القفزة الأخيرة في فضاء الشاعر حلمي سالم

من «مديح المخ» إلى «معجزة التنفس»

حلمي سالم
TT

مثلما كان شاعرا استثنائيا، كان حلمي سالم مريضا استثنائيا بامتياز، أدرك منذ البداية أن صراعه مع المرض سيطول وسيتفرع ويتشابك، فقرر أن ينتصر عليه بإرادة الشعر، وكان موقنا أنه بذلك ينتصر لإرادة الحياة.

تخلى حلمي مع اشتداد ضراوة المرض عن فكرة اللعب مع المرض نفسه ومصادقته وكأنه مجرد طفل تنبغي ملاطفته ومسامرته، وهي الفكرة التي قلّب أوجهها وأقنعتها الشعرية بمهارة الصانع والعراف معا في ديوانه «مديح جلطة المخ»، ثم ناوشها عن بعد في ديوانه «الثناء على الضعف».

وكان السؤال الذي يواجهه بألم وحيرة: هل تستطيع القصيدة أن تسبق الموت وتهزمه، طالما أنا أصبحت غير قادر على ذلك، ثم هل يعني ذلك انتصارا للشاعر نفسه والذي لم ينفصل عن قصيدته، وما زال قادرا على أن يضخ في شرايينها روح الجِدة والمغامرة. ومع دخوله في محنة «الفشل الكلوي»، وبعد أن نجا من «سرطان الرئة» أدرك حلمي أن سؤاله سيظل مسكونا بالنقص، وأن الإجابة عنه سيختلط فيها العبث بمرارة الرجاء.. فكأنه إذن سؤال ناقص يبحث عن إجابة ناقصة.

معنويا بنى حلمي استراتيجيته لمجابهة المرض على فكرة التسامي عليه واعتباره مجرد محطة ضمن محطات كثيرة خبرها في الحياة، ورغم أنه كان يدرك أنها المحطة الأحرج، لا من حيث الوصول إليها، وإنما من حيث صعوبة تغيير مسارها المحتوم، فإن روح التسامي كانت أداة الشحن الأساسية في أن ينتصر - ولو مؤقتا - بإرادة الشعر ويقاوم بشراسة، عسى يستطيع أن يؤجل ولو لبضع دقائق لحظة الوصول إلى هذه المحطة الأحرج، حيث ينهي الجسد لعبته مع المرض اللعين، مستسلما إلى قدره، وتنفتح الروح على حياة أخرى، يشكل الموت البوابة الرئيسية للدخول إليها.

فنيا أدرك حلمي أنه يطل على القصيدة وعلى الحياة من ثقوب المرض، وأنه يقف على حافة الموت الذي قد يخطفه في أية لحظة، فرغم معاناته المضنية كثف طاقته الشعرية التي تركز كل جهدها في محاولة تثبيت المشهد في جسد الزمن وحركة العناصر والأشياء، وفي الوقت نفسه توثيق نثرياته ومفرداته وشخوصه ومقوماته المباشرة وغير المباشرة، بكل هوامشها ومحمولاتها الإنسانية والتراثية، وأيضا لحظتها الآنية والمنقضية، وكأنه يريد أن يخلق من كل هذا مشهد وداع يليق بشاعر، عاش حياته في الشعر وعاش الشعر فيه، وتعلما سويا كيف تكون الطفولة هي الرحم الخصب لمدارات الفعل الشعري.

هذا الهم يبرز على نحو لافت في ديوانه الأخيرة والذي اختار له اسم «معجزة التنفس». فالمشهد لم يعد مجرد حالة من القنص العابر لزوايا وكوادر معينة تعمل على دعم شعرية الموضوع والرؤية في النص، كما أن حركيته الإيقاعية أصبحت تتسم بالبطء، ولم تعد واخزة وخاطفة، مسكونة بالتحول والتبدل، كما كان في دواوينه السابقة، وإنما تسعى إلى تثبيت المشهد ولملمته.. لا تريده أن ينفلت أو ينقلب على ماهيته الصورية والفنية، وأيضا النفسية، تريده أن يوازي الصعوبة التي ألمت بحركة الشهيق والزفير، والتي أصبحت متعثرة وقصيرة تماما كالحياة في محنة المرض.

على هذا النحو يثبت حلمي سالم صورة العائلة في المشهد ويوثقها بطرق شتى في متن النص، وفي الوقت نفسه، لا يتعامل معها كتيمة أو حيلة شعرية أو أيقونة دلالية، وإنما كحقيقة ماثلة وحية في طبقات الجسد والروح والتاريخ بمستوييه الشخصي والعام.. يقول في إحدى قصائد الديوان بعنوان «تحليل دم» مستحضرا صورة أسرته الصغيرة:

قلتُ لشقيقة النهر

أريد بعد خروجي من البئر بناتي أمامي

نشلوني من البئر في قفةٍ

فكنتُ خلف خوص قفةٍ أتبين الصبايا

لميس: ذكاءُ القلب والنديّة، حكمة الحنان

عيون القطط، ورائحة «زاهية»

رنيم: حصّةٌ في الرِّقة، القافزة خلف البحر

قبل موسم القفز، الذوبان لحاله.

حنين: سلامة الفطرة، ملح الأرض التي

لا يعجبها «دهاليزي والصيف ذو الوطء»

وبسببي حفظت مستشفيات القطر.

