إديت بياف.. لحنا الحب والعذاب

كتاب فرنسي يستذكر أم كلثوم فرنسا

غلاف الكتاب .. «على لحن من ألحان بياف»
TT

مؤلف هذا الكتاب هو الكاتب الفرنسي دافيد لوليه، المختص بشؤون المسرح والفن وتاريخ الأغنية الفرنسية. وهو هنا يقدم كتابا مشوقا عن حياة أكبر مطربة فرنسية في العصور الحديثة: إنها إديت بياف، «أم كلثوم فرنسا». وقد تحولت هذه المطربة إلى أسطورة فيما بعد.

كيف؟ ولماذا؟ لأن هذه الإنسانة نشأت من العدم وقفزت تدريجيا من أسفل الحضيض حتى وصلت إلى قمة القمم، بفضل موهبتها الضخمة وعبقريتها الغنائية. فإديت بياف ولدت في الشارع بالمعنى الحرفي للكلمة، لقد ربيت على الرصيف ولم يكن لها بيت تسكنه. وعاشت حياة الصعاليك المتنقلين من حي إلى حي في باريس أو غيرها من المدن الفرنسية. وكان والدها يشتغل بهلوانا، يضحك الناس على الرصيف فيحنون عليه ويرمون له ببعض النقود كي يعيش ويطعم طفلته. ومعلوم أن أمها تخلت عنها بعد ولادتها بفترة قصيرة ولم تتعرف عليها أبدا. فقد كانت فقيرة تخشى من تحمل مسؤولية طفلة ولدت غصبا عنها.

وبالتالي فهي «بنت شوارع».. كما يقال. وفجأة اكتشف والدها أن صوتها جميل فطلب منها أن تغني، فإذا بها تصدح بأجمل الأغاني الفرنسية القديمة التي كانت تحفظها عن ظهر قلب. ولم يكد يصدق عينيه أو أذنيه.. وإذا بصوتها الملائكي يملأ الشوارع الشعبية في باريس فيتجمع الناس حولها ويتوقف المارون غصبا عنهم ويغدقون عليها بالنقود.

وهكذا ابتدأت حياة إديت بياف الغنائية: مطربة شوارع. وفي كل يوم كان العابرون يقفون، أكاد أقول يتسمرون في أماكنهم، ما إن يسمعوا صوت هذه الطفلة الصغيرة وهي تغني، يصابون بالدهشة إذ يرون بنتا في التاسعة أو العاشرة وهي تصدح بأعلى صوتها لكي تجمع الفلوس لوالدها، الذي تعب من حياة البهلوانية. ثم لحقت بها إحدى الفتيات اليتامى مثلها وأصبحت صديقتها على مدار الحياة. ولكنها كانت تغار منها أحيانا وتسبب لها المشاكل. وكانت هذه الصديقة هي التي تمد يدها إلى الناس وتجمع الفلوس في علبة صغيرة بعد أن تكون بياف قد صدحت بكل أغانيها.

وهكذا تحولت إديت بياف إلى ظاهرة صوتية في كل أحياء باريس وشوارعها. وبقدر ما كان الناس يحبون صوتها ويتوقفون لسماعه وهم ذاهبون صباحا إلى العمل أو عائدين منه مساء بقدر ما كانوا يحتقرونها أيضا لأنها بنت شوارع.

ما كانوا يعرفون أنها ستصبح بعد سنوات قلائل فقط أعظم مطربة في تاريخ فرنسا. ما كانوا يعرفون أن كبار شخصيات فرنسا والعالم سوف ينحنون أمامها يوما ما ويقبلون يدها.

