافة إلى نتيجة أخذتها من المتنبي وهي أن الفقر والعوز لا يقفان حاجزا بين المرء وتحقيق أهدافه إذا تحمل كل ما يعترض طريقه من صعوبات. وفائدة أخرى وصلت إليها وهي أن الإنسان مسير غير مخير في حياته، ولكن يمكنه إذا أتيحت له الفرص أن يستغلها.

وخاتمة القول: لو أن والدي الشيخ سعود بن ناصر الهواوي ظل على حاله إماما لمسجد قصير غضور لما كان الدكتور عبد الرحمن كما هو عليه الآن، ولكن هذه إرادة ربانية، إضافة إلى كل ما تقدم فإن أجمل ما في هذا الوجود أن الله سبحانه وتعالى قد منح الإنسان العقل والفكر والحواس الخمس ليستعملها لا ليجمدها. لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم، والشاعر قال: وخير جليس في الزمان كتاب، وهذا يبين أن القلم والكتاب أمتع وأخطر ما في هذه الحياة.