هوبزباوم.. قرن ورجل

TT

في كتابه «عصر التطرف: تاريخ العالم 1914-1991»، الصادر عام 1994، صفى المؤرخ إريك هوبزباوم، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام عن 95 عاما، حسابه مع القرن العشرين، ومع نفسه أيضا. إنه مرثية شعرية حزينة لقرن ورجل ترك كلاهما بصماته على الآخر، شروقهما وغروبهما، توهجهما وانطفاؤهما وكأنهما توأمان، على الرغم من الشد والتنافر اللذين عرفتهما هذه العلاقة الطويلة. إنه ديالكتيك الحب والكره. لقد أعلن هوبزباوم بصريح العبارة أنه لا يحب القرن العشرين، وأن قرنه الذهبي، مثل معلمه كارل ماركس، هو القرن التاسع عشر، الذي كان مليئا بوعد التنوير، والرؤى المتوهجة المتفائلة التي أجهضها القرن العشرون. ولكن هذا الكره كان ينبع من عاطفة عميقة وشعور مرير بخيبة الأمل، وكأن هوبزباوم أراد أن يقول لذلك القرن: لا يجدر بك أن تكون هكذا، وتخيب آمال البشرية التي عقدت عليك. لم تكن صرخة هوبزباوم صرخة متصوف زهد بالدنيا وأهلها، ولا صرخة أكاديمي منعزل داخل أروقة جامعته، بل صرخة عالم ومؤرخ ومناضل وجد نفسه وسط معارك القرن الكبرى منذ بداية تشكل وعيه الاجتماعي والسياسي في مرحلة مبكرة من حياته (ولد عام 1917).

كان هوبزباوم يرى أن القرن العشرين، وبشكل أدق الربع الأخير منه، قد شهد ظواهر لم تعرفها البشرية من قبل، فملايين اللاجئين من العالم الثالث كانوا يجوبون أوروبا بحثا عن ملجأ، وطال التطرف الأبرياء أكثر مما طال مؤسسات الدولة (ضرب مثلا على ذلك بالجزائر في التسعينات). وشهد الربع الأخير أيضا، وللمرة لأولى في التاريخ، حاكما استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه (صدام حسين)، وتفتت دول كبيرة إلى دويلات صغيرة (كان هوبزباوم، مثل ماركس تماما، لا يحبذ الكيانات الصغيرة)، كما شهدت أوروبا انفلاتا هائلا لقوى السوق، وتفاوتا اجتماعيا كبيرا، مما أدى إلى ضعف الإحساس بالمصالح والإرث المشتركين.

فقد العالم في القرن العشرين، في رؤية هوبزباوم، توازنه، وانزلق في التطرف وعدم الاستقرار بعد أن عرف فترة ذهبية بعد الحرب العالمية الثانية حتى منتصف السبعينات، حين حدثت تغييرات اقتصادية واجتماعية هائلة، فقد تسارعت وتائر النمو الاقتصادي، وخرج 80 في المائة من الجنس البشري من أنساق القرون الوسطى. ولكن التراكم السريع للثورة والمعرفة ترافق مع توزيع غير عادل لفوائد هذا النمو، وأدت دمقرطة المعرفة والمصادر (ومنها مصادر الأسلحة) إلى تركيزها في أيد خاصة، مما يهدد المؤسسات ذاتها التي خلقها العالم الرأسمالي.

يضاف إلى هذه العوامل، تدهور الأحزاب الجماهيرية المنظمة على أساس طبقي أو آيديولوجي أو كليهما، مما أدى إلى انتفاء العامل الاجتماعي الرئيسي في تحويل النساء والرجال إلى مواطنين فعالين سياسيا. أما على المستوى الثقافي، فكل شيء الآن هو «ما بعد»: ما بعد الماركسية، ما بعد الحداثة، ما بعد البنوية.. إلخ. ولكن ماذا بعد؟ لم يقدم هوبزباوم أي نظرة استشرافية للمستقبل، فليست هذه مهمته كمؤرخ. وأكثر من هذا، بدا وكأنه فقد إيمانه بمقولة ماركس الشهيرة التي ذكرها في نقده لطروحات فويرباخ، وهي أن «المهمة الرئيسية هي تغيير العالم بعدما اكتفى الفلاسفة بتفسيره». أصبح هوبزباوم، في سنوات القرن العشرين الأخيرة، أقرب إلى فويرباخ منه إلى ماركس بإعلانه أن المهمة الرئيسية ما تزال هي تفسير العالم أولا قبل أن نفكر بتغييره، خاصة في المرحلة الحالية، البالغة التعقيد والتشابك.

انطلاقا من هذه النقطة، يختلف هوبزباوم أيضا مع ماركس الذي قال مرة إن «البشرية لا تطرح على نفسها إلا المشكلات القادرة على حلها». فها هي البشرية تطرح على نفسها مشكلات عديدة تبدو عصية على الحل، كما تأسس واقع جديد أنتج قيمه الجديدة في سرعة عجيبة لم يكن مهيأ لها الذهن البشري. راقب هوبزباوم سقوط القيم القديمة، عبر الملاحظة والإصغاء، كما يقول، وخاصة تلك القيم التي ظل مرتبطا بها طوال حياته (انتمى للحزب الشيوعي وهو في السادسة عشرة)، لكنه كان يعزي نفسه بقوله إنه لولا وجود المجتمع الاشتراكي لما استمر النظام الرأسمالي في الحياة، فالتخطيط الاقتصادي، الذي أخذه الأخير من الاقتصاد الاشتراكي، هو الذي أنقذه من موت أكيد.

كتاب «عصر التطرف» - الذي يمكن اعتباره جزءا رابعا لثلاثيته الشهيرة عن القرن التاسع عشر: «عصر الثورة 1789-1848» الصادر في 1962، و«عصر الرأسمال» (1975)، و«عصر الإمبراطورية» (1987)- هو، كما كتبت عنه «نيويورك ريفيو أوف بوكس» عند صدوره عام 1994، أكثر كتب هوبزباوم حميمية وصدقا. إنه رثاء حزين لذلك القرن الذي «لم ينته بشكل جيد»: القرن العشرين. ولا بد أن هوبزباوم كان يقول لنفسه، كما كان هيغل يقول، إن التاريخ مارس مكره إلى أقصى درجة في ذلك القرن، لكنه لم يكتف بقول «آه»، على طريقة تي إس إليوت، وإنما ناضل فعلا وفكرا إلى آخر لحظة في حياته، من أجل فهم ذلك التاريخ، إن لم يكن من أجل تغييره.