وفي أحد الأيام كان أحد الأشخاص مارا في شارع صغير بالقرب من الشانزليزيه الشهير فوجد المارة واقفين يستمعون إلى طفلة صغيرة تغني. وكان هذا الشخص بورجوازيا كبيرا يلبس أفخر الثياب. فتوقف معهم وبعد لحظات فقط سحر بهذا الصوت القادم من أعماق الشعب. فتقدم من البنت الصغيرة وسألها عن اسمها ثم أعطاها ورقة نقدية كبيرة لا تحلم بها عادة مطربات الشوارع الشعبيات. وأضاف بأن أعطاها عنوانه الشخصي، فإذا به مديرا لإحدى كبريات المسارح ودور الغناء الباريسية، وحدد لها موعدا للاتصال به أو لزيارته مباشرة في مكتبه.

وقد جنت من الفرح عندما قرأت اسمه على البطاقة وعرفت من هو. ولم تكد تصدق عينيها. وفي اليوم الموعود تأخرت في النوم وكانت متعبة فقررت ألا تذهب إلى الموعد. قالت بينها وبين نفسها: ماذا سأفعل عند هذا الإنسان الهام الذي يستقبل كل شخصيات باريس في مسرحه؟ وهل سيهتم بي حقا؟ هل سأكون على قدر المقام؟ ومن أنا حتى يهتم بي شخص من هذا النوع؟

أنا خلقت للشوارع والناس البسطاء لا للطبقات العليا البورجوازية. ما لي وما للمسارح ودور الأوبرا والصالات الفخمة المكيفة صيفا وشتاء؟ ينبغي أن أرضى بمستواي، بقدري ومصيري وأظل بنت شوارع. أنا فقيرة وللفقراء أغني. ومسرحي الحقيقي هو شوارع باريس الشعبية وأرصفتها الضيقة أو الواسعة وليس الصالات البورجوازية الكبرى.

ولكنها في آخر لحظة قررت الذهاب إلى الموعد. سبحان الله لكأنها كانت على موعد مع القدر! وعلى الرغم من أنها وصلت متأخرة إلا أن الرجل الكريم الشهم استقبلها. ثم طلب منها أن تصعد على خشبة المسرح لكي تقوم بوصلة غنائية قصيرة أمامه وأمام معاونيه. كان يريد أن يجربها.. إنه الامتحان الأول.

ولكنه قبل ذلك أحضر لها ثيابا جديدة وطلب منها تغيير ثيابها الرثة الفقيرة التي لا تليق بمسرح بورجوازي مترف من أرقى المسارح الباريسية. ولأول مرة تعرف إديت بياف أن هناك عالما آخر غير عالم الشوارع وحي «البيغال»، حيث توجد بائعات الهوى بباريس والقوادون والمجرمون والمتاجرون بالمخدرات وأجواء الليل المليئة بالسكر والعربدة. وهو الحي الذي كنا نذهب إليه نحن الطلبة العرب أول ما وصلنا إلى باريس.

وبعد أن غيرت ثيابها وصعدت على خشبة المسرح وأطلقت لسجيتها العنان سحر الرجل بها مع كافة معاونيه وقال لها: «بعد اليوم لن تغني في الشوارع يا صغيرتي، بعد اليوم سوف تغنين هنا في هذه الصالة الفخمة كبقية المطربات المحترمات. فأنت سيدة الغناء الفرنسي أو ستصبحين سيدته بدون منازع. هل تعرفين أنك لست إنسانة عادية؟»

كان عمرها آنذاك 15 عاما أو ربما أكثر قليلا. وبدءًا من تلك اللحظة بدأت حياة أخرى لإديت بياف وأصبحت مشهورة بين عشية وضحاها. ثم صعدت في سلم المجد درجة درجة حتى وصلت إلى القمة ونسيت أيام الفقر والشقاء والنوم في الشوارع دون أغطية أو ملابس تذكر.

