الرواية السعودية: 4 تحولات تاريخية

رواية النشأة ليست سوى استجابة ضمنية لفكرة الدولة المدنية

د. حسن النعمي
TT

في تجربة الرواية السعودية لعب المنعطف التاريخي دورا حاسما في تشكل الرواية سواء من حيث الشكل أو المضامين. فالرواية ولدت مع تأسيس الدولة في فترة كانت فنا غائبا في ظل هيمنة الشعر. وحضرت في الستينات في ظل البدء في مشروع التحديث مع إقرار التعليم النظامي للفتاة، ودخول التلفزيون، أما في الثمانينات فتشكلت الرواية في ظل تحول المجتمع من حد الكفاية إلى فيض الطفرة وما صاحبها من تغيرات اجتماعية عميقة، وفي منتصف التسعينات وبدء الألفية الثالثة تجاوبت الرواية مع الهزات العنيفة التي أصابت المجتمع. فحرب تحرير الكويت وانفتاح المجتمع بفعل الفضائيات والإنترنت، وحادثة الحادي عشر من سبتمبر كان لها التأثير الخطير على تشكيل الرواية فنا وموضوعا ورؤية.

الرواية بطبعها جزء من التغيير، فهي نص ينتمي للمستقبل، تتأثر بالعوامل الخارجية بقدر وقوفها كشواهد عظمى على تحولات التاريخ. وفي تتبع نمو العلاقة الجدلية بين الرواية والسياق الخارجي نلحظ حدة صعود الرواية في المنعطفات التاريخية أكثر من غيرها. ويمكن للباحث أن يقسم الرواية تقسيما فنيا خارج السياقات الخارجية، لكنه تقسيم يفتقر لفهم الحواضن النشطة لنمو الرواية. فأغلب تصنيفات الباحثين للرواية السعودية تقسم تطور الرواية لمراحل تحولاتها الفنية دون إجابة عن السؤال الجوهري: لماذا تطورت فنيا وتجددت موضوعيا؟ رواية النشأة ليست سوى استجابة ضمنية لفكرة الدولة المدنية في أوائل الثلاثينات المدنية. فحضرت المواطنة بدلا من القبلية التي يفترض أن تنقل المواطن من الحواضن القبلية إلى فكرة المشاركة في الهوية. هذه النقلة التي تبدو الآن عرضية كانت تشكل تحديا في الفهم من حيث القبول بهوية المشترك في الأرض والمصير والقبول بتقاسم المسؤوليات. الرواية خلاف الشعر تظهر في هذه الظرف الاستثنائي. هذه مرحلة جديدة وعليه جنس أدبي يتشكل. المرأة تقدم صوتها في رواية «فكرة» للسباعي، والبحث عن العالم بهوية المواطنة الجديدة في رواية «البعث» من خلال رحلة زاهر إلى الهند. والصراع بين المحافظة والانفتاح في رواية «التوأمان». هذه النصوص الأولى تتشكل وعينها على الشكل الجديد للمجتمع، بعضها مرحبا، وبعضها متوجسا. وأيا كان فقد كانت الرواية أقدر من الشعر على تشكيل هذا القلق، فالرواية ابنة التحولات الاجتماعية، وليست نصا مغلقا على ذاتها. وتظهر الرواية مواكبة لتحولات الستينات الميلادية بتشوف أكبر ومنظور مشتبك مع منعطف التنمية الاجتماعية. ولعل الأكثر إلحاحا سواء في روايات حامد دمنهوري أو إبراهيم الناصر أو سميرة خاشقجي هو واقع المرأة في مجتمع محافظ، مستحضرة بمسافات مختلفة سجالات المجتمع مع تعليم المرأة، وهو ما تحقق في تلك الحقبة مع صدور قرار تعليم الفتاة.

هذه الجدلية تحسمها رواية «القصاص» لعبد الله سعيد جمعان، حيث تجعل من تعليم المرأة انتصارا على مشكلات المجتمع التي رمزت لها الرواية بمشكلة الثأر الذي يقف خلفه الرجل. والقضية التي تطرحها الرواية هي منظور الحياة من خلال المرأة التي همشها المجتمع الذكوري ولم يقبل منها أي دور. ولا تبتعد بعض روايات سميرة بنت الجزيرة العربية عن تمكين المرأة روائيا من النجاح في سياق مجتمعها المحافظ كما في رواية «قطرات من الدموع».