ولا يكتفي حلمي بذلك بل يطل على صورة العائلة في إطارها الأوسع، حيث تتعدد صور إخوته وأخواته، وأعمامه وأخواله، ويقرن حضورهم بصيحة الديك، وكأنه يستنهض بها صحوة أخرى لحلم يشارف على الزوال.. يقول في قصيدة بعنوان «مستقبل الحب»:

قلت لأمهاتي

أريد أن أرى إخوتي

قبل أن يصيح الديك

ورحت في منزلةٍ

بعد برهة ميزتهم بين نوم وصحو أمامي.

ثم يسرد أسماءهم، وكأنها كتاب مفتوح أمامه للتو. يعيد ترتيب أحرفه وصفحاته، ويتأمل صورته في ظلاله وهوامشه بلهفة الأب العاشق والأم الحنون، والأخ الأكبر الذي يدرك ثقل الأمانة وحكمة السنين، كما أنه يوسع المشهد ليضم أصدقاء أصبحوا بحكم ميراث الصداقة النبيل أغصانا في شجرة العائلة.. يقول في القصيدة السالفة نفسها وكأنه يرسم مشهدا طقسيا للحن الختام:

قبلت أيديهم

وتقدمتم وفي صعوده ربوة،

وهم يذرفون الدمع،

وقبل أن يختفوا همس لي الصبيُّ

الذي جعل مهاتفته لي جزءا من دوائي

احترس يا رفيقي

من الموج والنوَّات والصبايا الغارقات والغريق

من الفَرقِ والفراقِ والفريق

عند هذا البرزخ سنقابل الأندلس

حيث الفتى النحيل يصرخ:

ستنجو يا شقيق الأب،

وحيث نعرف أننا عميان

ما لم نر باللسان

مستقبلَ الحبّ،

وحيث يحضن الجندي طفلا

فوق دبابة.

ورغم أن حلمي يخرج بالمشهد من هذا الفضاء الخاص إلى الخارج ويشتبك مع تداعياته الراهنة، فإن صورة العائلة تظل هي النواة الصلبة لتثبيت المشهد، إنه يطل على الواقع الخارجي من مرآة العائلة، وتحديدا واقع ثورة 25 يناير، بكل ما أفرزته من تداعيات ومفارقات على المستوى السياسي والاجتماعي والإنساني.

ومن اللافت هنا أن حلمي في تعامله مع صورة العائلة يضع الشخوص في حالة شعرية رقيقة حانية، ويخلق لها إطارا جماليا وتشكيليا شفيفا يعتمد على البساطة اللغوية ولطشات السرد المشرّبة بطاقة شعرية حميمة، وذلك على عكس تعامله مع تداعيات الواقع الخارجي، حيث تتسم الصورة الشعرية بالحدة وتصبح سلاحا للإدانة والتعرية في مواجهة العنف والقمع، حتى أننا نلمس نوعا من التوازن الرهيف بين توتر اللغة وعنف الواقع نفسه.

يضاف إلى ذلك أن المفارقة في هذا الديوان لم تعد مجرد أداة ومقوم فني ذي وظيفة دلالية محددة، وإنما أصبحت أكثر شمولا وتجذرا، فهي مفارقة وجود مسكون بالفناء، وبروائح موت تتناثر هنا وهناك، تتجسد صورتها في مظاهرات الثوار في الميادين والشوارع بحثا عن حلم العدل والحرية، ويلمسها من حوله بالمستشفى في صورة المرضى وهم يصارعون الألم من أجل التشبث بالحياة.. تنعكس روح المفارقة بشكل واضح ومباشر في قصيدة «السارقون»، والتي يستهلها على هذا النحو:

كان الطبيب بالنجمات الثلاث والنسر

يحطُّ مبضعا على فأر ليستأصل الداءَ

بينما كان النقيب الشاب في شارع جانبي

يصوب الرصاص نحو عيون فتى يصيحُ:

يا عدلُ..

وجُندُ النقيب حوله يهتفون فيه:

«أحسنتَ يا باشا».

وحينما كان الطبيب بالنجمات الثلاث والنسر

يشفط الماءَ عن رئتيَّ

حتى لا تموتا غرقانتين

بعد أن أفلتتا من أن تموتا مأكولتين

بالكيمياء والفئران

كانت جموعٌ في قارعة الطريق

تحمل نعوشَ أبنائها الذين سلّموا السِّر الإلهي.

وليس خفيا أن المصادفة هنا تدعم روح المفارقة، فالشاعر كان يعالج بمستشفى القوات المسلحة وعلى نفقتها، كما أن جنودها هم من يواجهون المتظاهرين في الشارع بالتعاون مع الشرطة.

هذا الوعي الجديد التلقائي بروح المفارقة انعكس أيضا على فضاء التناص والكولاج، وهما عنصران أحسب أنهما أساسيان في تجربة حلمي الشعرية. لكن فعاليتهما في هذا الديوان انكمشت إلى حد كبير، فلم يعد التناص يحيل إلى الخارج، بل أصبح ينبع من الداخل، من الإحساس بالفقد وهواجس الانخطاف والرحيل المباغت، كما اختفت شرائح الكولاج في بياض الخلفية، ليصبح النص الشعري بمثابة حبل سري، وقفزة أخيرة لتثبيت صورة العائلة في المشهد.