ولكن هل نسيتها حقا؟ هل يمكن لإديت بياف أن تنسى أصلها وفصلها وبيئتها الشعبية وأيام الفقر والحرمان؟ بالطبع لا. إنها مقدسة بالنسبة لها. ولهذا السبب فسوف تظل تصرف قسما كبيرا من ثروتها على الفقراء والمحتاجين كل عام. لا، لم تتنكر إديت بياف للشعب البسيط الفقير الذي خرجت من أحضانه. وظلت في أعماقها جزءًا لا يتجزأ منه، حتى بعد أن أصبحت تسكن الفيلات الفخمة أو القصور وتركب السيارات الفارهة وتعيش حياة الأميرات.

ظلت إديت بياف هي إديت بياف: أي ابنة ذلك الشحاذ الذي يلعب ألعابا بهلوانية لكي يضحك الناس على الأرصفة ويستدر منهم بعض الفرنكات من أجل أن يأكل الخبز مع طفلته. ظلت في أعماقها هي هي لم تتبدل ولم تتغير حتى بعد أن أصبحت قاعات الغناء الشهيرة في باريس، ونيويورك، وروما، وبرلين وكل عواصم العالم تتنافس عليها وتفتح أبوابها لها على مصراعيها. وظلت تردد كما في أغنيتها الشهيرة:

«لا! لا شيء، لا شيء،

لا! لا آسف على أي شيء

لا على الخير الذي فعلوه لي

ولا على الشر

سيان».

لن تتأسف إديت بياف على أصلها وفصلها، لن تتأسف لأنها لم تولد في عائلة بورجوازية غنية، لن تتأسف لأنها عاشت حياة اليتم والجوع والحرمان في طفولتها. على العكس لولا كل هذه الأشياء لما استطاعت أن تصبح أكبر مطربة في تاريخ فرنسا. فسنوات الجوع والفقر، سنوات التشرد في الشوارع والأزقة والدروب هي التي جعلت ذلك الصوت الملائكي يخرج من أعماق أعماقها قويا، صارخا، مجلجلا. وأبدا لن تنسى فرنسا ذلك الصوت الذي لا ينسى.

وعندما تعرف عليها الكاتب الشهير جان كوكتو جن بها جنونا، وراح يتوسط لها لدى الإذاعة لإدخال أغانيها فيها، وراح يكتب لها المسرحيات لكي تمثلها. وكتب عنها نصوصا رائعة، وقال إنها تجسد في شخصها عبقرية الغناء الفرنسي منذ الأزل: أي منذ أن وجد هذا الغناء. وقد التقى بها كوكتو لأول مرة في 14 فبراير (شباط) من عام 1940. وقال لها كوكتو بعبقريته الخلاقة هذه العبارة: «أنت أتيت من أعظم مسرح في العالم: مسرح الشوارع والحياة. أنت أميرة الغناء الفرنسي يا سيدتي، أنت أميرة الشقاء الفرنسي والفجيعة الفرنسية. فرنسا كلها تحت قدميك، فرنسا كلها تجسدت فيك».

ثم راحت تغني: حبي انتهى للتو

حبي ذهب للتو

لم تعد لي رغبة في الحياة

حبي مات للتو..

ثم يردف المؤلف قائلا: وسوف يموت حبها بعدئذ مرات ومرات. وذلك لأنها تعرفت على رجال كثيرين في حياتها. وفي كل مرة كانت تهدي لحبيبها المنتخب نفس الأشياء: سلسلة ذهبية، قداحة ذهبية، طقما رائعا، كرافيتات.. ثم عندما تنتهي العلاقة تغلق الباب في وجه القديم لكي تفتحه في وجه الجديد، الذي سينعم بنفس الأشياء قبل أن يختفي بدوره، وهكذا دواليك.. ولا أحد يعرف أن يحصي عدد عشاق إديت بياف من مشهورين أو غير مشهورين. ولكن يمكن أن نذكر من بينهم إيف مونتان الذي ساعدته حتى وصل إلى القمة بدوره، ثم تركته، فلوعته.