في ثمانينات القرن الماضي ترصد الرواية تحولات مجتمع الرواية، وتحول الإلحاح من قضايا فردية إلى قضايا الكليات الاجتماعية مثل قضية العلاقة بين القرية والمدينة، ومثل هذه التجربة عبد العزيز مشري بأدوات اقترب فيها من بسط إشكالية تبدل القيم في مجتمع يتناقض مع نفسه. فبينما يندمج في تحولات المدينة شكلا يستبقي فكره وقيمه فيما قبل الطفرة. هذا التناقض يستمر في توتر حاد بين مدينة متحولة في البيت والشارع والمستهلكات، وبين قناعات وسلوكيات لا تناسب المواضعات الجديدة للمجتمع. ولعل أبرزها تكون مدن في شكلها، لكن في جوهرها عبارة عن قرى متجاورة يفتقر فيها الناس للاندماج بروح الانتساب للمدينة. ففي رواية «الغيوم ومنابت الشجر» لعبد العزيز مشري يعكس رحيل الأبناء للمدينة في رحلة تضع قدما في القرية وأخرى في المدينة تعبيرا عن حالة التشتت التي أصابت إنسان تلك المرحلة. تتغير الرواية بتغير حقبتها بدءا من قائمة الموضوعات التي يرى فيها الروائيون مجالا للكتابة، وانتهاء بالتركيز على تأثيرات أنماط الحياة على التكوينات النفسية والسلوكية للأفراد في سياقات اجتماعية مختلفة. من هنا جاء معظم شخصيات الرواية وهم ضجرون من واقعهم كما في رواية «رائحة الفحم» للصقعبي، أو انتهازيون ينشدون الثراء في واقع غلبت عليه النزعة الاستهلاكية كما في روايات إبراهيم الناصر وخاصة في «غيوم الخريف»، أو منكسرون أمام تجبر واقعهم كما في روايات عبد العزيز مشري.

في منتصف التسعينات واستجابة لعامل حرب الخليج والانفتاح الإعلامي والاتساع النسبي لهوامش التعبير مع ظهور الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، بدا أن كل شيء يتغير، أو يتفاعل بطريقة متسارعة. هنا لا تغيب الرواية وتبدأ موجة غير مسبوقة من الاستجابات التي غيرت موقف الرواية بالكامل، ونقلتها من الهامش الأدبي إلى متن الاهتمام الكامل بها من نشر ومؤتمرات ورسائل جامعية وغيرها من ألوان المتابعات الاستثنائية. في منتصف التسعينات وفي عام واحد تقريبا ظهرت ثلاثة روايات لثلاثة كتاب، روايات جريئة، وكتاب ممن لهم وزنهم الأدبي والاجتماعي. غازي القصيبي الشاعر، وتركي الحمد كاتب الرأي، وعبده خال القاص. ربما لكل واحد أسبابه في كتابة روايته، لكنهم جميعا استشعروا ملاءمة المرحلة واستجابة للمتغير الاجتماعي وقراءة للتحول التاريخي الذي شكل منظورات مختلفة في سياق التنمية الفكرية والاجتماعية، مما دفعهم لإصدار رواياتهم، «شقة الحرية» و«العدامة»، و«الموت يمر من هنا». كانت هذه البداية التي أحدثت هزة في السياقات الأدبية في المملكة. لقد مرت الرواية السعودية بأربع مراحل، كلها في سياق تحولات تاريخية، وغير منفصلة عن سياقاتها، وحيويتها تزداد بزيادة التفاعلات داخل كل حقبة. إن واقع الرواية الآن يختلف في الحيوية وفي حدة الخطاب عنه في بداية التأسيس أو في حقبة الستينات والسبعينات، نظرا للتباين في البيئة الحاضنة اجتماعيا وتاريخيا. ففي بدايات تكوين الرواية أطلت على استحياء، تبحث عن موقع قرب الشعر، لكن ولادتها شكل رمزيا حينذاك، ما يُعد استجابة للمتحول التاريخي من خلال محاولة المجتمع الانتقال من فكر القبيلة إلى فكر الدولة.

* مقتطفات من ورقة الدكتور حسن النعمي في ملتقى الرواية الذي اختتم أخيرا في الباحة