إريك هوبزباوم والربيع العربي

ولد في الإسكندرية واعتبر «قلبه مصريا» بعد الثورة

إريك هوبزباوم
TT

قال الرجل المسن بينما ترتسم على شفتيه ابتسامة فتى شقي: «حسنا، حتى الآن لم أكن أستطيع أن أزعم سوى أنني مصري المولد، أما الآن فيمكنني أن أقول إن قلبي مصري». كان ذلك أثناء الأيام الأولى من ثورات «الربيع العربي»، التي تحول فيها ميدان التحرير الواقع في قلب القاهرة فجأة إلى منارة أمل بالنسبة لمنطقة كانت تبدو غارقة في ظلمات الاستبداد. كان هذا المتحدث بنبرة شبه ساخرة هو إريك هوبزباوم، الذي رحل في الأول من هذا الشهر, والذي يعترف العدو قبل الصديق بأنه آخر «مؤرخ ماركسي كبير» في العالم. وكنت قد دعوت هوبزباوم وزوجته مارلين وزميلنا اللبناني وليد أبي مرشد إلى مطعم فارسي في منطقة ماريلبون بلندن كي نرى كيف يرى «المؤرخ الماركسي الكبير» تلك الموجة المثيرة من التغيير التي تجتاح شمال أفريقيا متجهة صوب منطقة الشام.

وكانت هذه هي ثاني مواجهة لي مع هوبزباوم في أقل من عام، وفي المرة الأولى التقينا في حي بلومزبيري داخل مكتبه الصغير المزدحم في كلية «بيربيك كوليدج» التي كان رئيسا لها، وكنا في ذلك الوقت قد التقينا لمناقشة إمكانية قدومه في زيارة إلى الشرق الأوسط من أجل إلقاء بعض المحاضرات. ورغم أن هوبزباوم كان قد بلغ من العمر بالفعل 93 عاما، فقد بدا متحمسا للشروع في تلك الرحلة، حيث وعد أن يجد فرصا مناسبة في جدول أعماله المزدحم.

وأثناء اللقاء الأول بيننا، كان هوبزباوم يبدو متشائما بشأن فرص حدوث تغيير هادف في الشرق الأوسط، وكان قبل 3 أعوام قد أجرى معي مكالمة هاتفية ليسجل «خيبة أمله» من أنني كنت أؤيد تغيير النظام في العراق. والآن رغم أنه ما زال غاضبا من «الغزو»، فقد اتفق معي في ضرورة منح العراقيين فرصة للتجربة وبناء شيء أفضل من صرح القمع والظلم الذي أقامه صدام حسين.

وقد استمر لقاؤنا الأخير في المطعم الفارسي لأكثر من ساعتين، كان هوبزباوم خلالهما يمتلئ بالأمل بسبب بشائر قيام ثورة عربية شاملة. ونظرا لمعرفتي بأن هوبزباوم يكون في أفضل حالاته عندما يتم استفزازه، فقد ذكرت أن ثورات «الربيع العربي» قد ينتهي بها المطاف إلى أن تكون صورة شرق أوسطية من ثورة عام 1848 التي اجتاحت أوروبا لكنها انتهت بلويس بونابرت والكونت بسمارك، وأن الحسنة الوحيدة لها لم تتعد سلسلة عروض «رينغ» الأوبرالية التي ألفها فاغنر. وفي تناقض حاد مع الحالة المزاجية المتشائمة التي كان عليها في لقائنا الأخير، أبدى هوبزباوم تفاؤله واعتبر قلقنا «سابقا لأوانه»، حيث قال: «على أي حال، فإن نجاح ثورة أو فشلها لا يمكن أن يقاس بنتائجها السياسية المباشرة وحدها. إن حقيقة أن المجتمعات العربية أظهرت أنها تمتلك إمكانية وقدرة العمل الثوري تعد نجاحا في حد ذاتها».

كان من الخطأ أيضا اعتبار ثورة عام 1848 فشلا، حيث إنها من منظور تاريخي أبعد لم تكن كذلك، ذلك أنها غيرت الخريطة الجيوسياسية لأوروبا ومهدت الطريق لإجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية كبرى خلال نصف القرن الذي تلاها. وثورات «الربيع العربي» هي الأخرى قد تنتهي إلى فشل سياسي مبدئي، لكنها بالتأكيد سوف تلهم الأفكار الإصلاحية على المديين المتوسط والبعيد.

وقد اعترف هوبزباوم بأن النموذج اللينيني، الذي يفترض فيه أن تعمل البروليتاريا كطليعة للثورة، ليس له فائدة تذكر في فهم ثورات «الربيع العربي» التي كانت في معظمها ثورات عفوية تلقائية نتجت عن السخط الشعبي، كما أن انضمام جماعة إسلامية منظمة إلى الثورة بعد أن أثبتت نفسها كان هو الآخر أمرا مهما، حيث أظهر أن الاعتبارات الاجتماعية والسياسية - وليست الدينية - هي ما ألهم هذه الحركة.

ورغم أن هوبزباوم بدا كأنه ليست لديه شكوك تذكر في أن رحيل الأنظمة المستبدة كان أمرا جيدا، فقد بدا غير واثق من أن ثورات «الربيع العربي» قد تؤدي إلى نظم ليبرالية على الطراز الغربي. وهنا كان هوبزباوم يبدو متحيزا لأوروبا على نحو مخالف لطبيعته من خلال التأكيد على أن تونس وحدها «بسبب قربها من فرنسا وتاريخها الطويل من التأثير القادم من أوروبا» قد تتحرك نحو التعددية من ذلك النوع الذي قام في أوروبا الغربية.