لم تتركه وهو في بداياته، وإنما تركته بعد أن أصبح قادرا على أن يقف على قدميه ويتحول إلى أسطورة لا تقل عنها خطورة. وهنا تكمن شهامتها وعظمتها. فهي لا تتخلى عنك في وقت الضيق، وإنما في وقت الفرج بعد أن تكون قد أصبحت قادرا على الاستغناء عنها. حقا لم تنس إديت بياف أصلها ولا يمكن أن تنسى، على الرغم من أنها تقول في أغنيتها الشهيرة بأنها كنست كل شيء، نسيت كل شيء، تجاوزت كل شيء والماضي أصبح هباء منثورا..

لقد ظلت وفية لسنوات الحرمان والضياع، سنوات الشقاء الطويلة. ولن تتخلى أبدا عن محروم يتوسل إليها. ويقال بأن إيف مونتان وجد صعوبة في التخلي عنها أو في انقطاع العلاقة الغرامية بينهما على الرغم من أنها كانت أكبر منه سنا.

وذلك لأنه أحبها وأحب فيها هذه الأعماق الحزينة، الأعماق المأساوية الطالعة من شوارع باريس الشعبية، من أعماق الناس البسطاء. وقد حاول أكثر من مرة أن يسترجع العلاقة معها، أن يعود إليها، ولكن في اليوم الموعود حصلت عاصفة أو زوبعة فوق باريس، ولم يستطع الوصول إلى المقهى الذي ضربا فيه الموعد لإصلاح الأمور بينهما.

وكان الفراق الأبدي. كانت القطيعة المرة. حتى الكون راح يتآمر على حبه لها! وعلى أثر ذلك غنى إيف مونتان إحدى أجمل أغانيه «الأوراق الذابلة». ويكفي إديت بياف فخرا أنها ألهمته هذه الأغنية الخالدة. فلولاها، لولا الوداع الأخير والقطيعة، لولا لوعة الهجران والفراق لما كانت «الأوراق الذابلة» وتلك اللهجة الغنائية الحنونة التي لا تضاهى لإيف مونتان. وهي من أروع أغاني الطرب الفرنسي قاطبة.

من لم يستمع إلى أغنية «الأوراق الذابلة والحب الماضي» فاته شيء كثير.. وهي في الأصل قصيدة للشاعر جاك بريفير.

ذلك أن الفن لا يعطي نفسه للفنان إلا بعد أن يحترق في أتون المعاناة.. إلا بعد أن يموت مرات ومرات ويتقطع قلبه أسفا وحزنا. هذه هي ضريبة الفن والشعر والغناء وكل شيء. الفن يجيء مجانا، وكذلك الأدب والشعر على وجه الخصوص.

ثم يختتم المؤلف كتابه قائلا:

إن إديت بياف لا تتأسف على شيء، لأنها ذاقت طعم المرارات حتى الثمالة، ولأنها تعرف أن الحياة قصيرة والحب دائما على وشك الخطر. وبالتالي فلنأخذ الحياة كما هي ولنعشها على هوانا، فاللحظات التي مرت لن تعود..

لقد صورها إيف مونتان أفضل تصوير عندما قال هذه العبارات: «كانت بحاجة إلى الحب. ولم تكن تغني جيدا إلا عندما تكون في نشوة حب جديد، أو عندما يكون قلبها مجروحا وممزقا بعد قطيعة حب قاتلة ومريرة. لم تكن تناسبها الحلول الوسط: إما القاعدة وإما القمة». لنا الصدر دون العالمين أو القبر.. وفي الحب كانت المرأة الأكثر طهارة وبراءة والأكثر بساطة. وكانت تصلي كل يوم قبل أن تنام. وأما هي فكتبت تقول: «عندما تقرأون هذه الرسالة التي لن تنشر إلا بعد موتي أرجوكم لا تبكوا علي، عيشوا، أحبوا، افرحوا، وإلا فإنكم لستم أوفياء لي».

ولكن فرنسا كلها بكت عليها.