ولد هوبزباوم لأسرة يهودية في مدينة الإسكندرية المصرية عام 1917. وهو العام الذي قامت فيه الثورة البلشفية في روسيا، وطوال حياته كان يحب أن يتذكر تلك المصادفة ويعتبرها ذات مغزى في تشكيل شخصيته والمحافظة على تعلقه الدائم - والعاطفي تقريبا - بالثورة الروسية وأحلامها، وحتى الجرائم التي ارتكبها ستالين وقضت على حياة عشرات الملايين من الناس لم تقنع هوبزباوم بالتفكير في إمكانية أن تكون الثورة الروسية بحكم طبيعتها مكتوبا عليها أن تكون وسيلة للقتل الجماعي. وعندما يتم دفعه إلى اتخاذ موقف دفاعي، كانت لدى هوبزباوم بطاقة أخيرة يلعب بها من أجل تأييد تعلقه العاطفي بالثورة الروسية والاتحاد السوفياتي الذي كان ثمرة لها، حيث كان يقول: «الإنسانية مدينة للثورة الروسية بالكثير، فالاتحاد السوفياتي هو الذي خلص العالم من النازية».

وهذه الحجة - الماكرة كما هو واضح - تتجاهل حقائق تاريخية أساسية، مثل حقيقة أن ستالين وقع معاهدة صداقة مع هتلر وقسم بولندا فيما بينهما، أو أن الاتحاد السوفياتي لم يدخل الحرب إلا عندما هاجمته ألمانيا النازية، ولم يكن لديه أي خيار سوى أن يرد القتال بالقتال دفاعا عن نفسه. ولم يحرر هوبزباوم نفسه أبدا من العقائد الماركسية، إلا أنه في سنواته الأخيرة أظهر اتساعا في آفاقه الآيديولوجية بوحي من زيادة معرفته بالقيم التي نادى بها في البداية عصر التنوير، وكان يتحدث عن تعلقه بقيم مثل «الحياة والحرية والبحث عن السعادة»، وهي عبارات تظهر في دستور الولايات المتحدة، التي ظلت منذ فترة طويلة تعتبر قوة الظلم «الإمبريالي» في العالم.

وفي تجربة حياتية نادرة، قضى هوبزباوم جزءا من سنوات مراهقته في النمسا ثم برلين، وشهد انهيار الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية ومجازر الشيوعيين وصعود الفاشية، وفرت أسرته إلى بريطانيا العظمى قبل أن يغلق هتلر الأبواب أمام اليهود ويبدأ في بناء غرف الغاز. وبعد أن أنهى هوبزباوم دراسته في «جامعة كمبردج»، سرعان ما بزغ نجمه كمؤرخ ماركسي يقدم رواية «من منطلق الناس» للأحداث التي شكلت العالم. ويعود بعض الفضل إلى انتشار الماركسية كموضة في غرب أوروبا خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين في تمكن هوبزباوم من أن يصبح مؤرخا من أصحاب الكتب الأكثر مبيعا، إلا أنه من غير المنصف التأكيد بأن نجاحه يعود فقط إلى الموضة، حيث ظل الرجل يتمتع بجمهور كبير بعد وقت طويل من انتهاء موضة الماركسية.

ويمكنني أن أفكر في سببين على الأقل لنجاحه:

الأول هو أنه كان يعيش في بريطانيا، وهي بلد ديمقراطي ليبرالي لا يتقبل التنوع والاختلاف فحسب بل ويشجعهما بقوة، ولم يكن من المستغرب أن تنعم ملكة إنجلترا على هوبزباوم بنفس الرتبة، والتكريم الذي منحته لواحد من رؤساء وزرائها السابقين وهو جون ميجور.

السبب الثاني وراء استمرار نجاح هوبزباوم هو أسلوبه الواضح في الكتابة وقدرته التي تقترب من الأسلوب الروائي على سرد التاريخ من وجهة نظره الفريدة. وقد لا يتفق المرء مع رؤية هوبزباوم للأحداث التاريخية، غير أن المرء يستمتع دوما بتناوله لها، فالتاريخ الذي يقدمه ليس حكاية عن الحكام والغزاة، بل قصة الناس العاديين الذين تقدم أحداث حياتهم عند وضعها معا صورة أكثر ثراء لما حدث بالفعل.

كما أن هوبزباوم - الذي تمكن من المحافظة على شبابه حتى النهاية بصورة مثيرة للدهشة، وذلك رغم صراعه الطويل مع سرطان الدم - أضاف مستوى آخر من التعقيد إلى شخصيته بأن أصبح واحدا من كبار خبراء موسيقى الجاز في بريطانيا، إذ كان يكتب فيها ببراعة تبعث على الذهول. وباعتباره واحدا من قلة قليلة من المؤرخين الذين تتوافر كتبهم باستمرار في الأسواق، فقد ساعد هوبزباوم على جذب ملايين الناس من مختلف أنحاء العالم إلى قراءة التاريخ، ولهذا وحده سوف يفتقده العالم على الأرجح لوقت طويل جدا.